وهو يشرح في المسجد الحديث الشريف: ليس على مستنكره يمين .. "ويبين للناس أن من طلق مكرها لا يقع منه طلاق، إذ بأحد أحفاد الحسن بن علي وهو محمد النفس الذكية، يثور على الخليفة المنصور، لأنه أخذ البيعة لنفسه قسرا فبايعه الناس مستكرهين. وإذ ببعض الناس في المدينة ينتقض بيعته للمنصور وينضم لمحمد النفس الزكية إعمالا لهذا الحديث وتطبيقا للسنة. وأرسل والي المدينة إلى الإمام مالك أن يكف عن الكلام في هذا الحديث، وأن يكتمه عن الناس، لأنه يحرضهم على الثورة ونقض البيعة.
ولكن الإمام مالك أبى أن يكتم هذا العلم، فكاتم العلم ملعون وظل يفسر الحديث غير آبه بتهديد والي المدينة، وأطلق الحكم الذي جاء به الحديث على كل صور الإكراه في المعاملات والحياة. فأمر والي المدينة رجاله فضربوا مالكا أسواطا، ثم جذبوه جذبا غليظا من يده، وجروه منها فانخلع كتفه .. ثم أعادوه إلى داره وألزموه الإقامة بها لا يخرج منها حتى للصلاة ولا يلقى فيها أحداً.
وفزع الناس في المدينة إلى الله يشكو الظالم، وثار سخطهم على الوالي والخليفة نفسه وغضب الفقهاء والعلماء من كل الأنصار والأقطار. فهاهو ذا عالم يلتزم الحياد، ينأى بنفسه عن السياسة ودوران دولاتها، ويعكف على العلم ويشرح للناس حديثا نبويا صحيحا، ويبصرهم بأحكام هذا الحديث فإذا بالدولة بكل قوتها تبطش به، وهو عالم لا يملك إلا قوة العلم وما يستطيع بعد كتمان هذا العلم؟ ..
وأخذ الناس يلعنون والي المدينة والخليفة المنصور الذي ولاه ويتهمون الخليفة نفسه. وقمع المنصور ثورة النفس الزكية، وقتله هو وآل بيته وصحبه وأتباعه شر قتلة ومثل بأجسادهم .. واستقر له الأمر. فاستقدم الخليفة المنصور مالكا ليسترضيه ولكن مالكا لم يقم ولم يبرح محبسه في منزله.
فأمر المنصور والي المدينة فأطلق سراح مالك .. ثم جاء المنصور بنفسه من العراق إلى الحجاز في موسم الحج، واستقبل الإمام مالك بن أنس. وقال الخليفة معتذرا: "أنا أمرت بالذي كان ولا عملته. أنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني أخالك أمانا لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة فإنهم أسرع الناس إلى الفتن". ثم أضاف الخليفة أنه استحضر والي المدينة مهانا وحبسه في ضيق، وأمر بألا يغال في إهانته، وأن ينزل به من العقوبة أضعاف ما نال منها الإمام مالك ابن أنس. فقال الإمام مالك: "عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه فقد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنك".