القسم الثالث :
أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة ، وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر – كموظفي السفارات – فحكمها حكم من أقام من أجله .
فالملحق الثقافي مثلا يقيم فيرعى شئون الطلبة ، ويراقبهم ويحملهم على التزام الإسلام وأخلاقه وآدابه ، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة يندرءُ بها شر كبير .
القسم الرابع :
أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج ، فتباح الإقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة .
القسم الخامس :
أن يقيم للدراسة ، وهي من جنس ما قبلها – إقامة لحاجة – لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه ..
القسم السادس :
أن يقيم للسكن ، وهذا أخطر مما قبله وأعظم ؛ لما يترتب عليه من المفاسد : بالاختلاط التام بأهل الكفر ، وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية ، من مودة ، وموالاة ، وتكثير لسواد الكفار ، ويتربى أهلُه بين الكفر ، فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم ، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( من جامع المشرك ، وسكن معه ، فإنه مثله )) ( 6 ) فإن المساكنة تدعوا إلى المشاركة ( 7 ) .
وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين )) قالوا : يا رسول الله ، ولم ؟! قال : (( لا تراءى نارهما )) رواه أبو داود والترمذي ، وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : سمعت محمداً – يعني البخاري – يقول : الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل . ا.هـ .
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار !! تُعلن فيها شعائر الكفر ، ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله ، وهو يشاهد ذلك بعينيه ويسمعه بأذنيه ، ويرضى به !! بل ينتسب إلى تلك البلاد ، ويسكن فيها بأهله وأولاده ، ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين ، مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده ، في دينهم وأخلاقهم . ا.هـ .
الوصية الثالثة :
أهم ما ينبغي على المسلم أن يعتني به هو دينه ، فما قيمة المال والمسكن والوظيفة والمستشفى والعيش الرغيد في غير طاعة الملك المالك جل جلاله !!..
احرص على إقامة الشعائر أينما كنت .. ومن خصائص هذا الدين أنه دين ظاهر .. أينما أدركتك الصلاة فصلّ .. في السوق .. في المدرسة .. في العمل .. في المصنع .. ولا تخجل من ذلك { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } ..
قال الشيخ :
كنت في السويد فذهبت مع اثنين من الأخوة المقيمين المغتربين لزيارة متحف للكتب القديمة وبعض الآثار .. وبعدما دفعنا رسوم الدخول وأمضينا دقائق .. أدركنا وقت صلاة العصر ..
فقال أحدهما : يا شيخ هيا نخرج لنصلي ثم نعود ..
فسألته مستغرباً : لماذا لا نصلي هنا ؟!!
فقال : هاه !! نصلي أمامهم ؟!1 لا .. لا .. هذا صعب جداً .. جداً ..
قلت : لماذا صعب جداً .. جداً .. ؟!!
فقال : يا شيخ .. نصلي أمام السويديين ؟!!
قلت : نعم نصلي أمام السويديين .. ولماذا لا نصلي أمامهم ؟! ألست تراهم يقبل بعضهم بعضاً أمامنا .. ولا يستحون !! ويضم بعضهم بعضاً .. ولا يخجلون .. ويشربون الخمر في الشوارع .. ويكشفون عوراتهم .. ويرتكبون الأفعال المخلة بالحياء .. ويعتبرون ذلك حرية .. ونحن أحياناً ننظر إليهم ونحن معجبون بهذه الحرية !!
فلماذا لا نصلي أمامهم ونعتبرها حرية ؟!!
فوافق صاحبي على مضض ..
فأخذنا جانباً من هذا المتحف واتجهت إلى القبلة ووضعت أصبعي في أذني ..
فصاح بي صاحبي : يا شيخ !! ماذا تريد أن تفعل ؟!
فأجبته بهدوووء : سوف أؤذن ..
فقال – باضطراب شديد – : يا شيخ تؤذن هنا ؟!
قلت : نعم أليست حرية Free ..!! .. أليسوا يغنون في الشوارع والطرقات .. ويسمون ذلك Free .. !! .. سمّه أنت أيضاً : حرية Free ..!! ..
ثم أذنت وأقمت بصوت منخفض .. وصلينا .. وأكملنا زيارتنا ..
