وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن الله يقول يوم عرفة لملائكته :
(( انظروا إلى عبادي أتوني شُعثاً غبراً يرجون رحمتي أشهدكم أني قد غفرت لهم )) [13]،
وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال
( وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ) [14].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغروب توجه ملبياً إلى مزدلفة
وصلى بها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين
قبل حط الرحال ولم يصل بينهما شيئاً.
فدل ذلك على أن المشروع لجميع الحجاج المبادرة
بصلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً بأذان واحد إقامتين من حين وصولهم إلى مزدلفة
قبل حط الرحال ولو كان ذلك في وقت المغرب تأسياً به صلى الله عليه وسلم وعملاً بسنته.
ثم بات بها وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة
ثم أتى المشعر فذكر الله عنده وكبره وهلله ودعا ورفع يديه وقال:
( وقفت ها هنا وجمع كلها موقف )
فدل ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج يبيت كل حاج في مكانه
ويذكر الله ويستغفره في مكانه ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل،
فدل ذلك على أنه لا حرج على الضعفة من النساء والمرضى والشيوخ
ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل عملاً بالرخصة
وحذراً من مشقة الزحمة ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلاً
كما ثبت ذلك عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم.
وذكرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للنساء بذلك،
ثم إنه صلى الله عليه وسلم
بعد ما أسفر جداً دفع إلى منى ملبياً
فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة
ثم نحر هديه
ثم حلق رأسه
ثم طيبته أمنا عائشة رضي الله عنها،
ثم توجه إلى البيت فطاف به،
وسئل صلى الله عليه وسلم في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي
ومن حلق قبل أن يذبح ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فقال:
( لا حرج )
قال الراوي:
فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال:
( افعل ولا حرج ) [15]
فعلم بهذا أن السنة للحجاج أن يبدأوا برمي الجمرة يوم العيد
ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي
ثم يحلقوا أو يقصروا والحلق أفضل من التقصير
فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين ومرة واحدة للمقصرين،
وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول فيلبس المخيط ويتطيب
ويباح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء،
ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده،
ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً
وبذلك يحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء.
أما إن كان الحاج مفرداً أو قارناً فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القدوم،
فإن لم يسع مع طواف القدوم وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة.
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى
فأقام بها بقية يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر
يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال يرمي كل جمرة بسبع حصيات
ويكبر مع كل حصاة ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من الجمرة الأولى والثانية ويجعل الأولى عن يساره،
والثانية عن يمينه ولا يقف عند الثالثة، ثم دفع صلى الله عليه وسلم
في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات
فنزل بالأبطح وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
ثم نزل إلى مكة في آخر الليل وصلى الفجر بالناس عليه الصلاة والسلام،
وطاف للوداع قبل الصلاة،
ثم توجه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر
عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
فعلم من ذلك أن السنة للحاج أن يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم في أيام منى،
فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في كل يوم كل واحدة بسبع حصيات،
ويكبر مع كل حصاة،
ويشرع له أن يقف بعد رميه الأولى ويستقبل القبلة ويدعو ويرفع يديه ويجعلها عن يساره،
ويقف بعد رمي الثانية كذلك ويجعلها عن يمينه وهذا مستحب وليس بواجب،
ولا يقف بعد رمي الثالثة،
فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل
عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل
في أصح قولي العلماء رحمة من الله سبحانه بعباده وتوسعة عليهم،
ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا بأس،
ومن أحب أن يتأخر حتى رمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفضل؛
لكونه موافقاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم،
والسنة للحاج أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر،
وهذا المبيت واجب عند كثير من أهل العلم ويكفي أكثر الليل إذا تيسر ذلك،
ومن كان له عذر شرعي كالسقاة والرعاة ونحوهم فلا مبيت عليه،
أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحجاج أن يبيتوها بمنى إذا تعجلوا
ونفروا من منى قبل الغروب في اليوم الثاني عشر،
أما من أدركه المبيت بمنى فإنه يبيت ليلة الثالث عشر ويرمي الجمار بعد الزوال ثم ينفر،
وليس على أحد رمي بعد الثالث عشر ولو أقام بمنى.
ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
( لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت ) [16]
إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما لما ثبت
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
[ أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ] [17]
متفق على صحته.
والنفساء مثلها.
ومن أخر طواف الإفاضة فطاف عند السفر أجزأه عن الوداع لعموم الحديثين المذكورين.
وأسال الله أن يوفق الجميع لما يرضيه وأن يتقبل منا ومنكم
ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار إنه ولي ذلك والقادر عليه
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [1]نشر في كتاب (فتاوى وتنبيهات ونصائح ) ، طبع مكتبة السنة بمصر ،
وفي مجلة (التوحيد) التي تصدر عن جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر
[2]سورة النساء ، الآية 48
[3]سورة الزمر ، الآية 65
[4]رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً برقم 1297
[5]سورة الحشر ، الآية 7
[6]سورة النور ، الآية 56
[7]سورة النساء ، الآية 80
[8]سورة الأحزاب ، الآية 21
[9]سورة النساء ، الآيتان 13، 14
[10]سورة الأعراف ، الآية 158
[11]سورة آل عمران ، الآية 31
[12]رواه مسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1348
[13]رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة)
مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم 7049
[14]رواه مسلم في (الحج) باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف برقم 1218
[15]رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم 83 ،
وفي ( الحج ) باب الذبح قبل الحلق برقم 1721 ،
ومسلم في (الحج ) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم 1306
[16]رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327
[17]رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم 1755 ،
ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض والنفساء برقم 1328