لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا بأعراضها الزهيدة، واهتماماتها الصغيرة، زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها، ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها، ولا يعرفون قيمًا أخرى غير قيمها. والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة، إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها، لا لأنه أصغر منها همّة، أو أضعف منها طاقة، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها، ولكن لأنه ينظر إليها من عَلٍ مع قيامه بالخلافة فيها، وإنشائه للعمران والحضارة وعنايته بالنماء والإكثار، فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى، ينشد منها أن يقر في الأرض منهجًا، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس؛ ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف، وضخامة الاهتمام، وشمول النظرة.
وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض المُسْتَعْبَدُونَ لأهداف الأرض، ينظرون للذين آمنوا فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم ومتاعهم الزهيد، ليحاولوا آمالًا كبارًا لا تخصهم وحدهم ولكن تخص البشرية كلها، ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم، ويرونهم يعانون فيها المشقات، ويقاسون فيها المتاعب، ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة، وأعلى أهدافها المرموقة.
ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا في هذه الحال، فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا؛ عندئذ يسخرون منهم يسخرون من حالهم، ويسخرون من تصوراتهم ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه:{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان.. إنه ميزان الأرض، ميزان الكفر، ميزان الجاهلية، أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه، والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه:
{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
هذا هو ميزان الحق في يد الله، فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان، وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء، وسخرية الساخرين، وقيم الكافرين.. إنهم فوقهم يوم القيامة، فوقهم عند الحساب الختامي الأخير، فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين، والله يدخر لهم ما هو خير وما هو أوسع من الرزق، يهبهم إياه حيث يختار، في الدنيا، أو في الآخرة، أو في الدارين، وفق ما يرى أنه لهم خير،{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا؛ لحكمة منه، وليس لهم فيما أعطوا فضل، وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا، أو في الآخرة، فالعطاء كله من عنده، واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى .
وستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من الناس:
تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله; فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة، وأعراض الأرض، واهتمامات الصغار، وبذلك يحققون إنسانيتهم، ويصبحون سادة للحياة لا عبيدًا للحياة.
كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر الذين زينت لهم الحياة الدنيا، واستعبدتهم أعراضها وقيمها، وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون.
وسيظل المؤمنون ينظرون من عَلٍ إلى أولئك الهابطين، مهما أوتوا من المتاع والأعراض على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون، وأن المؤمنين هم المحرومون، فيشفقون عليهم تارة، ويسخرون منهم تارة، وهم أحق بالرثاء والإشفاق.
الدرس الرابع: الإبتلاء والمحن سنة الدعوات:
هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين، الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات، يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا لها أهلا:
أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم، وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر، وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة، حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم؛ لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة، استحقوا نصر الله؛ لأنهم يومئذ أمناء على دين الله، مأمونون على ما ائتمنوا عليه، صالحون لصيانته والذود عنه، واستحقوا الجنة؛ لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف، وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة، أو على الدعة والرخاء، فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وأرفع ما تكون عن عالم الطين {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
[214]}[سورة البقرة].
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم، وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه، من الرسول الموصول بالله والمؤمنين الذين آمنوا بالله ،إن سؤالهم متى نصر الله ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: متى نصر الله؟
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله:{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. إنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله وعندما يشاء الله .
وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله، بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها بعد الجهاد والامتحان والصبر والثبات، والتجرد لله وحده والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه، وكل من سواه.. إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ويرفعها على ذواتها ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع وكما يقع في كل قضية حق يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين.
على أنه حتى إذا لم يقع هذا يقع ما هو أعظم منه في حقيقته.. يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة والحرص على الحياة نفسها في النهاية، وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرجح جميع الآلام، وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته، وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق.. هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل.. هذا هو الطريق: إيمان وجهاد، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر.. ثم يجيء النعيم.
من كتاب:’في ظلال القرآن’ للأستاذ/ سيد قطب رحمه الله