المظاهرات عدو المصالح و الإصلاح
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نَبِيَّ بعده، أما بعد: إن النزول إلى الشوارع، والتجمع في الأماكن العامة، وتسيير الحشود البشرية، ما هو إلا نوع تمرّد على الدولة ونظامها – حقاً كان ذلك النظام أو باطلا – وخُرُوجٌ علَى جماعةِ المُسلمينَ، مهما كان ذلك الشعار المحمول، فلا تغترَّ بلمعانه وبريقه، فالأمر أكبر والشَرُّ يقدم زاحفا.وما في التجمهر والتظاهر من الفتن والفساد، فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل، فيما يشاهد من الأقوال والأفعال.
والمظاهرة معناها: المعونة والنصرة.قال تعالى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة: 4]، والمظاهرة: المعاونة، وقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، أي: عوناً ونصيراً. وروى البخاري في «صحيحه» (4596، 7085): أن محمد بن عبدالرحمن أبو الأسود قال: قُطع على أهل المدينة بَعثٌ فاكْتُتِبْتُ فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السَّهم فيرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ﴿ إن الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾.الآية قال أهل العلم: (يكثرون سواد المشركين): جماعتهم، أي مع أنهم لا يوافقونهم في قلوبهم كانوا ظالمين، لأنهم أفادوهم قوة بوجودهم معهم.وذكره البخاري في موضعين أحدهما: (كتاب الفتن - باب من كره أن يكثر سواد الفتن والظلم) وهذا من فقهه رحمه الله.
وفال الحافظ في «الفتح«: وفي هذه القصة دَلالة على براءة عكرمة مِمَّا يُنْسَب إليه من رأي الخوارج لأنه بالغ فِي النهي عن قتال المسلمين وتكْثِير سواد من يُقاتلهم.وغرض عكرمة: أن الله ذَمّ من كَثَّرَ سواد المشركين مع أَنَّهم كانوا لا يُريدون بقلوبهم موافقتهم، قال: فكذلك أنت، لا تُكَثِّر سواد هذا الجيش، وان كنت لا تُرِيد موافقتهم.اهـ
كيف نشأت ولماذا نشأت ومتَى نشأت
كيف ولماذا؟! لابد من التساؤل عن النشأة لمعرفة الدليل فهل أصله يعود إلى وحي من الكتاب والسنة أو إلى غيره، ولذا سيجد الباحث والمتتبع ولمن يسبر الأدلة وما عليه سلف الأمة، أن السبب الحقيقي والرئيس لتلك الفوضى (المظاهرات) هو عصيان بشري لأنظمة المكان الذي يعيش فيه، والموطن والبلد الذي يقطن فيه أو ينتمي إليه، سواءٌ كان الحق له أو عليه.
متى نشأت
وحول نشأَتِها نذكر اختصاراً:
أولا: في تاريخ المسلمين نجد أن فرقة الخوارج هم أول من أظهر هذه الفتنة، فخرجوا علَى ولاة الأمر وأمراءُ المسلمين، ولا يخفَى ذاك التجمع والتجمهر حول بيت عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثالث الخلفاء الراشدين المهديين، والذي انتهى بسفك دمه واستشهاده، وبدأت الفتَنُ تتابع فِي بلاد المسلمين.فقد روى الترمذي في سننه (2194) عن بسر بن سعيد: ان سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي«، قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده إلي ليقتلني قال: «كن كابن آدم» .قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن.قلت: وهو كما قال.
ثانيا: فِي التاريخ الغربِي نجد أن شعار الديمقراطية الذي أعلنوه منهجاً إصلاحيا، وسعوا إلى تصديره فِي كل أنحاء المَعمورة، يُفاجئهم ويقلقهم بالشغب الديمقراطي فالمُظاهرة والعصيان المَدَنِيِّ عندهم هِي من الحريات التِي كفلها شعار الديمقراطية، ومازالت هذه الدول تعانِي من ويلات الانقلابات الديمقراطية، التِي جعلت الدولة غير مستقرة، دائمة التغير، كل يوم هي في حال، ونظام التشريع يتبدل ويتقلب كتقلب الليل والنهار، فكيف تستقر للناس مصالح، وكيف السبيل إلى بيئةٍ وعالمٍ توجد فيه الطمأنينة والهدوء والراحة، وهذا ما ينشده الناس من كل تشريع.
