فانفجرت أولى صرخات اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم من التفرغ للعلم، وأن يجروا عليهم رواتب تكفل لهم الحياة الكريمة .. غير أن أحدا لم يلتفت إليه، فقد كانت الدولة الأموية التي عاش شبابه في ظلها مشغولة بتثبيت أركانها، وبتآلف قلوب شيوخ أهل العلم دون شبابهم. والتقى به في تلك الفترة طالب علم شاب من أهل مصر هو الليث بن سعد .. كان قد ألف أن يحج ما بين عام وعام ويزور المدينة ويجلس إلى حلقات الفقهاء في الحرم النبوي، وقد أعجب كل واحد منهما بذكاء صاحبه ونشأت بينهما علاقة احترام متبادل، ألقى الله في قلبيهما مودة ورحمة .. ولاحظ الليث بن سعد أن صديقه ـ على الرغم من أناقة ثيابه ونظافتها، وعلى الرغم من رائحة المسك والطيب التي تسبقه ـ فقير جهد الفقر، وإن كان ليداري فقره تعففا وإباء!..
وكان الليث واسع الغنى، فمنح صاحبه مالا كثيرا وأقسم عليه أن يقبله. وعاد الليث إلى وطنه مصر وظل بها يصل صاحبه مالك بن أنس بالهدايا وبالمال، حتى أصلح الملك حال مالك ووجد من الخلفاء من يستجيب إلى ندائه المتصل أن تجري الرواتب على أهل العلم. ولقد سئل مالك عن عدم السعي في طلب الرزق والانقطاع إلى العلم فقال: "لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل حال .. ومن طلب هذا الأمر صبر عليه".
وفي الحق أنه ظل طالب علم بعد أن أصبح فقيها كبيرا يسعى إليه الناس ومن كل أقطار الأرض وإلى أن توفى سنة 179 هـ وهو في نحو السادسة والثمانين. ولقد ظل يعلم الناس، عندما جلس للعلم، أن يتحرجوا في الفتيا وفي إبداء آرائهم، فإذا كان الفقيه غير مثبت مما يقول فعليه في شجاعة أن يعترف بأنه لا يدري. ذلك أن الفتيا لون من البلاء لأهل العلم. فمن حسب نفسه قد أوتي العلم كله، فهو جاهل حقا .. وشر الناس مكانا هو من يضع نفسه في مكان ليس أهلا له. وإن رأى الناس غير ذلك، فصاحب العلم أدرى بنفسه، وللرأي أمانته.
ويحكى أن رجلا جاءه من أقصى الغرب موفدا من أحد فقهائها، ليسأل مالك ابن أنس عن مسألة .. فقال مالك: "أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها، فأخبره الرجل أنه جاء من مسيرة ستة أشهر ليسال عن هذه المسألة. فقال مالك: "وما أدى وما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا وما سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود غدا". وظل مالك يفكر في المسألة ويقرأ ما يمكن أن يتصل بها حتى إذا كان الغد جاءه الرجل فقال له مالك: "سألتني وما أدري ما هي" فقال الرجل "ليس على وجه الأرض أعلم منك وما جئتك من مسيرة أشهر إلا لذلك" فقال مالك: لا أحسن.
بهذه الأناة والتحرج كان مالك يعالج الفتيا. ولقد عاش في المدينة المنورة طيلة حياته منذ ولد فيها نحو سنة 93 هـ إلى أن ثوى تحت ثراها آخر الدهر. لم يبرحها قط إلا لحج أو عمرة .. كان مالك يجد في المدينة ريح النبوة، ونفحات علوية من أنفاس الرسول حتى لكأنه يستنشق كل خفقة من أنسام مدينة الرسول جلال الأيام الباهرة الخالية: أيام النور والوحي والبطولات والفرقان.
ومازال أهل المدينة يصغون كما كانوا يصغون في زمن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والصحابة الأوائل .. إنهم ليتوارثون سنته الشريفة في القول والعمل، الآباء عن الأجداد .. آلافا عن آلاف حتى لقد صح عنده أن عمل أهل المدينة في عصره سنة مؤكدة، وأنه بالاعتبار عند الفتيا والقضايا من أحاديث الآحاد ..
إنه لعاشق لمدينة رسول الله كما لم يعشق أحد مدينة من قبل ولا من بعد، يكاد يحمل لها من التعظيم ما يحمله للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ولصاحبته. حكى الشافعي أنه رأى على باب مالك هدايا من خيل خراسانية وبغال مصرية فقال الشافعي "ما احسن هذه الأفراس والبغال" فقال مالك: "هي لك فخذها جميعا" قال الشافعي: "ألا تبقي لك منها دابة تركبها؟" قال مالك: "إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة".