والسبب في هذا أن الناظر الْتَذَّتْ عينه بأول نظرة; فطلبت المعاودة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه، وسلم.
* هذا وإن لغض البصر فوائدَ عظيمةً منها:
الفائدة الأولى: تخليص القلب من ألم الحسرة.
الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نوراً، وإشراقاً يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.
الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة; فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة; لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلُوَّة تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها; فإذا أطلق العبد نظره تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها، كما قيل:
مرآة قلبك لا تريد صلاحه
والنفس فيها دائماً تتنفَّس
والله_سبحانه وتعالى_يجازي العبد على عمله بما هو من جنسه; فمن غضَّ بصره عن المحارم عوَّضه الله إطلاق بصيرته; فلما حبس بصره الله أطلق نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.
الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم، وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب; فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشفت له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض.
ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه، وأظلم، وانسدَّ عليه باب العلم، وطرقه.
الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب، وثباته، وشجاعته; فَيُجْعَل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة.
الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سرورًا، وفرحاً، وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالن_ظر; وذلك لِقَهْرِه عَدُوَّه بمخالفته، ومخالفة نفسه، وهواه.
ثم إنه لما كفَّ لذته، وحبس شهوته الله وفيها مسرَّةُ نفسه الأمَّارة بالسوء أعاضه الله مسرةً، ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: والله للذَّةُ العفة أعظم من لذة الذنب.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً، وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسرْ الشهوة; فإن الأسير هو أسير شهوته، وهواه.
الفائدة الثامنة: أنه يسدُّ عنه باباً من أبواب جهنم; فإن النظرة باب الشهوة الحاملة على مواقعة الإثم.
الفائدة التاسعة: أنه يقوي العقل، ويزيده، ويثبته; فإن إطلاق البصر، وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل، وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب.
الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سُكر الشهوة، ورقدة الغفلة.
وبالجملة ففوائد غض البصر، وآفات إرساله أضعاف أضعافِ ما ذكر.
فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغضَّ طرفه عمّا تشتهيه نفسه من الحرام، وليكن له في ذلك الغضِّ نيةٌ يحتسب بها الأجر، ويكتسب بها الفضل، ويدخل في جملة من نهى النفس عن الهوى.
4_التفكر والتذكر: وذلك باب واسع جداً، والمقام لا يتسع إلا لأقل القليل; فليتفكر العاشق في خطواته إلى لقاء محبوبه، وأنها_مع ما فيها من ضم جراح إلى جراح_مكتوبة عليه، وهو مطالب بها.
وليتفكر في مكالمته محبوبَه; فإنه مسؤول عنها، مع فيها من إلهاب نار الحب.
وليتذكرْ هاذم اللذات، وشدة النزع، وليتفكر في حال الموتى الذي حبسوا على أعمال تجاوزوا فيها; فليس منهم من يقدر على محو خطيئة، ولا على زيادة حسنة; فلا تَعْث يا مطلق!.
وليتصور عَرْضَه على ربه، وتخجيله له بمضيض العتاب.
وليتخيل شهادة المكان الذي وقعت فيه المعصية.
وليمثل في نفسه عند بعض زلله كيف يؤمر به إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها.
وليتصور نفاد اللذة، وبقاء العار والعذاب.
وليتذكر أنه لا يرضى لأحد من محارمه أن يكون معشوقاً، إذا كان ذا غيرة; فكيف يرضى ذلك المصير لغيره?!
5_البعد عن المحبوب المعشوق: فكل بعيد عن البدن يؤثِّر بعدُه في القلب; فليصبر على البعد في بداية الأمر صبر المصاب في بداية مصيبته، وليبتعد عن المحبوب، فلا يراه، ولا يسمع كلامه، ولا يرى ما يذكِّره به.
ثم إن مرَّ الأيام يهون الأمر، قال زهير بن الحباب الكلبي:
إذا ما شئت أن تسلو حبيباً
فأكثر دونه عدد الليالي
فما سلى حبيبك غير نأيٍ
ولا أبلى جديدك كابتذالٍ(84)
* وقال امرؤ القيس:
وإنك لم تقطع لبانة عاشق
بمثل رواح أو غدوٍّ مأوّبِ(85)
6_الاشتغال بما ينفع: فقد مرَّ قبل قليل أن من أسباب العشق الفراغَ; لذلك فكل ما يشغل القلب من المعاش، والصناعات، والقيام على خدمة الأهل، ونحو ذلك_فإنه يسلي العاشق; لأن العشق شغل الفارغ_كما مر _.
