السقا .. في جدة قديما ً
كان الاوائل يعيشون على البساطة دون ان يفكروا بشيء يقلق حياتهم فالشعوب والمجتمعات تستقي حاجتها الاساسية والضرورية من الطبيعة.. لكنها في نفس الوقت تجد البدائل والوسائل لتحسينها وتطويرها والانتفاع منها بشكل افضل.. فمثلاً كان الناس يشربون الماء من العين فابتكروا الاواني الفخارية لحفظ الماء وتصفيته وتبريده ، وتعتبر مهنة "السقا" مهنة ممزوج بنكهة عبقة تذكرنا بتاريخ المياه في جدة .
ومن هنا كان لنا لقاء مع العم ناصر محمد أحد سكان حارات جدة قديماً ليشرح لنا دور السقا فيقول يبدأ دور "السقا" بنقل الماء في أواني مصنوعة الحديد ويحملها على ظهره أو على ظهر دابة ويتجول في الحارات ليزود الأهالي بالماء وبقوم بتفريغ في الأواني الفخارية الكبيرة الذي تدعى بـ"الحب" على غرار الخزان المعدني إلا أن الأول يختلف عنه لاكتساب الماء الذي يحفظ فيه شيئاً من البرودة لتخلل الماء بين مساماته فيلامس الهواء فيترطب.. وحالما ينتهي (السقا) من ذلك يرسم خطاً على الجدار الذي يقع خلف باب الدار ليحاسب الزبون عن مجموع الخطوط التي ترمز الى عدد "تنك" المياه التي أفرغها في نهاية كل أسبوع أو شهر حسب الاتفاق مع صاحب البيت ، ويقوم اهل الدار بوضع مادة الشب أو الفحم في ماء الحب ليشكل طبقة ثقيلة تعمل على تنقيته من الرواسب الطينية العالقة فيه التي تتركز في القاع ليكون صافياً زلالاً يشربون منه.. ولمنع دخول الاتربة يوضع فوقه غطاء مصنوع من خوص سعف النخيل أو القش.. اما الحب فيوضع فوق حامل من الخشب يشبه القفص وتحته اناء من الفخار للاحتفاظ بقطرات المياه التي تسقط فيه لاستعماله في صنع الشاي.
ويضيف العم عبداللطيف عجلان ويقول : كما كــــــانوا يستعملون المياه في غسل الاواني والحاجات الاخرى ، فكانت السقــــــا يأتي الــــى كل البيوت ليزودها بالماء ، وهو يجلب الماء من البازان .
وكان "السقا" يقوم بعملية رش الاسواق والازقة الترابية بغية تبريدها في فصل الصيف كما يعمل على توزيع الماء للعطشى من المارة مجاناً.. وتدر حرفته عليه ربحاً وفيراً، وكان "السقا" معروف بأنه على صلة بجميع أهالي الحارة ويعرفهم فرداً فرداً .
والعم مصطفى جان يقول :بعد عقد الاربعينيات بدأت مهنة "السقا" بالزوال عندما بدأت الدولة بإقامة محطات تصفية المياه ومد شبكات الانابيب الى البيوت ، اذ تم الاستغناء عن الاواني الفخارية تقريباً بعد ظهور "صندوق الثلج" وهو عبارة عن صندوق من الخشب ذو غطاء من الاعلى في داخله وعاء مستطيل معمول من رقائق الالمنيوم لخزن الماء ويوضع ربع أو نصف قالب "لوح" من الثلج بجانبه ليكتسب البرودة.. ويكون موصولاً بحنفية لاخذ الماء البارد منها عند الحاجة.. وكذلك وضع الخضار أو الفاكهة في داخل الصندوق لكي تبقى طرية كما هو في الثلاجة الكهربائية التي نستعملها حالياً.
وكان هناك نوعان من السقائين، النوع الأول الذي كان يحمل الماء من البازان بواسطة دلوين تشدهما قطعة قوية من الخشب تستقر على الكتفين، وكانت مهمة هؤلاء السقائين ملء أواني المنازل وكان لكل سقاء من هؤلاء السقائين عدد من البيوت مقابل أجور شهرية أو أسبوعية ولكل سقاء أيضاً منهم شاطئه حيث يقوم بإعداد موقع له لكي يغرف الماء بسهولة من النهر ويجلبه إلى البيوت، وأغلب هؤلاء يعملون في المساء عادة لأن عملهم يتكرر باستمرار ويعانون كثيراً من الجهد المبذول حيث يتحاشون حرارة النهار في نقل المياه ومن أشهرهم العم زمريق .
والنوع الثاني هم السقائون الذين يجوبون الأسواق والشوارع حاملين قربهم المزينة بالكثير من الوسائل الجمالية والمنادين على بضاعتهم من الماء أو العصائر أو عرق السوس، وعادة مايكون الماء مهيلاً وفيه حلاوة قليلة جداً، ويقول عبد الله شاولي من سكان أحد الحارات القديمة أن بعض السقائين يبيعون الماء الحلو المهيل ولا يعرف سر حلاوة الماء الذي يبيعونه وكيف أنهم يستخدمون وصفة معينة في إضفاء الحلاوة على الماء لا يعرفها غيرهم.
كما أن دعم حكومة خادم الحرمين الشريفين على جميع المستويات للحفاظ على التراث واضحة وجليلة في جميع أنحاء الوطن الغالي، وجدة مثال على ذلك، كما أن انقطاع العين لفترة طويلة يدل على مدى صعوبة مشكلة المياه التي ذكرها جميع المؤرخون، من الشاري في القرن الهجري الثالث حتى عام 1344هـ، وقد أسس المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل –طيب الله ثراه- عين العزيزية لجلب المياه من جدة بالطرق الحديثة ومنها بدء استقرار وضع المياه في جدة، وان اكتشاف هذه العين الأثرية بالنظام الهندسي بسريان المياه من مسافة 15 كيلو متراً شرق جدة حتى قلب المدينة وإنشاء الخزانات والقنوات التي تجلب المياه من مصدرها الأساسي بوادي قوص حتى قلب المدينة بزاوية ميول تتفق مع المواصفات الحديثة لخطوط المياه، كما لوحظ أيضاً أن وجود فتحات لصرف المياه الزائدة في أرض العين، كل ذلك يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن العمارة في مدينة جدة أقدم من 200 سنة بكثير كما أثبت هذا الكشف قدم وتطور الإنشاءات في مدينة جدة.
كما أن جدة مليئة بالآثار والتراث المعماري الفريد ليس في مبانيها فحسب بل في سورها وبواباتها ومساجدها ومناراتها وقلعتها "القشلة" ومآثرها العمرانية في صهاريجها وأسواقها وأحجارها المنقوشة على فترات من التاريخ، إضافة إلى أن اختيار موقع العين كان موفقاً جداً لوجودها على حارتين رئيسيتين هما حارة اليمن وحارة المظلوم، والحد الفاصل بينهما شارع العلوي، كما أن اختيار مصدر المياه يدل على أن المشروع تمت دراسته بشكل مستفيض وعلمي متقدم حيث استمر تدفق المياه لأكثر من 400 سنة وإن انقطعت لفترات بسيطة، كما تم بناء محتويات العين من الحجر المنقبي والأقواص الرخامية وفق نظام متقن لتصريف المياه تحت البازان الحززة.