إن لــلــوالــدَيـــن حـــقًّــــا عــلــيـــنـــا بــعــد حـــقِّ الإلـــهِ فــــي الاحــتِـــرامِ
أولــــدَانــــا وربَّـــيـــانــــا صِــــغـــــارًا فــاســتــحَــقَّــا نـــهـــايـــةَ الإكـــــــرامِ
إنهما بهجةُ الحياة وزينتُها، وأملُها الباسِمُ وقيمتُها، بأُنسِهما تتبدَّدُ الكُلوم،
وبعطفِهما تتقشَّعُ الغيوم، وبفَيضِ دُعائِهما المِحنُ أنَّى تدوم؟!
وفي مِشكاةِ النبُوَّة المُحمديَّة يأتي برُّ الوالدَين قرينًا للصلاة عمودِ الإسلام،
ومُتقدِّمًا على الجِهاد ذِروة سَنام الإسلام؛
في "الصحيحين" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:
سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:
( أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟
قال: الصلاةُ على وقتِها
قلتُ: ثم أيٌّ؟
قال: برُّ الوالدَين
قلتُ: ثم أيٌّ؟
قال: الجهادُ في سبيلِ الله ).
ففاقَ برُّ الوالدَين الجهادَ والدخولَ في معامِع القتالِ والجِلاد.
ويشهَدُ لذلك: ما في "الصحيحين" أيضًا
( أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم يستأذِنُه في الجِهاد،
فقال: أحيٌّ والدِاك؟
قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهِد )
لأن برَّهما يجمعُ من المحاسِن أرفعَها، ومن المحابِّ أنفعَها.
هـذان مـن لـيـس بـعـد اللهِ غـيـرُهـمــا يُـرجَـى رِضـاهُ ولا يُـعـصَـى بـبُـهـتـانِ
فــلا تـقُــل لـهـمــا قــولاً يـسُـوؤُهـمــا واخـفِـض جـنـاحَـكَ مـن ذُلٍّ وعِـرفـانِ
إخوة الإيمان:
لقد قرنَ الله - عز وجل - حقَّ الوالدَين بحقِّه - سبحانه -،
وما ذلك إلا لعِظَم حقِّهما، وكريمِ فضلِهما،
قال تعالى:
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }
[ النساء: 36 ]
وقال - سبحانه -:
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }
[ الإسراء: 23 ]
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
[ نزلت ثلاثُ آياتٍ مقروناتٌ بثلاث ..، وذكرَ منها:
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ .. }
إلى قوله - سبحانه -:
{ .. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }].
فمن لم يشكُر لوالدَيه لم يشكُر الله - عز وجل -.
[ ولقِيَ ابنُ عمر - رضي الله عنهما –
رجُلاً في المطاف يحمِلُ أمَّه على ظهرِه يطوفُ بها،
فقال: يا ابنَ عُمر! أتُرانِي جزيتُها؟
قال: ولا بزَفرةٍ واحِدةٍ ]
رواه البخاري في "الأدب المفرد".
تـحـرَّ بـرَّ الوالدين فـإنـه فــرضٌ عليك فـي ســـرٍّ وإعـــلانِ
أمة الإسلام:
وإن برَّ الوالدَين ليتأكَّدُ شهودُه، ويعظُمُ وُرودُه، وتتفقُ عن محض البرِّ وُرودُه
عند المرضِ والسَّقَم، ودواعِي الإدنافِ والهرَم؛
بل إنه يستمرُّ حتى بعد الوفاة؛ ابتِغاءَ نيلِ أعلى الدرجَات.
روى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي أُسيدٍ الساعديِّ
- رضي الله عنه - قال:
( قال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله !
هل بقِيَ من برِّ أبوَيَّ شيءٌ أبرُّهما بهِ بعد موتِهما؟
قال: نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما،
وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما )
وعن عبد الله بن دينارٍ، عن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما :
( أن رجُلاً من الأعرابِ لقِيَه بطريقِ مكَّة، فسلَّم عليه عبدُ الله بنُ عُمر،
وحملَه على حِمارٍ كان يركبُه، وأعطاهُ عِمامةً كانت على رأسِه.
فقال ابنُ دينارٍ: فقلنا له: أصلَحَك الله، إنهم الأعرابُ وإنهم يرضَون باليسير.
فقال عبدُ الله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعُمر بن الخطاب،
وإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
إن أبرَّ البرِّ: صِلةُ الولد أهلَ وُدِّ أبِيه )
رواه مسلم.
أمة البرِّ والإحسان:
إن برَّ الوالدَين حقٌّ أصيل، وفرضٌ أثِيل، لا معدَى عنه ولا تسويفَ ولا تسويل،
حقيقٌ في المسرَّات والمُلمَّات، وفي جميع مراحِل الحياة،
وإن عاتَبَاك لإصلاحِك استِنذارًا، فكم نحَلُوك صادِقَ الدعاءِ بالتوفيق سِرًّا وجِهارًا.
برُّهما واجبٌ، والإحسانُ إليهما مُتعيِّن
{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا }
[ لقمان: 15 ].
في "الصحيحين" عن أسماء - رضي الله عنها - قالت:
( قدِمَت عليَّ أمي وهي مُشرِكةٌ في عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم ،
فاستفتَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ:
إن أمي قدِمَت وهي راغِبَةٌ، أفأصِلُ أمِّي؟
قال: نعم، صِلِي أمَّكِ )
متفق عليه.
هذا في حالِ الشركِ؛ فكيف بما دُون ذلك؟!
إن جاهَـداكَ عـلـى شـركٍ فقل لهما خيرآ ولا طاعة تـأتــي بـعِـصـيــانِ
واطـلُـب مـن الله أن يـرأَف بحالهما وأن يــزيـــدَعطاءدُون نُــقــصــانِ
وأن يـقــودَ إلـى الإسـلام قـلـبَـهــمــا وأن يكافي في جُـودٍ وإحسانِ
ولنا في السَّلَفِ خيرُ مِثالٍ، وأحسنُ مقالٍ؛
فعن الزهريِّ - رحمه الله - قال:
[ كان الحسنُ بن عليٍّ لا يأكُلُ مع أمِّه، وكان أبرَّ الناس بأمِّه
فقيلَ له في ذلك، فقال: أخافُ أن آكُلَ معها، فتسبِقَ عينُها إلى شيءٍ من الطعامِ
وأنا لا أدرِي فآكُلُه، فأكونُ قد عققتُها ]
وهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يُبصِرُ رجُلَين،
فقال لأحدِهما: من هذا منك؟
فقال: إنه فلانٌ - أبي -،
فقال: لا تُسمِّه باسمِه، ولا تُنادِي أباكَ باسمِه.
فلا تقُل: يا فلان؛ بل تُسمِّه بصفتِه، فتقول: يا أبِي أو يا أبتَاه .
فاعتبرَ أبو هريرة - رضي الله عنه - هذا عقوقًا. وهذا من تمام الأدبِ والبرِّ.