ملاحظة: اصطلاح الديمقراطية: لفظ مجمل قد يحمل معاني نافعة وقد يحمل معانِي ضارة، لذا لا نقبله كله ولا نرده كله، بل نطلب التفصيل في لفظه ومعانيه، فما وافق الكتاب والسنة أخذنا به، وما خالف ما جاء من عند الله رددناه، وما تعرض لأمور إدارية وتنظيمية من غير مخالفات شرعية، فالأمر لواضع النظام أن يأخذ ما يناسب مصالح الرعية.
المظاهرات ضياع لمصالح الأمة
إن المظاهرات من الفساد فِي الأرض لِما فيها من:
(1): نزع هيبة الدولة والنظام عند المواطنين.
(2): بث الشعور الخاطئ بين الدول المحيطة بذلك التجمهر والتشهير بأن النظام الحاكم غير مرضِيٍّ عنه.
(3): فِي المتظاهرين من هو حسن النية، وان كان التظاهر عمل غير صالح من أصله، ولكنه يفتح مجالا للدخلاء بين الصفوف والقيام بإطلاق بعض العبارات المسمومة التِي توغر الصدور، وفِي ذلك شق لصفِّ المسلمين.قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ الا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].ومن يضمن عدم إطلاق رصاصة أو قذيفة فِي الاتجاه الآخر أو فِي الهواء، ليدفع بالفريقين إلى مقتلة ومذبحة، وكم قرأنا وسمعنا الكثير من ذلك مِمَّا لا يستطيع أن يرفضه عقل صحيح، والرصاصة إذا انطلقت لَن يوقفها أحد وستبلغ مداها، وتترك أثرها، ولا نَمْلك إلا علاج الأثر، هذا إذا تمكنا من ذلك.
(4) تحريك شهوات النفوس الشريرة الداخلية لمحاولة الوثوب علَى النظام الحاكم، والإطاحة به، عندما يرون بعضاً من الشعب يتجرأ علَى النظام، ولا تتخذ الدولة إجراء حازماً يوقف هذا الشغب، ويمنع تكرار هذه الفتن، ومشاهد التاريخ القديم والمعاصر تخبرنا عن ذلك.
(5) إثارة الشهية لبعث الشرور الخارجية، لابتلاع الدولة التي لا تستطيع إخماد فتن الداخل.
والفتن أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم روى البخاري (3602)، ومسلم (2886) في «صحيحهما» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فِتَنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي والماشي فيها خير من السَّاعي ومن يُشْرِف لَها تَسْتَشْرِفْه ومن وجد مَلْجَأً أو مَعاذاً فلْيعُذْ به».وأثر عن كثير من الصحابة الابتعاد عن مواقع الفتن.وروى عبد الرزاق في «المصنف» بسند صحيح (11/450) عن طاووس قال: لما وقعت فتنة عثمان قال رجل لأهله: أوثقوني بالحديد فاني مجنون، فلما قتل عثمان قال: خلّوا عني، فالحمد لله الذي شفاني من الجنون وعافاني من قتل عثمان.
كيف العلاج وأين الحل
انه في الطاعة والصبر قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ ان اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] والمظاهرة خروج عن الطاعة لذا أُمِرنا بالطاعة والصبر، لما روى البخاري (3792)، ومسلم (1845) في صحيحيهما من حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله! ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟ قال: «ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض«.والمراد بالأثرة في قولة: «ستلقون بعدي أثرة»، أي: استئثار الأمراء بالحظوظ وكل شيءٍ لأنفسهم دون غيرهم من الناس، فلم نجد في النص توجيهاً إلى مظاهرة أو مسيرة أو اعتصام. وروى البخاري (3603)، ومسلم (1843) في صحيحيهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها «، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم«، أي: ولو مُنِعْنَا حُقُوقُنَا فالواجبُ الصَّبرُ بلا اعتصامٍ أو مظاهرة.فقد أمرنا في الشرع بأداء الحقوق التي علينا والصبر حتى يأتي نصر الله.
لا يشرع القتال على الملك
لقد استقر عند السلف أن ترك القتال في الفتنة من الدين، وكذا الاقتتال على الدنيا، ومعلوم أن أول القتال شرارة تبدأ من زلات اللسان وفلتات الكلام:
فان النار بالعودين تذكي وان الحرب مبدؤها الكلام
وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لا يرى القتال على الملك فقد روى البخاري في «صحيحه»(4651، 7095) من طريق سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبدالله بن عمر، فرجونا ان يحدثنا حديثا حسناً، قال: فبادرنا اليه رجل فقال: يا أبا عبدالرحمن! حدثنا عن القتال في الفتنة والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك.
د/عبدالعزيز بن ندَى العتيبي