ورآنا الناس ونحن نصلي جماعة .. نكبر ونسبح .. ونركع ونسجد .. ولم يمسك بنا رجال الشرطة .. ولم يدفعونا غرامة .. ولم يقتادونا إلى السجن .. ولم تنطبق السماء على الأرض .. فلماذا يخجل بعض الأخوة من الصلاة أمام الناس .. في الحدائق والأماكن العامة .. بل إن بعض المسلمين يجمعون بين الصلاتين من غير عذر سفر ولا مرض بسبب أنهم يخجلون أن يقيموا الصلاة أمام الناس ..
أيها الأخ الحبيب : إن إظهار هذه الشعيرة وسيلة من أكبر الوسائل للدعوة إلى دين الإسلام .. { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } ..
ولا أنس أيضاً أن أذكرك أيها الرجل المبارك أن الشعائر الأخرى لا بدّ أن تظهر ، مثل : عدم مصافحة النساء .. ولا الخلوة بهن .. أسأل الله أن يحفظك عفيفاً .. ويصون دينك وإيمانك .. آمين .
الوصية الرابعة
منزلك أخي المغترب هو مملكتك التي لا يكاد يزاحمك أحد عليها ، وسوف تسأل عن أفراد هذا المنزل يوم القيامة ، ومن أحسن التعامل مع أولاده وتنشئتهم تنشئة صالحة في صغرهم نفعوه في الدنيا والآخرة .. فأحسنوا إليه في حياته وحياتهم ببرّهم له .. وطاعتهم .. وعنايتهم .. وانتفع بهم بعد مماته بدعائهم واستغفارهم .. { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } .. وكان من دعاء زكريا عليه السلام أنه قال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } .. فلم يسأل ربه أي ذرية .. وإنما أراداها أن تكون ذرية طيبة .. لأن الذرية الفاسدة لا تزيدك إلا عنتاً ومشقة ..
وإليك بعض التوجيهات الهامة في ذلك :
• احرص على إقامة الصلوات في أوقاتها جماعة مع أولادك في المسجد ، فإن لم تتمكن من ذلك فاحرص على إقامتها في البيت في أوقاتها دون تأخير ولا تتساهل بغياب أحد من الأولاد عن صلاتها معكم جماعة ، وذلك في جميع الصلوات .
• احرص على الأذان لكل صلاة ، ولا بأس أن تعلق ورقة في المنزل فيها بيان لأوقات الصلوات ، وتجعل أحد الأولاد مسئولاً عن الأذان للصلاة ، بحيث يكون مكان الاجتماع للصلاة معروفاً غرفة محددة من غرفات البيت فيؤذن المؤذن فيها ويجتمع الباقون لإقامة الصلاة .
• لا بد أن يكون في البيت مكتبة ، ولو صغيرة ، فيها بعض القصص والأحكام الشرعية وغير ذلك ، من الكتب والأشرطة ، ولا تبخل بما تنفقه من مال في ذلك ، فإنه من النفقة في سبيل الله التي تؤجر عليها .
• احرص على أن لا يمر أسبوع إلا ويكون في المنزل درس ديني ، حيث يجتمع أفراد العائلة كلهم وتقرؤون شيئاً من كتاب رياض الصالحين أو التفسير أو غير ذلك ، وهذا مهم جداً في ربط العائلة بعضهم ببعض ، وحتى تحفكم الملائكة وتغشاكم الرحمة ويذكركم الله فيمن عنده ، ولا تتساهل في تغيبهم عن الدرس .
وهذه الدروس المنزلية طبعاً لا تغني عن حضور الدروس المقامة في المركز الإسلامي .
• إن اصطحابك لأولادك إلى المركز الإسلامي من وقت لآخر لحضور الصلوات والدروس العلمية فيه تقوية لإيمانهم ، وربط لهم بإخوانهم المسلمين ، وزرع الشعور بالعزة الإسلامية في نفوسهم .
• لا تتكلم مع أولادك إلا باللغة العربية ، وشدد الأمر في ذلك ، امنع أولادك من الكلام بغير اللغة العربية ، ومن تكلم بلغة المدرسة أو الشارع فعاقبه وكن حازماً في ذلك ، ولا تتسامح بكلمة ولا نصف كلمة .. هذا هام جداً .. جداً ..
الوصية الخامسة :
أولادك عجينة بين يديك تفعل ما تشاء ما داموا في سني الطفولة ، وليس لك عذر إن قصرت في شيء من تربيتهم في هذه المرحلة ، فاحرص على :
أن لا يبلغ ولدك سن الثالثة إلا وقد حفظته سورة الفاتحة ، فإذا أتقنها فحفظه قصار السور كسورة الإخلاص { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
فإذا بلغ خمس سنين فحفّظه ما بعد ذلك من السور ..
