• استفد من وقتك ولو ضاق بك الزمن:
يتحدَّث الإمامُ ابنُ الجَوزيِّ - رحمه الله - في كتابه الجميل "صَيْد الخاطر" بأنَّ هناك زُوَّارًا ثُقلاءَ كانوا يأتونه بكثرةٍ، ولم يستطعْ أنْ يُخرجَهم مِن بيته، فكان يُقطِّع الورق في ذاك الوقتِ الذي يأتيه فيه أولئك الثُّقلاء، ويَبري الأقلامَ، حتَّى إذا خرج الزُّوَّار شرع في التَّصنيف والتَّأليف، والكِتابة بأقلامِه بتلك الأوراق التي قطَّعها، فيكون قد استغلَّ وقتَه بما ينفعه فيما بعدُ.
وكان العلاَّمة الفقيه ابنُ عثيمين - رحمه الله - يشرح لتلاميذه وطُلاَّبه بعضَ المتون العِلميَّة، وهو يمشي مِن بيته لمسجده الذي يَؤمُّه، حيث كان بينَ المسجد وبين بيتِه مُدَّة عشر دقائق، فكان يَستغلُّ هذا الوقتَ في شروح بعض المتون العلميَّة المختصرة، وأنجز شرحَ عددٍ مِن المتون في ذلك.
وقد عبَّر (أوتو شميدث) - وهو عالم جيوفيزيائي - عن تَجرِبته مع إدارة الوقت بالأرقام، حيثُ كان يملأُ كلَّ خلايا اليوم المُخصَّصة للنَّشاط بالعمل والإنتاج، ومع ذلك كان يشعر أنَّها لا تكفي لتحقيق حُلمه المستقبليِّ، ممَّا اضطره إلى تقليص عددِ ساعات نومه إلى ( 5 - 6) ساعات، ومن خلال العمل الدَّؤوب، وإدارة الوقت بدقةٍ أصبح عالِمًا كبيرًا، ووصل إلى العديدِ مِنَ الاكتشافات العِلميَّة الهامَّة!
إنَّ مِن أعجب الأحاديث التي رأيتُها زرعًا لرُوح الفَأْل الحسن، وضرورة الاهتمام بالوقت، وديمومة العمل، ولو لم ننظرْ لنتيجته: ما يقوله رسولُ الهُدَى - صلَّى الله عليه وسلَّم – ((إذا قامتِ السَّاعةُ وفي يَدِ أَحدِكم فَسيلةٌ، فَلْيغَرِسْها))؛ أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، برقم: (479)، وأحمد في "المسند": (3/ 184)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم: (1424)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسنادُه صحيحٌ على شرط مسلم.
والفسيلة هي: "النخلة الصغيرة، تقطع من الأُمِّ، أو تقلع من الأرض فتغرس، وجزء من النَّبات يُفصل عنه ويُغرس"؛ [المعجم الوسيط: 2/689].
إنَّ مَن تدبَّر هذا الحديثَ فسيخرج منه بفوائدَ شتَّى، مِن أَولاها ذِكرًا وشاهدًا على مقالنا: أن يعلم المرء بأنَّه لو كانتِ القيامةُ قد قامتْ، وساعة الحشر قد أَزِفت، ومع هذا كلِّه فإنْ كانت في يدِ أحدِنا فسيلةٌ من زرعٍ، فلْيضعْها ويغرسْها؛ وذلك قطعًا لرُوح التَّواني والكسل، ودفعًا للنَّفس إلى العمل وتَرْك التَّسويف، واهتمامًا باستغلال وقتنا بالنَّافع المفيد.
وسِرُّ الاهتمام بالوقت أنَّ له عدَّةَ خصائصَ؛ منها: سرعةُ انقضائه، وأنَّ ما مضى منه لا يفوتُ، وأنَّ الوقتَ أثمنُ ما لدى الإنسان، فالمسلمُ إذًا لا يَعرِف الفَراغ؛ لأنَّ الوقت أغلى مِن الذَّهب، فهو الحياةُ بكاملها، والمسلمُ حين يَنتهي مِن شُغلٍ معيَّنٍ يَشرَع في شُغلٍ آخرَ، ويَذبح الفراغ بسِكِّينِ العمل، ولهذا كان سَلفُنا الصَّالح يُولُون الوقتَ عنايةً خاصَّةً، فها هو الحسنُ البصريُّ - عليه رحمة الله - يقول: "لقد أدركتُ أقوامًا كانوا أشدَّ حِرصًا على أوقاتهم مِن حِرصِكم على دراهمكم ودنانيركم"، وَوُصف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنَّه لا فراغ لديه في وقته؛ كما تقول عائشة - رضي الله عنها -: "ولا رئي قطُّ فارغاً في بيته"؛ "صفة الصفوة" (1/200).
ولكنَّ الوقتَ الآنَ - وللأسف - صار عبئًا على كثيرٍ من النَّاس، وصار كثيرٌ منهم يقول لصاحبه: "تعالَ نُضيِّعْ وقَتنا"، أو أن يقول بعضُهم: "صارت أوقاتُنا روتينًا قاتلاً"، إلى غير ذلك مِنَ الكلمات التي تَدلُّ على رخص الوقت عندَ هؤلاء، الذين لم يَعرفوا قدرَ أوقاتهم، ولم يَعلموا أنَّه: مِن علامةِ المَقت، إضاعةُ الوقت، ورحم الله الإمامَ ابنَ هُبَيرةَ حين قال:
وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ
لقد أُصيبَ كثيرٌ من أبناءِ وبناتِ المسلمين بنَوعيةٍ عجيبةٍ مِن الانتحارِ الجماعيِّ، عن طريقِ هَدرِ الأوقات في الأُمورِ الفارغة، مما أدَّى بهم إلى أن ينشغلوا بالتَّوافِه، أو الأمور المُحرَّمة، "وإذا لم تَشغلْ نفسكَ بالحقِّ شغلتْكَ بالباطل"؛ كما قال الإمام الشَّافعيُّ - رحمه الله.
وهنالك بعضُ مَن كَبِرَ بهم السِّنُّ وشاخوا، ليس لهم قضاء وقت إلاَّ بتذكُّرِ الهمِّ والغمِّ، مع أنَّ بإمكانهم أن يَستغلُّوا أوقاتَهم بما يُفيد ويَنفع؛ بعملِ الخير، وإرشادِ النَّاس، بنقلِ تَجارِبهم التي عاشوها للأجيال القادمة، بأن يَكتُبوا ويُدوِّنوا ذِكرياتِهم في مُذكِّرات يَتناقلُها الورثةُ ويستفيدون منها.
المهمُّ أن يفعلوا الشيءَ الذي يُجدِّد في أنفسهم عواملَ القُوَّةِ والعزيمة، ويُذيبوا عواملَ الوَهن والضَّعف، فما يقتل الإنسانَ أحيانًا إلاَّ طريقةُ تفكيره؛ ولهذا قيل: "حياتُكَ مِن صُنع أَفكارِكَ".
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ للَّرَأْسِ شَاعِلُ
تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلاَئِلُ
فالفَطِنُ إذًا يَستغلُّ وقتَه، ويَعلمُ حقيقةَ ما خُلق له، والخاسِرُ مَن يَتهاون به، ويشغل نفسَه بالحرام والباطل، وقد نُقِل عن أَحدِ العُلماء أنَّه قال: "مَن أَمضى يومًا مِن عُمُرِه في غيرِ حَقٍّ قَضَاه، أو فَرْضٍ أدَّاه، أو مَجْدٍ أثَّله، أو حَمدٍ حصَّله، أو خَيرٍ أسَّسه، أو عِلمٍ اقتبسَه - فقد عَقَّ يومَه، وظَلم نَفسَه".
وقال عبدُالله بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه: "ما ندمتُ على شيءٍ نَدمي على يَومٍ غَرَبَتْ فيه شَمسُهُ، نَقص مِن أَجلي، ولم يَزدَدْ فيه عَملي".
• وفي الختام:
فإنَّ مَن نَظَّم وقتَه، وأحسن استغلالَ ساعاتِه وأوقاتِه، سيَشعرُ بالسَّعادة التي هي أَملُ كلِّ فردٍ في هذه الحياة، وسيكونُ الحُزنُ والاكتئابُ بعيدًا عن مَرْمى حياته، فهو مشغولٌ بوقته، مشغولٌ بأداءِ مَهمَّاتِه، وسيُدركُ أنَّه حينَ أحسن التَّعامُل مع مُرورِ عقارب السَّاعة في تنظيم وقتِه عدَّةَ فوائدَ؛ منها: إرضاءُ الله - عزَّ وجلَّ - والرِّضا عنِ النَّفس، وقلَّة تأنيب الضَّمير، ورؤيةُ ثمرة عملِه، واجتنابُه للأخطاءِ التي لو لم يُنظِّم وقتَه لكان قد وقع فيها، وسَيَلحظ النَّتائجَ الجميلةَ التي وصل إليها مِن خلال تَنظيمِه لوقته، وحسن استغلاله.
والآنَ، أرجوكَ قمْ واركعْ ركعتينِ لله، وادعُ الله أن يفتح عليكَ مِن فضلِه وبركاته، ثم ائتِ بورقةٍ، وحاولْ مِن خلالها أنْ تُنظِّم أفكارَكَ ومَهمَّاتِكَ، واجعلْ لك نصيبًا مِن قراءةٍ للقُرآن، وذكرٍ للرَّحمن، وصِلةٍ للأرحام، وتواصلٍ مع أصحاب الخير، وكُفَّ نفسكَ عن الشَّرِّ وأهله، واجعلْ في حياتكَ شيئًا جميلاً مرضيًّا عند ربِّكَ حينَ تلقاه ويسألك - وهو أعلمُ بحالكِ - فيرى لَدَيْكَ عملاً خَيِّرًا قمت به، فكان خيرَ ذُخرٍ لك بعدَ مماتكَ، وأنا أدعو الله لكَ بالتَّوفيق والسَّداد، والبر والرَّشاد، والله يَتولاَّكَ ويَرعاك
لقد روى ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((اغتنمْ خَمسًا قبلَ خمسٍ، وذَكر منها: حياتَك قبلَ موتِكَ، وفراغَكَ قبلَ شُغلِكَ))؛ أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي برقم: (498)، وحسَّنه العراقيُّ في "تخريج الإحياء": (5/204)، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب": إسناده صحيحٌ، أو حسنٌ، أو ما قاربهما (4/203)، وصحَّحه الألبانيُّ، كما في "صحيح الجامع" برقم: (1077).