الآن الحق الثالث : ألا يرزقه إلا طيباً .والمراد بالرزق الطيب الكسب الحلال ، ومعنى ذلك أن يتحرى الحلال في تجارته ، وأن يؤدي الأعمال بإتقان . قضية دقيقة جداً فإذا كنت صانعاً صاحب مهنة ، وطلبت أجراً لهذا العمل مبلغاً معتدلاً جداً ومناسباً ، لكن الأداء مستواه منخفض ، هذا الأجر الذي تأخذه أجرٌ حرام ، هذا مثل بسيط : قريب لي اضطر إلى أن يكسر كل البلاط ، بلاط رخام إيطالي بالحمام ، كسرناه كله السبب أنبوب الماء الساخن ينحصر بالإسمنت مع خوابير ، وينحصر بالجبصين ، فبه يحف سريعاً ، بين أن يضع الخوابير حتى يحصر الأنبوب ويضع له إسمنت وينتظر خمس ساعات لكي يجف ، وبين أن يضع قطعة من الجبصين بعد خمس دقائق جفّّت فتثبت ، الجبصين يأكل الحديد أكلاً ، فخلال عدة سنوات يحدث ثقب كبير قدر الباهم في الأنبوب ، فهذا مبلط بالرخام ، والحمام قَلد بسراميك ، والمالك أحسن كساءه ، وقد دفع دم قلبه بهذه الكسوة ، وأنت لكي تختصر خمس ساعات ثبَّت الأنابيب بالجبصين فماذا حصل ؟ بعد خمس سنوات الحيطان سال الماء عليها ، فاضطر صاحب المنزل لإصلاحها لتكسير كل الرخام ، نتيجة إهمال مقصود من قبل العامل ، ولذلك الأجر الذي يأخذه صاحب المهنة إذا أهمل مهنته أو أساء ، أو أدَّاها أداءً منخفضاً هذا الأجر حرام ، سرقة ، ولذلك فإتقان العمل جزءٌ من الدين ، قال عليه الصلاة والسلام : إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه .
يقول بعضهم : والله أنا صلاتي متقنة . وأنا أقول : والله إذا لم يكن عملك متقاًن فكل صلاتك ليست لها قيمة ، لأن الدين في التعامل ، قال له : " هل عاملته بالدرهم والدينار ، هل حاككته ، هل جاورته ؟ قال : لا ، قال : إذاً أنت لا تعرفه " . فالدين لا يبدو في الصلاة والصوم والحج والزكاة ، الدين يبدو في أداء العمل ، العمل المتقن ، فبالمهن كلها هناك أشياء مخيفة جداً ، أحدهم باع طقم كنبات جاء لبيت الذي اشتراه ضيوف فمن أول يوم قعدوا خفس ، سارع لعند البائع قائلاً : خفس . قال له : يمكن أنكم قعدتم عليه ، استعملته ؟ فلماذا اشتراه ؟ هل اشتراه ليقف بجانبه أم ليقعد عليه ؟
إذاً الكسب الحلال ، ومعنى الحلال أن يتحرى الحلال في تجارته وأن يؤدي أعماله بإتقان حتى يكون كسبه حلالاً ، الآن بالتصريح يقول له: هذه البضاعة متينة . قل له الحقيقة : هذه بضاعة درجة ثانية ، هذه ليست أصلية ، هذه فيها خيط تركيبي ، يقول لك : صوف مائة بالمائة ، وثمنها ثلاثمائة ليرة ، والحقيقة إذا كان صوفاً مائة بالمائة ثمنها ألف ومئتا ليرة ، لماذا تكذب عليه فهذا خيط تركيبي ، عند الغسيل يشلف ، قل له : هذا خيط تركيبي هذا سعره، لا يوجد منها صوف مائة بالمائة كله كلام فارغ ، والمشتري معه هذا المبلغ فقنع أنه صوف مائة بالمائة فاشتراه ، لو قلت له : هذا تركيبي . لما اشتراها ، فأنت أخذت من تعبه ، هذا اسمه عدوانٌ على الكسب .
وهناك كسب الكسب ، أنت اعتديت على كسب الإنسان ، أخذت من كسبه الحلال كسباً حراماً ، طبعاً إذا بيَّن البائع فلا مانع ، وأصبح ليس بغاش ، فلو قلت للشاري : هذا قماش درجة ثانية ، هذا ينكمش ، هذا خشب نوع ثانٍ ، هذه طاولة مصنوعة من نشارة ، يظنها لاتيه، يضع لها برغي يغوص كل البرغي ، ينساها تحت المطر فيزيد سمكها ، قل له : هذه نشارة وليست لاتيه ، بيِّن له ، وضِّح له .
قال عليه الصلاة والسلام :
" من أصاب مالاً في مهاوش ـ أي بالهيلمة ـ أذهبه الله في نهابر "
يذهب المال نهيباً ، كيف يأتي المال يذهب ، حديثٌ ورد في الجامع الصغير :
" من أصاب مالاً في مهاوش أذهبه الله في نهابر "
قال لي : تعاملت مع واحد أربع أو خمس سنوات ، أشتري بوراً على أساس أنه أجنبي والسعر ثلاثة أمثال ، فظهر لي أنه يعطيني بلوراً وطنياً ، يستنظف بعض الألواح ويعطيني على أساس أنها من صنع أجنبي بثلاثة أمثال السعر ، وإذا أذّن المؤذّن للظهر يذهب أول واحد للجامع .
" مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي "*
( من صحيح مسلم : عن " أبي أيوب " )
" مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا "*
( من باب قول النبي : عن صحيح مسلم )
انظر الفرق من غشنا ومن غش ، من غش مطلقاً ، لو غششت مجوسياً فلست من أمة محمد ، ليس من غشنا ، بل مطلق الغش فليس منا ، قال :
" الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِه "*
( من صحيح مسلم : عن " أبي هريرة " )
" يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة " .
( من المأثور : عن " سعد بن أبي وقَّاص " )
معنى الغش ، وهذا بحث طويل إن شاء الله نعالجه ، الغش بالوصف، إن قلت أجنبي وهو وطني فهذا غش ، إن قلت : من نوع أول ، وهو من النوع الثاني فهو غش ، إذا وصفته وصفاً وهو على وصف آخر فهو غش ، إن كنت أعطيته وزناً أقل من وزنه ، ونوعاً أقل جودة من نوعه ، إن حددت له وقتاً أبعد من الوقت المطلوب ، وفوّت عليه ربحاً كثيراً ، فكل هذا من أنواع الغش ، إذا أديت عملاً أداء لا إتقان فيه فهو غش ، وهذا أيضاً يسبب الكسب الحرام .
يقول عليه الصلاة والسلام :
" من سعى على عياله من حِلِّه فهو كالمجاهد في سبيل الله ومن طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء "
وفي الأثر :
" أنه من لم يبال من أين مطعمه لم يبال الله عزَّ وجل من أي أبواب النيران دخل " .
هذه كلمة :(حط بالخرج ) هذه كلمة الشيطان ، ومثلها كلمة (لا تدقق ، ضعها بذمتي)هذا كله كلام فارغ ، ومن وحي الشيطان.
كلكم يعلم أن أكل لقمةٍ من حرام يجرح العدالة ، تطفيفٌ بتمرة ، يجرح العدالة ، الإمام ابن حنبل رضي الله عنه له صديق اسمه يحيى بن معين ، له معه صحبةٌ طويلة ، الإمام أحمد رحمه الله تعالى هجر صديقه سنوات طويلة لأن صديقه قال : " إني لا أسأل أحداً شيئاً ولو أعطاني الشيطان شيئاً لأكلته " هكذا قال له صديقه ، فحينئذٍ غضب ابن حنبل حتى اعتذر يحيى ، وقال : " كنت أمزح " . فقال : " تمزح بالدين ؟! أما علمت أن الأكل من الدين ؟!! " . بل هو أخطر ما في الدين ، قدمه تعالى على العمل الصالح ، في قوله تعالى في سورة المؤمنون الآية الحادية والخمسين :
﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ﴾
( سورة المؤمنون : من آية " 51 " )
الله عزَّ وجل قدم الأكل الحلال على العمل الصالح ، أي أن عملك الصالح من دون أن تأكل مالاً حلالاً لا قيمة له .
﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ﴾
إذاً العمل الصالح ليس مجدياً إلا إذا كان كسب المال في الأصل حلالاً .
أبناء أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يوصون أباهم قبل أن يذهب إلى العمل ، يقولون له : "اتقِ الله فينا ولا تعد علينا إلا بالحلال ، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على عذاب الله" .
إن شاء الله في الدرس القادم نتابع حقوق الأبناء على آبائهم ، واعتقد أن هذه الموضوعات تمس كل إنسان منا ، وهي ومهمة جداً لأنه ما من إنسان إلا وله أب أو ابن فليعرف إذا كل واحد منهما ماله وما عليه
.
والحمد لله رب العالمين