بدأ هذا الحلم معي قبل 3 سنوات وهو مستمر حتّى الأمس القريب ، بالتحديد حتى الساعة 9 صباحاً من يومِ أمس !
مُذُّ أن كنت في الرابع والعشرون من عمري ، أحلم بأن أركب طائرة ، أيَّاً كان نوعها ، بوينج أو شحن كالتي سقط منها توم هانكس في فيلم ( كاست أواي ) أو حتّى ورقيّة ، ولم يكتب لي الله ذلك ، فأنا ولد لعائلة ميسورة الحال .. ميسورة ! هل قلت ميسورة ؟ ، أقصد عائلة تعيش في المستوى المتدني جداً لكننا نعلل ذلك دوماً بقولنا ( الحال مستورة ) وكأن الستر هذا بورصة عالمية أسهمنا ( منسّبة ) فيها ! ، عائلتنا تقبع في أحياء الرياض المنسيّة والمجهولة والمُعدمة والمُرغمة على كل شيء سيء ، يحدُّ بيتنا شمالاً وادياً هجرته حتَّى الكلاب ! ، وشرقاً طريقاً غير مُعبد ، وغرباً مشاريع الحفريّات التي لا تنتهي لأجل الصرف الصحي – أكرمكم الله - ، وجنوباً جار لنا مجنون ، له لِحية ولم أره في صلاة جماعة مرة واحدة .
أعود لذكر الطائرة ، التي ما ركبتها قطّ إلا بعد حادثتي الشهيرة ، تلك الحادثة التي غيّرت مجرى حياتي ، فأصبحتُ بعدها مثل الطفل المُختطف ، فعندما كنت في عُمر ال 22 عاماً أقنعني أحدهم بالذهاب معه لإحدى المناطق المفتوحة والبعيدة عن الحياة والمدينة لأجل رؤيته وهو يُزاول رياضة القفز الحر ، فوافقته حياءً منه لا غير ، وعند وصولنا للمكان ذاك هالني منظر الطائرة الكبيرة ، فأنا لأول مرة في حياتي وبعد 22 عاماً أقف أمام طائرة بمسافة لا تزيد عن 3 أمتار ، أول مكان أحببت تفحصه كان محركها الجبّار ومراوحه المسنونة ، ولو تسنى لي لأدخلتُ يديَّ فيه وتفحصته عن كثب ، بقيتُ ما يُقارب الساعة وأنا أشاهدها ، ودلفت مع الباب الخلفيّ فيها ، تفحصتُ أرضها وخراطيشها وكراسيها المعمولة على شاكلة شبكة حمراء ، بل وصلت حتى كابينة القيادة ، لأجلس على كرسي الطيّار وألمسُ عصا القيادة كما لو كنت سأحط في مطار ما ؛ قاطع ذلك الذهول المخلوط بالفضول صديقي بقوله أن أترك الطائرة فالفريق جاهز للإقلاع .
لن أتحدث عن مشاهدتي لصديقي وهو يسبح في الهواء على بعد آلاف الأقدام من الأرض ، أو عن المُتعة التي تُخالجني وأنا على الأرض .
سأقفز بكم مباشرة إلى رغبتي الجامحة في ممارسة تلك الرياضة ، لا بل سأقفز بكم إلى أولى اللّحظات الحيّة لي في ذلك المكان ، ولكن هذه المرة كقافز لا مُرافق .
أتذكر أن الساعة كانت 7 صباحاً ، والهواء لا يتجاوز 5 عُقد – وهي أجواء مناسبة للقفز الحُر - ، ارتديت المظلة – البراشوت – وحزمتُ أحزمتها بشدة ، فأنا بين خوف تجربتين أولها كيف ستقلع هذه الطائرة ، وثانيها كيف سأقفز من الطائرة ، من أين ستأتي هذه الجرأة يا رب .. ؟
ذهبت باتجاه الطائرة ، الأحزمة تُعيق الحركة بشدة ، فأبدو فيها وكأني امرأة حدباء شيباء ، و وجهي شاحب كأنه وجه ساحرة ، ناهيك عن الرداء الخاص بالقفز والذي أشبه فيه أنثى خفاش فقدت صغارها ! ، أخذتُ أمشي بهدوء حتّى ركبت الطائرة ، اشتعلت المحركات وبدأ الهمُّ الأول ، تشبثتُ خيفةً في أحزمة الطائرة ، وشددتُ يداي بقوّة ، وأغمضتُ عيناي ، يا جماعة أنا لم أحلق في طائرة من قبل ! ، كيف سأحلق أولاً ! .
لم أعرف ما حصل بعدها ، غير أني شعرتُ بربتةٍ على يدي اليمنى وصوت يصرخ في أذني قائلاً : ( الحمد لله أقلعنا ، شدّ حيلك باقي تنزل منها ( .
إنَّهُ صديقي الذي جئتُ معه قبل 3 أشهر كمرافق ، هذا اليوم أنا معه كفريق ، كقافز ؛ كانت فكرة النزول من الطائرة حلماً يراودني كما كان ركوب الطائرة حلماً كذلك ، لكنه حلمٌ محفوف بالمخاوف والمخاطر على حدٍ سواء ، لكن هي التجربة ، واللعنة على الحماس ، بدأ الفريق يُفتش تفتيشاً أخيراً على مُعداته ، المظلة الأساسية والاحتياطيّة ، غطاء الرأس ، و زعانف الرداء ، كذلك النظارة الواقية و ساعة الضغط ؛ كانت الأمور كلها تعتبر بالنسبة لي تسير عكس ما يجب أن تكون ، بينما الجميع كان طبيعياً ، بل أقل من ذلك مما سبب لي ربكة مزعجة .
بدأ قائد القفز الحُر بالتلويح بيديه ، لقد اقتربنا من منطقة القفز ، جاء صديقي واقترب من أذني و دار بيننا هذا الحوار الذي أذكر فيه حتَّى عدد الأنفاس التي تواثبت على أذان بعضنا البعض :
• هو : أتأخذها خلفيّة ، يا فلان .. ؟
• أنا : لا ، وأنت .. ؟
• هو : كما تريد ، المهم أن تكون مجاوراً لي .. !
• أنا : لا تنسى أنني أول من سيبتعد عن منطقة القفز .
• هو : لا ، لن أنسى ذلك ، فقط تمالك نفسك ، ونفذ التعليمات بحذافيرها ، وتنبه لإشاراتنا في الجوّ .
• أنا : وكأنني أذكر التعليمات أصلاً ، أرجوك كن بقربي ! ، ولو حدا بك الأمر أن تصفعني فلا بأس ، أنا مُسلم نفسي .
• هو (يضحك) : يا رجل .. هوّن عليك ! ، الأمر لن يستغرق أكثر من 10 دقائق ، لن تعجز عنها إن كنت كما أنت على الأرض ! .
• أنا : ابتعد عني ، اتركني في همّي .
وخيّم عليَّ شعورٌ من الانفعال المرح ، ورأيت وجوه كل من في الطائرة بيضاء ناصعة ، وكأنني سأذهب للجنّة ، قاطع هذا الشعور صوت دويّ هائل ، وتيّار من الهواء القوّي الذي كاد أن يقتلعني من مكاني ، لقد فتحوا الباب الخلفي للطائرة ؛ منظر مهيب ، السحاب كالعهن ، كالقطن ، كالإسفنج ، متناثر على مرمى البصر وحتّى تصل إلى خط الأفق البني المُزرق ، ما هي إلا لحظات وجاءني صديقي وقال :
• هو : ما أشدَّ بساطته .. !
• أنا : في زماننا لم يفكر أحد في ذلك ، وأمسكتُ يده بقوّة .
اقتربت من الباب ، وبإشارة من أحدهم ومع إيعاز القفز الحر الشهير ( آب ) فاعتليت بجسدي ثم ( داون ) فنزلت بجسدي ثم ( آرش ) وقفزت فاتحاً ذراعي وقدمي على شكل عنكبوت .
لم أفوّت لحظة منذ الخروج من باب الطائرة ، عيناي لم ترمشا ، أول ما شاهدت وجه صديقي الذي اختار أن يقفز على الخلف ، كان ينظر لي ومظهراً لسانه علامةً للاستهزاء .. !!
لحظات إلا وأنا أُحلق في الهواء الطلق ، أنا في البرزخ الدنيوي ، أنا بين حياتين ، أنا أسبح في السماء الأولى كما يبدو لي ، كنت أجول بنظري في كل مكان ، السماء ويداي وصدري والسحاب ، منظر الأرض على بعد 16 ألف قدم يحوي بعدة أمور ، لا تدرون ماذا تبادر في ذهني ، كنت أقول يجب أن أتزوج فور وصولي الأرض – لا أدري لماذا باغتتني فكرة الزواج على هذا الارتفاع - ، وكنت أقول يجب أن أصل بسرعة حتّى لا أقترب من أجلي – أعوذ بالله - ، كنت مع ذلك أضحك بهستيريا ، وكنت أعلى القافزين ارتفاعاً ، فوزني خفيف جداً – كان آنذاك لا يتجاوز 49 كجم - ، كان صديقي منخفضاً عنّي بعض الشيء ، رغبت اللحاق فيه ، وفعلت ذلك بعد ضمّ يداي ورجلاي ، نزول كالصاروخ – السرعة تتجاوز 300 كم/س - ، وعند وصولي له ، وبعد عدّة محاولات للثبات بجانبه ، حملق فيّ وهو يبتسم ، ثمّ تقرفص على غير انتظار وأطلق صيحة تشبه صياح الديك وصفعني ! ، ثمَّ عدَّل وضعيّة جسده ، وذهب بعيداً وهو يُحِسُّ أنَّهُ أدَّى واجبه ، كنت أخترق السحاب بضراوة ولو أنَّ التعليمات كانت تقضي بالابتعاد قد الاستطاعة عن السحب والغيوم ، أنا كنت أتعمّد اختراقها ولو أنَّ أكثرها كان يبتعد عن طريقي على غير العادة ! كنت أقول في نفسي ( تبَّاً للحظ البائس ، حتَّى وأنا بعيد عن كل شيء ، وأنا معلق ، حتَّى السحب تتحرك عكس خطاي ) ، ثمَّ فتحت المظلة .
* آسف كنت أكذب ولا عمري شفت مظلة إلا اللي في مواقف السيّارات .