حتى إذا بلغ العاشرة من عمره فإذا به يحفظ ثلاثة أجزاء أو أربعة ..
وهذا قد يبدوا صعباً في البداية ولكن إذا تعود الابن على ذلك سهل عليه { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ }
سوف تتعب قليلاً ، ولكن هل تريد الجنة من غير تعب !!
قال صلى الله عليه وسلم : (( حُفّت الجنة بالمكاره ، وحُفّت النار بالشهوات )) ( 8 ) ..وأنت لا تدري متى ترحل من هذه الدنيا وتفارق أولادك .. فحفظهم القرآن ليبقوا لم ذخراً يثقّل ميزانك عند الله تعالى يوم القيامة ..
قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعوا له )) ( 9 ) .. وأيّ صلاح أعظم من صلاح ولد حافظ لكتاب الله تعالى ...
وانتبه من أن تكون أنت أو أولادك ممن اشتكى الرسول صلى الله عليه وسلم .. كما في قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } ..
ويمكن أن تستعين في تدريس أولادك بأمور .. منها :
• الأشرطة المسجلة : حيث يستمع الطفل إلى الشريط ويردد وراءه حتى يحفظ .
• المدرّس الخاص : حيث يتفق عدد من الآباء مع مدرّس واحد يجلس مع أولادهم عدة جلسات في الأسبوع ويتابعهم أولاً بأوّل .
• تشجيع الولد على الحفظ من خلال الجوائز .
• التقليل من الألعاب والأجهزة التي تشغل الولد عن الحفظ ، كألعاب الكمبيوتر ونحوها .
حدثني أحد الدعاة :
أنه ذهب إلى مدينة في السويد لإلقاء المحاضرات فرأى أحد الأخوة الأعاجم لا يفهم من اللغة العربية كلمة واحدة ومع ذلك له بنتان وولد أكبرهم عمره اثنتي عشرة سنة ، وكلهم يحفظون القرآن كاملاً !!
نعم .. وقد رآهم صاحبي واختبرهم ..
ومن حسُن قصده وخلصت نيته وفقه الله تعالى وبارك فيه وفي ذريته .
ورأيت في الدانمرك رجلاً أسلم حديثاً ، ولا يفهم من اللغة العربية كلمة واحدة ، وكان حريصاً على حفظ القرآن وتعلم الدين ، حتى إنه يحمل معه دائماً مسجلاً صغيراً وإذا رأى من يتقن العربية طلب منه أن يسجل له شيئاً من سور القرآن أو الأذكار أو نحو ذلك ثم يكرر الاستماع إلى ذلك حتى يحفظه .. { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ..
وحدثني داعية آخر :
أنه كان في استراليا ورأى طفلين مسلمين يحملان الجنسية الأسترالية – وهما من أصل سنغافوري – أحدهما عمره خمس سنوات والآخر سبع سنوات ، كلاهما يحفظ القرآن كاملاً .. ! ..
وهما لا يفهمان من اللغة العربية كلمة واحدة ..
وأخبراني هذا الداعية أنه اختبرهما وعجِب من قوة حفظهما ، قال : حتى إنني خاطبت أحدهما – باللغة الإنجليزية – وقلت له : أخبرني بالآيات التي فيها كلمة ( جهنم ) فسردها لي بسرعة .. ثم طلبت منه الآيات التي فيها كلمة ( الجنة ) فسردها لي !!
وكان الذي اهتم بحفظ هذين الطفلين عليهما هو زوج أمهما .. وكان يحفظهما القرآن عن طريق الاستماع المتكرر للسورة من جهاز التسجيل حتى يحفظها الطفل ، ثم ينتقل إلى غيرها .. فجزاه الله خيراً ..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
الوصية السادسة :
احرص على أن تعلم أولادك الآداب الإسلامية منذ الصغر فإنهم ينشئون عليها ..
والآداب الشرعية متنوعة :
مثل آداب الطعام والشراب فيقول بسم الله قبل الأكل والحمد لله بعده ، ويأكل باليد اليمنى ..
وآداب المجالسة فيسلم عند الدخول والخروج ، ويحترم الكبير ..
