عرض مشاركة واحدة
قديم 29-11-2013, 12:24 AM   رقم المشاركة : 2
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور



اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة


"جنازة بعد أخرى بالنسبة لك خلال هذه السنة"، قال، وقد مدّ يده وهو جالس على الأريكة ليصبّ البيرة في الكأس، وسأل: "كم بلغ عدد الجنازات التي حضرتها حتى الآن؟"
"خمس جنازات"، قلت فارداً أصابع يدي اليسرى، وأضفت: "لكني أظن أنها انتهت لهذا العام".
"هل أنت متأكّد من ذلك؟"
"لقد مات عدد كاف من الأصدقاء".
قال: "إنها مثل لعنة الأهرامات أو شيء من هذا القبيل"، وأضاف: "أذكر أني قرأت ذلك في مكان ما. تستمرّ اللعنة حتى يموت عدد كاف من الناس، وإلاّ يظهر نجم أحمر في السماء ويغطي ظلّ القمر الشمس".
بعد أن أجهزنا على ست علب من البيرة، بدأنا نحتسي الويسكي. تسلل ضوء الشمس الشتائي برقة إلى الغرفة.
قال: "تبدو مكتئباً بعض الشيء هذه الأيام".
سألته: "أتظن ذلك؟"
فأجاب: "لا بد أنك تفكّر كثيراً ببعض الأشياء في منتصف الليل. يجب ألا تفكّر بهذه الأمور في الليل".
"وكيف يمكنك أن تفعل ذلك؟"
"عندما يعتريني شعور بالاكتئاب، أشرع في تنظيف البيت، حتى لو كان ذلك في الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً. إذ أغسل الصحون، وأنظّف الموقد، وأكنس الأرض، وأبيّض مناشف تجفيف الصحون، وأنظم دروج منضدتي، وأكوي كلّ قميص تقع عيني عليه"، قال وهو يحرّك كأسه بإصبعه. "إني أفعل ذلك حتى أصبح منهكاً، ثم أتناول مشروباً وأنام. وفي الصباح أستيقظ وما أن أبدأ في ارتداء جوربي حتى لا أعود أتذكر ما كنت أفكّر به".

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

تلفّت حولي مرة أخرى. وكما هو الحال دائماً، كانت الغرفة نظيفة ومرتبة. "إن الناس يفكّرون بأشياء كثيرة في الساعة الثالثة صباحاً. كلنا نفعل ذلك. لذلك يجب على كلّ واحد منا أن يجد طريقة ليطرد هذه الأشياء من تفكيره".
"أظن أنك على حق"، قلت.
"حتى الحيوانات تفكّر بأشياء في الساعة الثالثة صباحاً"، قال وكأنه يتذكر شيئاً، "هل حدث أن ذهبت إلى حديقة الحيوانات في الساعة الثالثة صباحاً؟"
"لا" أجبت بغموض، "بالطبع لا".
"لقد فعلت ذلك مرّة واحدة فقط. لي صديق يعمل في حديقة الحيوانات، وقد طلبت منه أن يسمح لي بالدخول عندما يعمل في نوبة الليل. ليس من المطلوب أن تفعل ذلك"، هزّ كأسه وأضاف: "كانت تجربة غريبة. لا أستطيع أن أفسرها لك، لكني أحسست وكأن الأرض قد انشقت بسكون تام، وبدأ شيء يخرج منها زاحفاً. بدا أن هناك شيئاً غير مرئي يموج في الظلام. كان وكأن الليل البارد قد تخثّر. لم أتمكن من رؤيته، لكني شعرت به، وأحست به الحيوانات أيضاً. وهذا جعلني أفكّر بأن الأرض التي نمشي عليها تصل إلى باطن الأرض، وأدركت فجأة أن باطن الأرض قد امتص قدراً كبيراً من الزمن".
لم أقل شيئاً.
"على أي حال، لا أريد أن أذهب مرة أخرى إلى حديقة الحيوانات في منتصف الليل".
"هل تفضّل حدوث إعصار؟"
فقال: "نعم، اعطني إعصاراً كلّ يوم".
*

