فضول الإنسان يدفعه ليجرب كل شيء بنفسه، لعله يكتشف شيئاً جديداً يثبت من خلاله بطلان حجة الأولين،
أو أن يؤكدها بشواهد وتجارب شخصية، لكن الأمر في كلا الحالتين يأتي على عكس ما يتوقع هو،
حين يثبت له بالدليل القاطع أن التراث الأصيل المحلي والعالمي لا يغش أحداً، وأن الأمثال والحكمة هي
نتاج تجارب طويلة ومريرة للشعوب، التي اكتوت بنار تصرفات غير مدروسة، وخرجت بمنظومة من الدروس
والعبر والنصائح التي يفترض فينا أن نأخذها كمسلمات على قاعدة لا اجتهاد مع النص، وأن من يجرب المجرب
كما يقال عقله مخرب، وأن الكيس من اتعظ بغيره، لكننا نصر أن نركب رؤوسنا، ونغمض أعيننا عن كل هذه
النصائح والحكم، ويدفعنا فضولنا أن نجرب التجذيف حتى لو كان عكس التيار، لعلنا نكتشف شيئاً جديداً.
ربما يصح هذا في علوم الطب والفيزياء والكيمياء، التي ما يزال باب الاكتشافات فيها مفتوحاً على مصراعيه،
لكن في مجال العلوم الانسانية والاجتماعية، لم يعد في الأمر مجهولا يبحث عن مُعَرِّفٍ ولا غامِضٍ يحتاج
إلى تفسير، فالأمور واضحة وضوح الشمس فلماذا نركب رؤوسنا لنجرب ؟ لا أدري! الحكم والأمثال التي تركها لنا
الأولون هي بمثابة فوانيس مضيئة تبين لنا معالم الطريق المظلم، لكننا كما أسلفت نترك هذه المشاعل،
ونمضي في طريق الظلام بمفردنا إلى المجهول، لنتوصل إلى ما توصل إليه السابقون، ولكن أحياناً بخسائر فادحة،
فمن علمنا الاجتهاد بوجود نص لا أدري، وكيف جهلنا ونحن المتعلمون، لا أعلم!، كل الذي أعرفه أن هذا يؤكد
طبيعة بشرية مؤيدة بنص قرآني وهو أن الإنسان خُلِقَ جهولا، وهذا هو مربط الفرس، فالأصل أننا جاهلون،
وبالتالي لا يستغرب منا الوقوع في خطأ قد حذرنا منه السلف، وترك لنا الوصايا العشر التي تجنبنا الوقوع فيه،
لكننا تعامينا واجتهدنا، أوكت يدانا وفونا نفخ، فجنينا حصاد جهلنا، لقد حذر الأولون من الثقة العمياء، والقرآن طالب
بكتابة وتوثيق الدين قل أو كثر وأن يشهد على ذلك شهود، لكننا نستدين ونداين ولا نكتب، وتحصل المشاكل!،
الحكماء قالوا لنا ألا نضع البيض كله في سلة واحدة، لكننا نصر على وضعه في سلة واحدة اعتقاداً واجتهاداً
في غير محله، بأننا بوضعه في سلة واحدة، سنمتلك سلة كبيرة، تتفوق وتنافس باقي السلال، ولا نأخذ في
الحسبان أنه عندما تنقلب السلة، سيتكسر البيض، ونخسر في لحظات ما جمعناه ربما في سنوات، ويقع منا
هذا التصرف ليس عن جهل بل عن علم مسبق، ويتكرر وقوعه، والحكماء يقولوا من «مأمن يُؤْتى الحذر»، ولكننا
لا نؤمن بما يقولون، حتى نفقد الميم والنون !، نثق وعلى طريقة حبنا تكون ثقتنا، طريقة الحب الأعمى والثقة العمياء،
ونعلل مخالفة النص، أننا نثق في أقرب الناس، دون أن يدور بخلدنا للحظة واحدة، أن أكبر المصائب التي لا تخطر
على بال البشر تأتي من أقرب الناس، من أناس وضعهم المغدور داخل قلبه، واعتقد أن الضرر منهم مستحيل
إن لم يكن هو المستحيل بعينه، لكن هذا أيضاً اجتهاد مخالف للنص الذي يقول فيه الإمام الشافعي:
لا يكن ظنك إلا سيئا إن سوء الظن من حسن الفطن، ما رمى الإنسان في مهلكة إلا حسن الظن والقول الحسن،
لأنه للأسف هذه الأيام بيننا من لا يزال يعيش في عصر الجاهلية، ويعمل بنصيحة الشاعر الجاهلي الذي يقول إنه
إذا لم يجدوا ما يظلموه أو ينهبوه استدنوا الأقربين، ويعلنها صراحة في قوله : وأَحيانًا على بَكْرٍ أخِينَا إذا مَا لَمْ نَجِدْ
إلا أخَانَا.!، شكسبير يقول: أحب جميع الناس لكن ثق بالقليل منهم، فهل نتعظ ونفهم ان لا اجتهاد مع النص؟!
ومعذور المناضل الكبير تشي جيفارا حين يقول: أحس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى كل مظلوم في هذه الدنيا،
فحيث ما وجد الظلم ذلك وطني، والظلم ظلمات منعه المولى عز وجل على نفسه وحرمه على عباده، لكن قلة في هذا
العصر لا تظلم، أو كما قاتل المتنبي: الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ، ويظل ظلم ذوي القربى
اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند، ترى كم من جان ضحيته أقرب الناس إليه؟!. ونظل من أخطائنا نتعلم
رغم الكم الهائل من التجارب المتوفرة بين أيدينا، وما ينطبق على الأفراد في هذا ينطبق على الهيئات والمؤسسات
بل وحتى على الدول والحكومات، نعم هذا هو الإنسان الذي وصفه رب العزة والجلال انه كان ظلوماً جهولا، وإيرادها
بصيغة الماضي هنا للتأكيد على هذا المعنى، والله المستعان.