ويلتزم بآداب الكلام فلا يكذب ولا يتلفظ بألفاظ بذيئة ..
وآداب الخلاء كذكر الله قبل الدخول ، وعدم استقبال القبلة أثناء قضاء الحاجة ..
وغير ذلك من الآداب ، وما ذكرته مجرد أمثلة فقط ..
فإذا أهملت تعليم ولدك الآداب الشرعية في صغره ..
هل تدري ما النتيجة ؟ سوف يتولى تأديبه غيرُك ، فيتعلم في الحضانة أن يأكل بالشوكة بيده اليسرى .. ويتعلم في الحضانة أن لا يغلق باب الخلاء ولا يستر عورته عند قضاء الحاجة .. ويتعلم في الشارع السب واللعن والكلام الفاحش ..
فـتــأمـل الفــرق بيت التـربيـتـين ...
حدثني أحد المشايخ الدعاة يبلغ من العمر خمسين سنة أنه ألقى محاضرة في أحد المراكز الإسلامية في إيطاليا وتكلم أثناء المحاضرة عن تربية الأولاد والمسئولية نحوهم .. وكان أغلب الحاضرين من العرب المغتربين ..
قال الشيخ :
وفجأة قام شيخ كبير قد تجاوز الثمنين وقطع محاضرتي .. وصاح بأعلى صوته وقال :
يا شيخ !! أريد أن أزوجك ابنتي !! تزوجها وخذها معك !! أرجوك !! يا شيخ !! يا شيخ !!
ثم بكى .. وبكى ..
فتعجبي منه لكنني لم أرد عليه ..
فلما انتهت المحاضرة دعوته إلىّ وشكرته على حسن ظنه بي ، وبينت له أنني لا أرغب في الزواج ، ثم سألته :
ما سبب حماسك وبكائك ؟ ومقاطعتك للمحاضرة ؟؟
فـقـال : يا شيخ ، نحن كنا أصدقاء أربعة أتينا إلى هذه البلاد مع أولادنا طلباً لحياة أفضل ، وكبر أولادنا وبدؤوا يتفلتون من أيدينا .. ومضت السنين ومات أصحابي فتنصَّر جميع أولادهم وأنا انظر ..
أما أنا فقد كبر الآن سني .. ورقّ عظمي .. واقتربت منيتي .. أنا خائف على ابنتي .. هي اليوم في المسجد .. وغداً لا أدري أين تكون ثم بكى .. وبكيتُ وبكى من حولنا ..
الوصية السابعة :
لا بدّ أن تتعاون مع أم أولادك وتجندها معك في تربيتهم ، وتزرع فيها الصبر والاحتساب ، فأحسن اختيار زوجتك ، واحرص على أن تكون مؤمنة متحجبة عفيفة ، ثم بعد الزواج احرص على ارتقاء إيمانها وزيادة معرفتها بالدين ، وشجعها على حضور المحاضرات والدروس الشرعية ، وقراءة الكتب النافعة واستماع الأشرطة المفيدة ..
فإن الأم إذا صلحت صلح الأولاد تبعاً لها ..
الوصية الثامنة :
أخي الكريم !! منذ كم سنة أنت مقيم هنا في بلاد الغربة ؟! بين الكفار الضالين !!
بعض المغتربين جاء إلى بلاد الغربة منذ عشر سنوات وبعضهم عشرين ، ولا أبالغ لو قلت إن بعضهم جاء منذ أربعين سنة .. سكن معهم في مساكنهم .. وخالطهم في وظائفهم .. وأسواقهم .. وشوارعهم .. ومطاعمهم ..
ولكن الأسئلة الكبيرة التي أريدك أن تجيب عليها بصراحة : من خلال هذه الإقامة الطويلة :
كم شخصاً أسلم على يدك خلال هذه السنوات ؟ .. بل كم شخصاً ناقشته عن الإسلام وأزلت ما في نفسه من شبهات أو سوء فهم عن الإسلام ؟ ..
كم كتاباً أو شريطاً في الدعوة إلى الإسلام وزعت ؟ ..
كم مسلماً مقصراً نصحت ؟ ..
وفي الجانب الآخر أسألك :
كم من الأموال جمعت ؟ .. وكم شقة اشتريت ؟..
وأعوذ بالله أن أسألك : كم معصية كبيرة قارفت ؟؟..
