عرض مشاركة واحدة
قديم 11-06-2013, 02:39 AM   رقم المشاركة : 237
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

ولطالما.. روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها..!


حدَّث سهم بن كنانة قال :
ثارت عليَّ أشجاني، وعناني منها ما عناني، فقررت الخروج من الديارْ، وزيارة الرسوم والآثارْ، فلما أشرفتُ على طللْ، تولى عني المللْ، وطفقتُ أتفكرُ في مصائر الأممْ، وكيف جرى بهلاكها القلمْ، كم من مصرٍّ على ذنبه، مات ولم يتبْ إلى ربه، وكم من دولةٍ انهارتْ، وامبراطورية توراتْ، وكم من شديدٍ كَلْ، ومن عزيزٍ ذلْ، ومن مستبدٍّ هوى، ومن عاشقٍ برّح به النوى، وكم من ناظمٍ قصائدَ الغزلْ، في بدرٍ غاب أو نجمٍ أفلْ.

قال سهم بن كنانة: وبينا أنا سارحٌ بأفكاري، مستشرفاً ما سيرى الناس من آثاري، إذ أقبل عليَّ رجلٌ مهيبُ الخلقة، ذو ملامحَ طلْقة، كأنه شيخٌ في حلْقة، فوقف إلى جانبي وأخذ يحدّق ببصره، فدفعني الفضول إلى استقصاء خبره، وقد هالني ما هو عليه من حسن السمْتْ، وطول الصمتْ، لا ترى فيه من عوجٍ ولا أمْتْ. ولم يطل انتظاري، إذ أخرج من جيبه لفافة تبغ، فدهسها بقدميه وهو يقول: ذلك ما كنا نبغ! فسألته عن القصة، فقال: بل هي الغصة، ولكنها مليئة بالعبرْ، والعقبى والله لمن صبرْ. قلت: قد أسلمتك قيادي، وأصغى إليك فؤادي، والسعيد من تدارك الغفلة، واتعظ بمن قبله.

قال سهم بن كنانة: وتنهد الرجل تنهد الثكلى، وقال: هذه الدنيا من دون التدخين أحلى، لو تعلم كيف امتُحنتُ به في شبابي، فأتلف مالي وثيابي، بل مزق عقلي وإهابي، حتى عافني أهلي وأصحابي .قلت: كيف أفسدتْ بالك، سيجارةٌ لا أبا لك؟ قال: ابتُليتُ بقومٍ ذوي جهلْ، قاطعين للرحم والأهلْ، لا يعرفون للدين حدودا، ولا للمودة عهودا، يقضون اليوم في اللهو، ويحيون الليل باللغو، ويتعاطون أثناء ذلك مئات «السجائرْ»، ويقدمونها لكل زائرْ، حتى إذا بقيَ ثُلُثُ الليل الآخرْ، وورمت الشفاهُ والمناخر، نادوا بـ «الشيَشِ» والمباخرْ، وهم بين ضاحكٍ وساخرْ، وأمسوا يعبّون دخانَها، وينفثون أنتانَها، ولو أنك اطلعتَ عليهم في ذلك المكانْ، الذي أثَّرتْ فيه سُحُبُ الدخانْ، وشممتَ تلك الرائحة، وأبصرت تلك الوجوهَ الكالحة، لرأيتَ منظراً تَحاُر فيه العينْ، ويطربُ له غرابُ البينْ .قلت: كيف استوحلتَ في هذا الوحلْ، واستعضتَ عن الشهدِ بإبَرِ النحلْ؟

قال: الرفقة يابن أخي..الرفقة. لقد كنت أعجب من أهل السجائرْ، وأراهم عُميَ البصائرْ، حتى أغراني قوم بالسيجارة الأولى، فأصبحت بحبِّ الدخانِ مشغولا، وكنتُ كلما جادلتُهم في أمرِه، ساعياً إلى كشفِ سترِه، صاحوا بي: إنه سمْتُ العباقرة، ودأبُ الأباطرة، وبريدُ الإنجازْ، ودليلُ الإعجازْ، وكلما حدثتُهم عن أسقامِه، مؤكداً أسباب اتهامِه، هتفوا بي: بل هو سُّر الرشاقة، وسحرُ الأناقة، وإكسيرُ الرجولة، ووَقودُ الفحولة، وهكذا غدت السيجارة خير جليسْ، والفضل في ذلك لجنود إبليسْ.

قال سهم بن كنانة: وشعرت أن الرجلَ صالحُ النشأة، لكنه انغمس في تلك الحمأة، ورُبَّ صالحٍ زلَّتْ به القدمْ، ومذنبٍ بادر إلى التوبةِ والندمْ، فقلت له: ألم تحاول إنقاذ نفسِك، والتحرر من قيودِ حبسِك؟ قال: لو فعلتُ لأصبحتُ بين أصدقائي كالغريبْ، ونظروا إليَّ نظر المستريبْ، وربما سمَّوني «المطوّعَ» و»الأديبْ»، فعاد أمري إلى الذلة، وطواني كهفُ العزلة، لقد نالني من أذى القومْ، فصرت أدخن أربعين سيجارة في اليومْ، تنقص ولا تزيدْ، وتشتعلُ حتى تبيدْ، وكنت كلما نابني خطبْ، أو مسَّني كربْ، فزعتُ إلى السيجارة، ولثمتها بحرارة، ثم عصرت في صدري تبغها «العريقْ»، وأنا أنتفض انتفاض الغريقْ، فإذا فرغت من التمتع برحيقها، والتلذذ بحريقها، اطفأتها أو دهستها، ولسان حالي يردد قول ديك الجن :

روّيتُ من دمِها الثرى ولطالما.. روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها!

تباً لي! كيف استمرأت ذلك العبثْ، واستسغت ذلك الخَبَثْ، لقد كنت أعجب من عبادة الأصنامْ، والانقياد للخزعبلاتِ والأوهامْ، حتى رأيت صاحبَ الدخانْ، يقدسُ لفافة أنتانْ، يالله وللنهى، وسبحان من له المنتهى، كيف يُهلك المرء نفسَه، ويحفر بيديه رَمْسَه، كيف يتهافت على البوارْ، تهافتَ الفراشِ على النارْ، كيف يدمي رئتيه، ويشوي شفتيه، ويلوث أسنانه، وينفّر أقرانه، فيصبح كنافخ الكيرْ، لا حامل المسك والعبيرْ؟ أما نظرت إلى إهابه، ومراتب سيارته وثيابه، أتت عليها الخروقْ، وانتشرت فيها الحروقْ، أما نظرت إلى حيائه كيف قلْ، ووقاره كيف اختلْ، وهو يرمي أعقاب السجائر أينما حلْ؟ لقد استبدت بي الغفلة، فكنت كمن فقد عقله، أنفق في التدخين حُرَّ مالي، وأمثل أسوأ قدوةٍ لعيالي، ووصل بي الإدمان إلى انتفاض يدَيْ، واصطكاك ساقَيْ، وضمور وجنتَيْ، وكان بعض الفضلاء يفرُّ مني، أو تؤذيه رائحتي فيصد عني، وشعرتُ أني في ضياعْ، وصرت كالبضاعة التي لا تباعْ، بل تحولت إلى حرف امتناعْ، وضعفت قدرتي على الجماعْ، وكدت أختفي من نحولْ، ولم يبق مني إلا طلولْ .






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس