السبب في طول الأمل:
إنَّ طولَ الأمل له سببان: أحدهما: الجهل، والآخر: حبُّ الدنيا؛ أمَّا حبُّ الدنيا فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكلُّ مَنْ كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده، وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا، فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه، ويقدر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودواب وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر موقوفاً عليه، فيلهو عن ذكر الموت فلا يقدر قربه، فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له سوَّف ووعد نفسه وقال الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر فيقول إلى أن تصير شيخاً، فإذا صار شيخاً قال إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار وعمارة هذه الضيعة أو ترجع من هذه السفرة أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له، أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك،
فلا يزال يسوف ويؤخر ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخر وهكذا على التدريج يؤخر يوما بعد يوم ويفضى به شغل إلى شغل بل إلى أشغال إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته، وأكثر أهل النار وصياحهم من سوف يقولون واحزناه من سوف، والمسوف المسكين لا يدرى أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غداً، وإنما يزداد بطول المدة قوة ورسوخاً ويظن أنه يتصور أن يكون للخائض في الدنيا والحافظ لها فراغ قط، وهيهات فما يفرغ منها إلا مَنِ اطَّرَحَها.
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلا إِلَى أَرَبِ
وأصلُ هذه الأماني كلها: حبُّ الدنيا والأُنْس بها).
الأخلاق الحسنة:
(الخلق الحسن صفة سيد المرسلين، وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين، وثمرة مجاهدة المتقين، ورياضة المتعبدين، والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة، كما أنَّ الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس، إلا أنه مرض يفوت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد، ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وإهمالها هو المراد بقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}).
أمهات الأخلاق وأصولها:
(أمهات الأخلاق وأصولها: أربعة، الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، ونعني بالحكمة: حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية.
ونعني بالعدل: حالة للنفس وقوة بها تسوس الغضب والشهوة، وتحملهما على مقتضى الحكمة، وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها.
ونعني بالشجاعة: كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها.
ونعني بالعفة: تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.
فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها؛ إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير، وجودة الذهن وثقابة الرأي، وإصابة الظن، والتفطن لدقائق الأعمال، وخفايا آفات النفوس، ومن إفراطها تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء.
ومن تفريطها يصدر البله والغمارة، والحمق والجنون، وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل، فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء، والفرق بين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطريق فاسد، فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار، فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً.
وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة، وكسر النفس والاحتمال والحلم، والثبات وكظم الغيظ، والوقار والتودد، وأمثالها وهي أخلاق محمودة.
وأما إفراطها وهو التهور، فيصدر منه الصلف والبذخ، والاستشاطة والتكبر والعجب، وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة، والجزع والخساسة وصغر النفس، والانقباض عن تناول الحق الواجب.
وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء، والصبر والمسامحة، والقناعة والورع، واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع، وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره، والوقاحة والخبث، والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة، والعبث والملق والحسد والشماتة، والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك.
فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل والباقي فروعها، ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه، فكلُّ من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
طبيعة النفس:
(إذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه، بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة، فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته، فهو كالميل إلى الطعام والشراب، فإنه مقتضى طبع القلب، فإنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه.
وإنما غذاء القلب: الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل، ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به، كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب، وهما سببان لحياتها، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معيناً له على حبِّ الله تعالى وعلى دينه، فعند ذلك لا يدل ذلك على المرض).
غاية العبادات:
(إن غاية العبادات وثمرة المعاملات أن يموت الإنسان محباً لله عارفاً بالله، ولا محبة إلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر، ولا معرفة إلا بدوام الفكر، وفراغ القلب شرط في كل واحد منهما، ولا فراغ مع المخالطة).
(المقصود من العلوم والأعمال كلها: معرفة الله تعالى، حتى تثمر المعرفة المحبة، فإنَّ المصيرَ إليه، والقدوم بالموت عليه، ومَنْ قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبَّته، ومَنْ فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه.
فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت: حب الأهل والولد، والمال والمسكن والعقار، والرفقاء والأصحاب، فهذا رجلٌ محابُّه كلُّها في الدنيا، فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب، فموتُهُ خروجٌ من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه.
فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى، وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه، والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب، فالدنيا إذن سجنه؛ لأنَّ السجنَ عبارةٌ عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابِّه، فموته قوم على محبوبه وخلاص من السجن، ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر، فهذا أول ما يلقاه كلُّ مَنْ فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب، فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر، وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها، من الأنكال والسلاسل والأغلال، وضروب الخزى والنكال، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين).
رحمك الله أيُّها الإمام، فقد أيقظتنا بعد غفلة، وذكرتنا بعد نسيان، وجدَّدت فينا من معاني العلم والإيمان، جمعنا الله جميعاً في أعلى الجنان.
لقد رحلت من هذه الدار وكأنك لا تزال فيها تعظنا وتعلمنا، تحيي فينا ذكر الآخرة ونعيمها، وتميت فينا الحرص على الدنيا وزينتها، تذكرنا بحقيقة الدنيا وقرب فنائها، وترغبنا بثواب الآخرة ودوام نعيمها، {وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
لقد علمتنا بفعلك قبل قولك كيف يكون الزهد في الدنيا، عندما تركت التدريس في المدرسة النظامية بعد أن كانت شهرتك ومنزلتك قد طبقت الآفاق، فاعتزلت الناس حتى استقامت نفسك وطهر قلبك من حب الجاه والرفعة والمنزلة بين الناس، وامتلأ قلبك من حبِّ الله والرغبة في ثوابه وإخلاص العمل له سبحانه، فعدت إلى التدريس بعد أن تخلَّيتَ من الصفات المذمومة وتحلَّيتَ بأحسن الصفات، أدخلنا الله جميعاً في رحمته.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ.
-------------------------------
([1]) ـ يقال: اسْتُهْتِرَ بأَمر كذا وكذا، أَي: أُولِعَ به لا يتحدّثُ بغيره ولا يفعلُ غيرَه. لسان العرب (هتر).