أيها الأخ الحبيب : إن أصحاب المذاهب الضالة الهدامة يعملون دائبين في الدعوة إلى مذاهبهم في دول أوربا وغيرها أكثر من بعض المسلمين ، فانظر إلى نشاط " شهود يهوه " .. ونشاط " الشيعة " .. وغيرهم .. مع أنك على حق وهم على الباطل .. { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحا } ..
كن مشعل هداية أينما كنت ، احمل معك الكتب والأشرطة الدعوية ولن تكلف إلا مبلغاً يسيراً يعوضك الله به خـيـراً ..
أحد المسلمين كان يعمل في شركة كبرى ويحدث نفسه بالدعوة دائماً لكنه يخجل ويتكاسل ، وفي يوم من الأيام أحيل إلى التقاعد أحد زملائه من الموظفين الكبار ، فعمل له أصحابه حفلة توديع ، وأحضر كل واحد من زملائه هدية يودعه بها ..
قال صاحبنا : واحترتُ ماذا أقدم له ؟! فتذكرت أن هذا الموظف يحب التحف والأواني الأثرية القديمة ، فاشتريت له تحفة جميلة وخبأت بداخلها كتاباً صغيراً عن الإسلام وكتبت عنواني عليه ، وغلفتها بغلاف جميل وأهديتها إليه مع بقية زملائي ..
ومضت الأيام ..
وبعد قرابة الشهرين فوجئت باتصال من صاحبي المتقاعد يبشرني بإسلامه .. ويخبرني أنه قرأ الكتاب كله .. ثم اشتاق أن يتعلم معلومات أكثر عن الإسلام فبدأ يبحث ويسأل حتى دخلت الهداية قلبه وأسلم .. والسبب الأول هو هذا الكتاب الذي خبأته له على استحياء ..
والعجيب أن صاحبي المتقاعد بدأ يلومني : لماذا حجبت عني الهداية طوال تلك السنوات ؟!
أيها المغترب الحبيب المبارك :
هل تعلم كيف دخل الإسلام إلى الهند وباكستان والصين وكثير من بلاد أفريقيا .. وغيرها من البلاد البعيد عن مهبط الرسالة ؟؟
لم يدخلها عن طريق الدعاة .. ولا عن طريق الجهاد .. ولا عن طريق المكاتبات .. ولا .. إنما دخلها عن طريق رجال مسلمين ليسوا علماء ولا دعاة ، تجار ذهبوا إلى هناك في تجارة .. ذهبوا ليشتروا البضائع ويبيعوا بضائعهم .. ذهبوا لا يريدون إى الدنيا والمال .. وماذا كانت النتيجة ؟؟
جمع الله لهم الدنيا والآخرة .. جمعوا الأموال .. وتأثر أهل تلك البلاد بالمسلمين .. رأوا صلاتهم .. وحسن تعاملهم .. فسألوهم عن الإسلام فأخبروهم ودعوهم إليه .. فأسلم ما لا يحصى عدده من الناس بسبب هؤلاء التجار ..
في الهند مائة مليون مسلم ، ومن كان سبب هدايتهم ؟!
وفي الصين أكثر من مائة مليون ، من كان سبب هدايتهم ؟!
وفي بلاد أفريقيا مئات الملايين ، ومن كان سبب هدايتهم ؟!
إنهم هؤلاء التجار الذين دخلوا هذه البلاد طلباً للدنيا فجمع الله لهم الحسنيين ..
أيها الأخ المسلم الموفق :
إن حالك لا يختلف كثيراً عن حال أولئك التجار ، هم جاءوا إلى تلك البلاد طلباً للدنيا ، وأنت جئت إلى هذه البلاد طلباً للراحة الدنيوية والعيش الرغيد والأمن على النفس والولد .. فلماذا لا تجمع الدنيا والآخرة !! كما فعلوهم .
أخي الكريم :
لعل الله كتب الهداية لأهل هذه البلاد على يدك أنت ومن معك من المغتربين ..
لعل الله قدّر عليكم من الظروف والمشاكل ما استجلبكم به إلى هذه البلاد لهداية هؤلاء ، فلماذا لا تكونون دعاة إلى ربكم .. { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ..
وليس الدعوة للكفار فقط بل للمسلمين المقصرين المذنبين .. فهم وإن وقعوا في المعاصي أو قارفوا الكبائر فلا يزال فيهم إيمان وحب للدين ورغبة في العودة إليه ..
قال أحد الدعاة :
ألقيت محاضرة في مركز إسلامي بإحدى الدول الأوروبية .. وبعد المحاضرة جاء إليّ شاب تنبعث منه رائحة الدخان ( السجائر ) وقد بدت عليه آثار المعصية .. فصافحني وقبلني بحرارة .. ثم طلب مني أن أخبره كيف يستطيع أن يذهب للجهاد في الشيشان .. قلت له : أنت تريد أن تجاهد ؟! قال : نعم .. قلت : أتدري ما الجهاد ؟ إنه قتل للنفس .. ومفارقة للأهل والأولاد .. فقال : أليس الجزاء الجنة ؟ قلت : بلى .. قال : كل شيء يهون ..
الوصية التاسعة :
كنت في أحد البلاد الأوربية ، وبعدما صليت التراويح وألقيت المحاضرة ، دعاني أحد الأخوة إلى منزله لتناول الشاي ..
وفي ذلك المجلس اجتمع معنا قرابة الثلاثين من الأخوة المغتربين ..
آثرت في البداية أن أستمع ولا أتكلم ..
بدأ الأخوة أحاديثهم ..
احتلال البلد الفلاني ..
وغزو البلد الآخر ..
وغلاء الأسعار ..
والضرائب ..
ثم اشتدّ النقاش .. وارتفعت الأصوات .. وضجّ الصياح ..
ثم تحول الأمر إلى سبّ وتقذيع ..
هذا حالهم .. أما حالي فهو أعجب وأغرب .. لأنني أول الأمر ظننت نفسي انتقلت إلى اجتماع هيئة الأمم المتحدة .
لكني بعدما تلفتّ حولي تذكرت أني لا أزال بين هؤلاء الأخوة .. فبقيت هادئاً ..
في البداية خجلت أن آمرهم بالسكوت .. وانتظرت أن تنخفض أصواتهم .. فلم يفعلوا ..
فلما طال الأمر التفتّ إلى الذي بجانبي وقلت : هل سيطول الحال هكذا ؟!!
فقال : ما رأيت شيئاً !! هم اليوم هادئووون !! إن موعدهم الصبح !! أليس الصبح بقريب ؟!!
ثم قال : هل تريد أن أسكتهم ؟
قلت : هل تستطيع ذلك ؟!! نعم أسكتهم .
فصاح بأعلى صوته : يا جماعة !! نريد أن نستفيد من الشيخ ، يا جماعة !! هدووووء ..
فخجلوا وبدأ بعضهم يسكت بعضاً ..
فقلت لهم : أسألكم سؤالاً :
كلكم تحفظون سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ } ؟
قالوا : نعم !!
فقلت : ما معنى { اللَّهُ الصَّمَدُ } ؟ فسكتوا !!..
قلت : كلكم تحفظون { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }
قالوا : نعم !!
فقلت : ما معنى { غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ؟ فسكتوا !! ..
فقلت : أيها الأخوة الأخيار !! لو اشتغلتم في مجلسكم هذا بتفسير آية .. أو قراءة حديث .. أو النقاش حول تربية أولادكم .. أو حل مشاكل بناتكم .. لكان خيراً لكم مما أنتم فيه ..
كم هي المجالس التي تجلسونها وينطبق عليها قوله صلى الله عليه وسلم : (( ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة يعني : ( حسرة وندامة ) فإن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم )) ( 9 ) ؟
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة )) ( 10 ) .
ثم قلت لهم : هذا تفسير ابن كثير موجود على الطاولة أمامكم ، فلماذا لا تستفيدوا منه ؟!!
كيف تريدون أن تنصروا هذا الدين ، وأن تدعوا الناس إليه ، وأنتم تجهلون المبادئ الأساسية من الدين ، لو سألتكم في بعض أحكام الصلاة ، أو الصيام لوجدت أكثرهم بها جاهلاً .. ثم دعوت لهم وختمت المجلس ..
وحدثني أحد الدعاة فقال : كنت في أمريكا في شهر رمضان ، وألقيت محاضرة باللغة العربية حول الأسرة وتربية الأولاد ووسائل الثبات على الدين ..
وما كادت المحاضرة تنتهي حتى قام أحدهم وسأل :
لماذا الحاكم الفلاني يفعل كذا وكذا ؟!!
فأجبته بلطف قائلاً أرجو أن تكون الأسئلة فيما يتعلق بموضوع المحاضرة ..
فقام آخر فقال : لماذا الدولة الفلانية تقاتل دولة كذا ؟!!
فاعتذرت عن الإجابة لأن الإجابة لا تفيدنا بشيء ..
فقام أحدهم متحمساً وقد ظن أنني خائف من الإجابة ، فقال :
يا شيخ !! لا تكن جباناً !! سيد الشهداء هو الذي يجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر .. فيقتله .. فاجهر بكلمة الحق وإن وصلت إلى سلطان فقتلك !! أفلا تريد أن تكون سيد الشهداء ؟!!
فقلت له : إذاً ما رأيك أيها الأخ الشجاع أن نجمع لك الآن ثمن تذكرة سفر ، وتعود إلى بلدك وتجهر بكلمة الحق عند الرئيس ( ... ) ، ليقتلك فتكون أول الشهداء !!! ونحن بعدك إن شاء الله ..
فضحك الجميع .. وأغرقوا في الضحك .. ثم ضج المسجد بالكلام والاعتراضات ..
فصحت بأعلى صوتي قائلاً :
يا جماعة !! أنا أحدثكم عن أمور تعيشونها يومياً وتقاسون آلامها ، وأنتم تشغلونا بأمور لو تكلمنا عنها عشر سنين لما استفدنا منها شيئاً ..
ثم رفعت صوتي أكثر ، وقلت :
من منكم يستطيع أن يمنع ابنته من الزنا ؟؟
من منكم يستطيع أن يمنع امرأته من اتخاذ صديق أو عشيق ؟؟
من منكم يستطيع أن يمنع ولده من شرب الخمر ؟؟ أو ارتكاب الفواحش ؟؟
من منكم يستطيع أن يلزم أولاده بالصلاة ؟
.. أو بالصوم ؟
.. أو بالعفة عن المحرمات ؟
.. أو بعدم الاختلاط ؟؟ ..
فسكتوا جميعاً ..
فقام أحدهم وقال : بصراحة يا شيخ : لا أحـد .. والله يا شيخ !! لا أحـد .. لو منعت ابنتي أو ولدي من شيء اشتكاني إلى الشرطة .. حتى زوجتي ..
فقلت : أيها الأخوة الكرام :
لن يسأل الله أحداً منكم يوم القيامة عن الحاكم الفلاني أو الدولة الفلانية .. ولا عن أسعار النفط ..وأين تصرف عائداته ..
ما ذا يفيدك الكلام في هذه الأمور ما دام أنه من باب معرفة الواقع المحيط بك ، أما الاشتغال بها وإثارتها في المجالس والمحافل فهذا غير مناسب لأبداً ، بل هو مجلبة للجدال والخصومات وأنتم في غنى عن ذلك .. لن يضركم الجهل بها يوم القيامة ..
لكن والله ليسألن كل منكم يوم القيامة عن أولاده وتربيتهم .. وبناته وصيانتهن .. وزوجته وحفظها .. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله سائل كل راع عما استرعاه : أحفظ أو ضيع ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ) ( 11 ) .
قال الشيخ : فلما سمعوا مني ذلك .. أنصتوا .. واستمعوا ..
أيها الأخ الحبيب :
احرص على طلب العلم .. وتعلم أحكام دينك .. بقراءة الكتب النافعة ، واستماع الأشرطة المفيدة ، ومجالسة طلاب العلم ، وحضور مجالس الذكر .. احذر أن يمرّ عليك يوم دون أن تستفيد فيه فائدة جديدة ..
سل نفسك : هل تتقن القرآن ؟ كم تمضي من الوقت يومياً في قراءة الكتب النافعة وكم تمضي في مشاهدة التلفاز ؟ ثم قارن بين الوقتين .. وسل نفسك .. ألا يستحق هذا الدين أن أبذل له أكثر وقتي تعلماً وتعليماً و دعوة ..
أيها الأخ المبارك : احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وكن مؤثراً فعّالاً ، إذا دُعيت إلى مجلس فخذ معك كتاباً نافعاً .. واقرأ عليهم ولو لمدة عشر دقائق .. عن فضل قيام الليل .. أو فضل ذكر الله تعالى .. أو فضل الصدقة .. أو غير ذلك .. ليكون مجلسكم تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة .. ويذكركم الله فيمن عنده ..
أسأل الله تعالى أن يجعلك مباركاً أينما كنت .. آمين .
يتبع..