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

*
رن الهاتف فتوّجه إلى غرفة نومه ليرّد على المكالمة. كانت صديقته المستنسخة، ومكالمة هاتفية مستنسخة لانهائية أخرى. أردت أن أقول له إنه كان يوماً حافلاً، لكنه ظل يتكلم على الهاتف إلى الأبد. لم أعد أنتظره وفتحت التلفزيون. كان جهازاً ملوناً حجمه سبعة وعشرون بوصة وله جهاز تحكّم عن بعد، لا تكاد تلمسه حتى تتغير القناة. كان للتلفزيون ستة مكبرات صوت وصوت ضخم. لم أر في حياتي مثل هذا التلفزيون الرائع.
أجريت دورتين كاملتين على القنوات قبل أن أتوقف عند برنامج إخباري. اشتباك على الحدود، حريق، أسعار الصرف في ارتفاع وهبوط، قيود جديدة على استيراد السيارات، مباريات السباحة الشتوية في الهواء الطلق، انتحار أسرة. بدا لي أن جميع هذه الأخبار يرتبط أحدها بالآخر بطريقة ما، تماماً مثل الأشخاص في صورة تخّرج في الثانوية.
"هل توجد أخبار مثيرة للاهتمام؟" سأل صديقي عندما عاد إلى الغرفة.
"ليس في الواقع"، قلت.
"هل تشاهد التلفزيون كثيراً؟"
هززت رأسي وقلت: "لا يوجد عندي تلفزيون".
"على الأقل هناك شيء جيد في التلفزيون"، قال بعد فترة صمت، ثم أضاف: "تستطيع أن تغلقه عندما تشاء. ولا أحد يتذمر من ذلك".
ضغط زرّ الإطفاء في جهاز التحكم. وعلى الفور أصبحت الشاشة سوداء. لكن الغرفة ظلت مضيئة. أما في خارج النافذة، فقد بدأت الأضواء تنير في البنايات الأخرى.
لبثنا جالسين هكذا قرابة خمس دقائق، نحتسي الويسكي، ولا يوجد شيء نتحدث عنه. رّن الهاتف مرة أخرى، لكنه تظاهر بأنه لم يسمعه. وما أن توقّف الهاتف عن الرنين، حتى ضغط على زرّ جهاز التحكم فعادت الصورة في الحال، وظهر على الشاشة مذيع يقف أمام رسم بياني ويحمل بيده مؤشراً يشرح بواسطته التغيرات التي طرأت على أسعار النفط.
"أترى؟ حتى أنه لم يلاحظ أننا أطفأناه لمدة خمس دقائق".
"صحيح"، قلت.
" لماذا في رأيك؟"

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

كان التفكير بهذا الأمر مشكلة كبيرة بالنسبة لي، لذلك هززت رأسي وقلت: "عندما تطفئه، يتوقف أحد الجانبين عن الوجود. إنه هو أو نحن. ما أن تضغط على الزر حتى يصبح هناك تعتيم على الاتصالات. إنه أمر سهل"، وأضفت: "هناك طريقة واحدة في التفكير في الأمر".
"هناك ملايين الطرق في التفكير. ففي الهند يزرعون أشجار جوز الهند. وفي الأرجنتين تمطر السماء سجناء سياسيين من الطائرات المروحية". أطفأ التلفزيون مرة أخرى، وقال: "لا أريد أن أقول شيئاً عن الشعوب الأخرى. لكن فكّر في أنه توجد طرق للموت لا تنتهي بالجنازات. أنواع من الموت لا تستطيع أن تشمها".
أومأت بصمت. خيّل إليّ أني فهمت ما يرمي إليه. وفي الوقت نفسه، شعرت بأني لم أعرف ما يقصده تماماً. كنت متعباً ومشوّشاً بعض الشيء. جلست هناك أعبث بإحدى أوراق النباتات الخضراء.
قال بحماس: "يوجد لديّ قليل من الشمبانيا التي كنت قد أحضرتها عندما كنت في رحلة عمل إلى فرنسا منذ فترة. لا أعرف الكثير عن الشمبانيا، لكن من المفترض أنها ممتازة. هل تريد قليلاً منها؟ قد تكون بحاجة إلى قليل من الشمبانيا بعد حضورك سلسلة الجنازات تلك".
أخرج زجاجة الشمبانيا المبرّدة وكأسين نظيفين ووضعهما بهدوء على الطاولة، ثم ابتسم بخبث وقال: " كما تعرف فإن الشمبانيا عديمة الفائدة تماماً"، وأضاف قائلاً: الشيء الجيد الوحيد فيها هو عندما تطلق الفلينة صوت فرقعة".

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

"لا أستطيع أن أجادلك في هذا الأمر"، قلت.
فتحنا الزجاجة وفرقعت الفلينة، وتحدثنا قليلاً عن حديقة الحيوانات في باريس والحيوانات الموجودة هناك. كانت الشمبانيا رائعة.
* *
حضرت حفلة رأس السنة التي يقيمونها سنوياً في عشية السنة الجديدة في إحدى الحانات في منطقة روبونغي التي تُستأجر خصيصاً لهذه المناسبة. وكان هناك عزف ثلاثي على البيانو، والكثير من الطعام اللذيذ والشراب الجيد، وصادفت شخصاً أعرفه، ورحنا نتجاذب أطراف الحديث قليلاً. كان عملي يقتضي أن أحضر كلّ سنة. لم أكن أحبّ الحفلات، لكنني حضرت هذه الحفلة لأنه لم يكن لديّ شيء أفعله عشيّة رأس السنة الجديدة، وكان بإمكاني أن أقف هناك وحيداً في الركن، مسترخياً، أشرب، وأستمتع بالموسيقى. لا أشخاص مقيتين، ولا حاجة لأن أتعرف على غرباء وأنصت إليهم وهم يتشدقون لنصف ساعة عن كيف أن طعام النباتيين يشفي من مرض السرطان.
لكن في مساء ذلك اليوم عرّفني أحدهم على امرأة. وبعد حديث عادي، حاولت أن أنكفئ وأعود إلى زاويتي ثانية. لكن المرأة تبعتني إلى مقعدي، وكأس الويسكي في يدها.
"لقد طلبت أن أتعرف عليك"، قالت برقة.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة







التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس