لقد أثث مالك بن أنس داره بأجمل أثاث، وزينها بأحسن زينة وملأ أجواءها بعرف البخور المعطر. ذلك أن الحياة أقبلت عليه .. فنال راتبا كبيرا من بيت المال، ثم توالت عليه هدايا الخلفاء فقد اقتنع الخلفاء برأيه في أن أهل العلم يجب ألا يشغلوا عنه بالسعي في طلب الرزق، بل يجب أن يكون لهم نصيب من بيت المال، فينال منه رواتب منتظمة كبيرة، كما ينال قواد الجيش الذين يقومون على حماية الأمة وسد الثغور .. فنشر العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والتوفر على نشر العلم جهاد. وإذن فينبغي أن يكون لكل من العالم وطالب العلم جزاء المجاهدين كل بقدر ما يكفيه.
إن العلماء ليحمون أرواح الناس وعقولهم من الضلال، فمن واجب ولي الأمر أن يوفر لهم من المال ما يكفل لهم الحياة الكريمة والمظهر اللائق الحسن كخير ما ينعم به الولاة والأمراء وحماة الثغور. على أنه كان يغدق من راتبه ومما يتلقى من هدايا على الفقراء من طلاب العلم يعطيهم ما تيسر من المال ويطعمهم أشهى طعام .. وكان حفيا بمأكله يختار الأطايب من كل صنف وكان مولعا بالفاكهة وخاصة الموز ويقول عنه: "لا شيء اكثر شبها بثمرات أهل الجنة منه، لا تطلبه في شتاء ولا صيف إلا وجدته .. قال تعالى "أكلها دائم وظلها .. ".
وكان يحض تلاميذه على الاهتمام بحسن التغذية، فالغذاء الجيد يبني الجسم السليم .. والعقل السليم في الجسم السليم. ومكابدة العلم تحتاج إلى عقول نشطة تصونها أجساد قوية .. وهكذا عاش منذ بدأ يجلس للإفتاء والتدريس: جسد قوي، عقل نفاذ .. طعام حسن ومسكن جيد وثياب أنيقة بيضاء من خير ما تنتجه مصر وخرسان وعدن.
وألف الناس كلما دخلوا المسجد النبوي بعد صلاة الفجر أن يجدوا رجلا مهيبا طويلا فارعا أشقر، أبيض الوجه، واسع العينين، أشم الأنف، كبير اللحية، مفتول الشارب، يتخذ مكانه في هدوء، ويتحدث في صوت عميق صادق مستندا إلى عمود ومن حوله حلقة من تلاميذه، كأن على رؤوسهم الطير. فإذا دخل غريب وألقى السلام لم يرد عليه أحد إلا همسا .. فإذا سأل ما هذا؟ قيل له في صوت خفيض إنه الإمام مالك بن أنس. فقد كان يفيض إذا تكلم، وينفذ بصدقه إلى القلوب .. ولم يكن جهير الصوت، فكان تلاميذه يكادون يمسكون بأنفاسهم لكيلا يفوتهم حرف مما يقول.
وكان قد خصص أياما لشرح الأحاديث النبوية الشريفة، وأياما للمسائل والفتيا .. فإذا سأله أحد في أمر لم يقع ولكنه متوقع، قال له: "سل عما يكون ودع ما لا يكون". ذلك أنه كان يرى أن كثرة الفروض مفسدة، وفيما يقع من الحوادث والقضايا الجديدة ما يكفي وما يغني عما هو متوقع .. وعندما تقدمت به السن، عقد حلقات الدرس في بيته الواسع ذي الأثاث الفاخر. ترك مجاملة الناس التي اشتهر بها "وترك حضور الجنازات، فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة" وكان إذا عوتب في ذلك قال: "ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره".
ذلك أنه لم يفض لأحد بسر مرضه الذي أقعده عن المسجد والناس إلا فراش الموت وكان مرضه هو سلس البول. وعندما اشتد عليه المرض بعد أن جاوز الثمانين كره أن يخرج من داره. وكان في بيته مجلسان في السنوات الثماني الأخيرة من حياته: فقال أحد تلاميذه: "إنه كان عندما انتقل درسه إلى بيته، إذا أتاه الناس تخرج لهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ أتريدون الحديث أم المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم اجلسوا، ودخل مغسله فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابا جددا، ولبس ساجه (وهي غطاء للرأس كالتاج) وتعمم، فتلقى له المنصة، فيخرج إليهم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع، ويوضع عود فلا يزال يبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكم كان حريصا على أن ينتقي الأحاديث. وعلى الرغم من كثرة الأحاديث التي حفظها، فلم يكن يحدث بهن جميعا .. ولقد قيل له إن أحد الفقهاء يحدث بأحاديث ليست عندك فقال مالك لو أني حدثت بكل ما عندي لكأني إذن لأحمق ثم أضاف: لقد خرجت مني أحاديث لوددت لو أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها "من أجل ذلك قال عنه تلميذه الشافعي: إذا جاء الحديث فمالك النجم الثاقب".
وبهذا الحرج في الحديث كان يتحرج في الفتوى .. فلا يقول هذا حلال وهذا حرام إلا إذا كان هناك نص قطعي الدلالة. وفيما عدا هذا يقول: أظن ثم يعقب فتواه مستشهدا بالآية الكريمة: "إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين". ولقد عاتبه بعض تلاميذه على تحرجه في الفتوى، فاستعبر وبكى وهو يقول: إني أخاف أن يكون لي منها يوم وأي يوم. وقال يوما لأحد تلاميذه ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا؟" فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة".
ولقد عاتبه بعض الناس في عنايته الفائقة بأثاث البيت، وبملبسه ومأكله فقال: "أما البيت فهو نسب الإنسان. ثم إني لا أحب لامرئ أنعم الله عليه إلا يرى أثر نعمته وخاصة أهل العلم". كان يرى في البيت أن البيت الجيد راحة للنفس والبدن، وأن الطعام الجيد يعين على نشاط الذهن، وأن حسن الثياب يكسب المرء ثقة بالذات وإحساسا بالسعادة.
وهكذا عاش يستمتع بزينة الحياة الدنيا التي أحلها الله لعباده والطيبات من الرزق، نائيا بنفسه عن السياسة، راغبا عن مصاولة الحكام وإن كانوا ظالمين حتى لقد أفتى بوجوب الطاعة للحاكم حتى إن كان ظالما. ولا ينبغي الخروج عليه بالفتنة بل يسعى إلى تغييره بالموعظة الحسنة وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ظلم ساعة خلال الفتنة شر من جور حاكم ظالم طيلة حياته. والحاكم الظالم يسلط الله عليه ما هو شر منه والله يرمي ظالما بظالم. وعلى هذا سار أيام الأمويين، ثم في دولة العباسيين .. يحاول جهده أن يكون على الحياد.
ولكنه على الرغم من كل شيء لم يعش بمنجاه عن بطش الذين أفتى بوجوب طاعتهم من الحكام مهما يظلمون. لم يهاجم الأمويين فأصابه منهم خير كثير ثم جاء العباسيون فزادوه من الخيرات .. وأصبح الإمام مالك رجلا غنيا، يعيش في دعة وسعة ويمنح كل وقته للعلم، ذلك أنه لم يمدح علي بن أبي طالب ولم يساند حقه في الخلافة .. وكان مدح علي هو ما يغيظ الخلفاء الأمويين العباسيين. وآثر الحياد، وترك السياسة، وأشفق على نفسه وعلى أهل المدينة بما رأى في شبابه من مذابح بعد ثورة الخوارج ونهضة الإمام زيد بن علي زين العابدين، على أن السياسة لم تتركه ولم ينفعه حياد.!.