صقور فلسطين - سيرة قادة كتائب القسام
عماد عقل
ولد عماد عقل في السابع عشر من يوليو عام 1971 في مخيم جباليا الثوار لأب مؤمن وأم صابرة ، ونشأ نشأة هادئة في أجواء ثائرة وهناك بين الأزقة المتصارعة تحت قانون البقاء للأقوى كانت عوامل المد الديني تشكل شخصية الطفل على غير ما يشتهي علماء الاجتماع والطبيعة ؛ فوالده الذي مهر بصوت العبقري لذة الجهر بالصوت الخالد ، صوت الأذان ، ومدرسته التي تفوق فيها كانت واحة البعث الواسعة التي صرفته عن وعنترية التخييم ، أما مسجد النور الطاهر النقي الذي تربى فيه فقد غسل طفولته الوادعة وجملها من كل غبار الإفرازات المتسربة من عالم الضياع الطفولي إثر غفوة التثقيف والتحضير الكافية لهذا القطاع المنكوب .
لكنه الإسلام بعظمته الساحرة وحده القادر على صنع الأشاوس والأبطال من أمثال أسامة بن زيد وابن عباس الذي أفتى الناس وهو دون العاشرة والفدائي العملاق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إنه الإسلام الذي تذوب في بوتقته كل الفوارق الزمنية وتعظم من خلاله القدرات البشرية فلا الطفل في كنف الإسلام طفلا عابثا ولا الشيخ في ظلاله هرما وانيا ولنا في إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة ومثل طيب حين واجه الكفر بفتوة عجيبة قال تعالى :0 قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ، قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ، قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون )118
تلك هي المدرسة التي انتمى إليها الشهيد البطل عماد مدرسة كتب على بابها (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)
لعل الكثيرين سيقولون واه على تلك الطفولة الوادعة ! كيف تسرق هذه الزهرات اليافعة وتلقى في خضم الموت القاتم ؟! أما كان من الأجدر أن تنعم هذه الزهرات بمساحات زمنية واسعة من اللهو والسعادة وتتنعم بمفتن الشباب ولذائذ العيش المتاح ؟ ولماذا تجبر مثل هذه الطاقات الفاتنة على الانخراط في المستنقع العسكري لتذهب سريعا قبل أن تقطف قطافها المشروع من التعلم والزواج والسفر والراحة والتنعم . لكنها عبقرية الإسلام التي تربى الرجال وتصنع الأبطال الذين يتيهون فوق الجراحات الخائرة والعواطف المهزومة أسيرة الخنوع والأسى ولسان حالهم يقول :
إذا قيل من الفتى خلت إنني عنيت فلم أقعد ولم أتبلدا
هكذا كانت صورة المشهد الحياتي أمام الشهيد القائد بعيد تخرجه من الثانوية العامة : أينظر إلى الذات ومتطلباتها الدنيوية ويهاجر في سبيل مستقبل ينتظره برصيد كاف من العلامات المدرسية المؤهلة لذلك ،أم يستجيب للداعي الإيماني الخفي الذي يدفعه دفعا رغم الصفقة الفريدة بينه وبين ربه وقد قرأ الإعلان المغربي في أصدق صحيفة أبدية ?إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة …….)
الجنة!! يا لها من صفقة مربحة والمشتري هو الله العزيز الحكيم !! والثمن هو هذه النفس !! ، لطالما حلم بهذه المعاني السامية وتجلت أمامه ذكريات الجلسات الخاصة التي تعرف من خلالها على الفكر الإخواني الصافي ، وكان لا بد لهذه الحيرة أن تنتهي ولهذا الجدل أن يقف ، لكن دفعا جانبيا قد حسم الصراع الداخلي وكأن الإرادة السماوية قد تدخلت تحقيقا لقوله تعالى ( ألا تعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )
ففي 23-9-1988 كانت قوات الاحتلال الصهيونية تحاصر مخيم جباليا الصمود مقتحمة الأزقة والشوارع الضيقة في محاولة يائسة لإسكات الصوت الإسلامي الهادر وقد قامت بحملة إعتقالات سافرة طالت العشرات من قادة وكوادر الحركة وكان الشهيد عماد واحدا من أولئك الذين طالتهم يد الغدر الصهيونية؛ليدخل المعتقل قبل أن ترحل افكاره إلى عالم الدراسة والعيش الرغيد.
كانت فترة الاعتقال البالغة ثمانية عشر شهرا قد هيأت هذه الشخصية لمرحلة لها ما بعدها ح فبعد خروجه من المعتقل بدأ في البحث عن واحة أرحب من واحات العمل الإسلامي ؛ وكانت كتائب القسام على موعد مع هذا الباحث الجديد ؛ ولعل صورة الكتائب وما أحدثته من انجازات مبهرة لفتت انتباه المجاهد واضحت حلما شاعريا يداعب أحلامه السائحة في آفاق التصور الإسلامي ؛ ولعل فترة الاعتقال قد فتحت أمامه آفاقا رحيبة في التفكير الأكثر واقعية في كيفية الرد على جرائم الاحتلال وغطرسته.
وقد نال الشهيد ما تمنى إذ تم فرزه ضمن مجموعة الشهداء ؛ وهي من أوائل المجموعات التي نشطت في المنطقة الشمالية من قطاع غزة،وأخذت على عاتقها مهمة ملاحقة العملاء وتصفيتهم.
وتبدأ قصة العمل القسامي المميز ؛ تبدأ السكاكين المتوضئة والخناجر الموحدة تلاحق الرقاب المرتدة منزلة فيها حكم الله؛ليرتفع لواء القسام
كان للسادس والعشرين من كانون الاول من عام 1991 أثر بارز في حياة الشهيد ؛ ؛إذ اعتقل مجاهدان من أفراد المجموعة التي كان الشهيد يقودها ، وقد اضطر أحدهما تحت سطوة التعذيب أن يكشف عن أسماء المجموعة ، لتبدأ رحلة الاختبار والمطاردة الشاقة مع هذا البطل الأسطوري.
منذ ذلك التاريخ أصبح عماد واحدا من أخطر المطاردين لدى قوات الأمن الإسرائيلية ، بيد أن شيئا من عالم الوهن أو الفزع لم يصادف ساحة النجد في عالمه ، ولم يزده هذا الزائر اللئيم والشبح الرجيم إلا قوة وإصرارا على المضي قدما في طريق البطوة والاستشهاد، وبدأب أشواق الشهادة تداعب جوانحه ، وأصبح لا يبالي اوقع على الموت أم وقع الموت عليه.
كانت ظروف المطاردة قاسية مريرة، ولم تتمكن الحركة من توفير أجواء أمنة للمطاردين الذين أخذ عددهم يتنامى تناميا ملحوظا ،فقد انضم إلى مجموعة الشهداء الخمسة عشرة مطاردين جدد ، وبدأت الكتائب تفكر في تجنيب الحركة كوارث محتملة.
كانت مصر جنوبا والضفة الغربية شمالا هما وجهتا التفكير لدى قادة القسام للخروج من تلك الأزمة، وقد استقر الأمر على أن تقوم قيادة الكتائب برسم خطة لنقل مجموعة الشهداء إلى الضفة الغربية، وكان لهذا القرار الحكيم فوائد عظيمة ؛ فهي من جانب ضيقت مساحة المأزق القسامي في غزةجرائ عمليات التفتيش المستمرة، وعدم توفر أسباب كافية لتأمين ظروف المطاردين من سلاح وماوى وأماكن أمنة . أما من الجانب الآخر فإن نقل المجموعة إلى الضفة الغربية سيمكن الجهاز في الضفة الغربية من تعزيز قدراته ونقل المستوى الجهادي إلى درجات أرفع لتحمل جانبا من العبء الواقع على مركز العمل في غزة.