ثانيًا: العمل التطوعي:
وفي موقفه من العمل التطوعي وإفرازات أحداث الحادي عشر من سبتمبر تراه بعينه الباصرة ورؤيته الثاقبة يقرر أن من أهم آثار «أن يكون البذل التطوعي مكوِّنًا مهمًا من مكوِّنات شخصيَّة المسلم» أن الحضارة الإسلامية قامت على أساس «البذل التطوعي» وقد أكْسَبَها ذلك خصائصها التي انفردت بها عن الحضارات الأخرى ومن أهمها:
أ- أنّها حضارة شعبية بمعنى أنّها ليست كغيرها من الحضارات من صنع الأباطرة والملوك أو القوى العسكريَّة والسياسيَّة وإنما كانت تقوم كلية -تقريبًا- على «البذل التطوعي» من جمهور المسلمين.
ب- أنّها حضارة إِنسانيَّة لأن الدافع لمنجزاتها دائمًا قصد البر والتَّقوى سواء في مواجهة الإِنسان أو الحيوان أو البيئة.
ج- أنّها نتيجة للأمرين كانت دائمًا تستعصي على الظروف المتغيّرة من أن تكون عاملاً لانهيارها، فالتقلُّبات السياسيَّة، والحروب واكتساح الغزاة للعالم الإسلامي من الصليبين والتتار، هذه العوامل لم يترتَّب عليها انهيار الحضارة، بل ظلَّت باقية مستمرة العطاء.
في عقيدة المسلم، أن أيّ جهد يبذل للنفع العام مع الإخلاص هو في سبيل الله، وأن الصد عن سبيل الله بأيِّ وجه يستحقُّ ما وصفه الله به في القرآن، وتوعد عليه، ففي سورتي الفجر والماعون نعى على من لا يحض ّ على طعام المسكين فكيف بمن يعوق إطعامه، لقد أوضح القرآن الكريم أن منع الإِنسان من العبادة الخاصَّة النَّفع به من أشنع الظلم، فكيف بمنع العبادة التي يتعدى نفعها إلى الغير. وعندما يغفل أهل البلد عن هذا الجانب فلا يقدر قدره، فقد يغفلون أيضًا عن آثار هذا الوضع المدمر على أمن المجتمع واستقراره وسلامته، ليس الأمر قاصرًا على تعويق مواجهة الحاجات الأساسيَّة للبشر من طعام وغذاء وإيواء وتعليم وتهيئة للعيش الكريم، بل حرمان النَّاس -ولا سيما شبابهم- الذين تملأ قلوبهم ومخيلاتهم الأشواق إلى المثل العليا والإرضاء النفسي بالبذل للغير، حرمانهم من المجالات النَّافعة السَّلِيمَة فيدفعهم الإحساس بالفراغ Existential Vacuum والحرمان من البذل للغير والحاجة النفسية الملحة لمثله إلى مجالات قد لا تكون نافعة ولا سليمة.
مغزى ما تقدم أن البذل التطوعي في سبيل النَّفع العام في جانب الإِنسان المسلم ليس فقط وسيلة للإرضاء النفسي ومِنْ ثمَّ تلبية لحاجة طبيعيَّة للإِنسان السوي، بل هو عبادة وشوق على رضا الله وتلبية لنداء ملح من الضَّمير والوجدان.
هذا يعني أن أيّ تحديد لفرصة الإِنسان المسلم في ممارسة البذل التطوعي للنفع العام لن يكون فقط مُجرَّد انتهاك للحرِّية الشخصيَّة والمدنية، بل انتهاك لحق الإِنسان في حرية العبادة وحرية الضمير.
المقصود من إيراد ما سبق هو التقييم الصحيح لجهود الغرب الجادة في تحجيم البذل التطوعي في العالم الإسلامي ومن أبرز مظاهر ذلك جهوده في تحجيم النَّشاط الخيري لبلدان الخليج في الخارج، ونشاط الغرب الدعائي المحموم في هذا المجال:
أ- فور غياب «الشيوعية» عدو الرأسماليَّة «الأحمر» رشح الغرب «الإسلام» عدوًا بديلاً وسماه العدو الأخضر (كان أول تصريح معلن بذلك الترشيح قد صدر عن الأمين العام لحلف الأطلسي) ومنذ ذلك الوقت بدأت التهيئة لحرب باردة بديلة «الرأسماليَّة الغربيَّة» في مواجهة «الإسلام» وبرز من وقت مبكر من مظاهر هذه الحرب قرن الإسلام بـ»الأصولية» و»العنف» ففي النصف الأول من العقد الأخير للقرن المنصرم كانت أوروبا كلّّها تشاهد فيلم «الإرهاب في سبيل الله» وكانت أمريكا تشاهد الفيلم الوثائقي «الجهاد في أمريكا».
ب- ومن الحقائق أن التَّخْطِيط الغربي الذي كانت إجراءاته تنشط على قدم وساق لتنصير مجتمعات إسلاميَّة معينة، قد واجه معوقًا جديًّا لانتشار التنصير من قبل بعض المؤسسات الخيريَّة الخليجيَّة، فكان من الطّبيعي أن تتصدى القوى الامبريالية لإضعاف هذا المعوق أو إزالته.