فهو يمثل صورة المعشوق في خلوته; لشوقه إليها; فيكون تمثيله لها إلقاءًا في باطنه; فإذا تشاغل بما يوجب اشتغال القلب بغير المحبوب_درس الحبُّ، ودثر العشق، وحصل التناسي.
7_الزواج: ولو بغير من عشقها; فإن في الزواج كفايةً وبركة وسلوة.
وإن كان متزوجاً فليكثر من الجماع; فإنه دواء.
=ووجه كونه دواءًا أنه يقلل الحرارة التي منها ينتشر العشق، وإذا ضعفت الحرارة الغريزية حصل الفتور، وبرد القلب; فخمد لهب العشق+(86).
فإن كان المعشوق امرأة يمكن الزواج بها فليفعل; فذلك من أنفع الدواء; لأن النكاح يزيل العشق، وإن تعسر فليلجأ إلى الله في تسهيله، وليعامله بالصبر على ما نهى عنه، فربما عجل مراده.
وإن عجز عن ذلك، أو كان المعشوق لا سبيل إلى تحصيله كذات الزوج_فليلازم الصبر; وليسأل الله السلوَّ.
8_عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، والنظر إلى الموتى، والتفكر في الموت وما بعده; فإن ذلك يطفئ نيران الهوى كما أن سماع الغناء واللهو يقويه; فما هو كالضد يضعفه.
9_مواصلة مجالس الذكر: ومجالس الزهاد، وسماع أخبار الصالحين.
10_قطع الطمع باليأس، وقوة العزم على قهر الهوى: فإن أول أسباب العشق الاستحسان، سواء تولَّد عن نظر، أو سماع، فإن لم يقارنه طمع في الوصال، وقارنه الإياس من ذلك_لم يحدث له العشق.
فإن اقترن به الطمع، فصرفه عن فكره، ولم يشتغل قلبه به_لم يحدث له ذلك.
فإن أطال مع ذلك الفكرَ في محاسن المعشوق، وقارنه خوفُ ما هو أكبر عنده من لذة وصاله، إما خوف من دخول النار، وغضب الجبار، وإدخار الأوزار، وغلب هذا الخوف على هذا الطمع_لم يحدث له العشق.
فإن فاته هذا الخوفُ، فقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه، أو ماله، أو ذهاب جاهه، وسقوط مرتبته عند الناس، وسقوطه من عين من يعزّ عليه، وغلب هذا الخوف لداعي العشق_دفعه.
وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه، وأنفع من ذلك المعشوق، وقدم محبته على محبة المعشوق_اندفع عنه العشق.
11_المحافظة على الصلاة: وإعطاؤها حقها من الخشوع، والتكميل لها ظاهراً وباطناً.
قال_تعالى _:[إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] (العنكبوت: 45).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =فإن الصلاة فيها دفع مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل محبوب وهو ذكر الله+(87).
12_زجر الهمة الأبية: عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل; فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من هذه البلية; فإن ذا الهمة يأنف أن يملك رقَّه شيء، وما زال الهوى يذل أهل العز.
وهذا الذل لا يحتمله ذو أنفة; فإن أهل الأنفة حملهم طلب علو القدر على قتل النفوس، وإجهاد الأبدان في طلب المعالي، ونحن نرى طالب العلم يسهر ويهجر اللذات; أنفة من أن يقال له: جاهل، والمسافر يركب الأخطار; لينال ما يرفع قدره من المال; حتى إن رُذالة الخَلْق ربما حملوا كثيراً من المشاق; ليصير لهم قدر، وهذا القائل يقول:
وكل امرئ قاتل نفسه
على أن يقال له: إنه(88)
فأما من لا يأنف الذل وينقاد لموافقة هواه_فذاك خارج عن نطاق المتميزين.
13_شرف النفس، وزكاؤها، وحمِيَّتُها: فذلك يوجب أن تنأى عن الأسباب التي تحطّ قدرها، وتخفض منزلتها.
وإنما تعلو قيمة المرء، وتسمو مكانته بقدر نصيبه من شرف النفس، وزكائها، وحميتها; فإذا علمت نفس طاب عنصرها، وشرف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية، وحياة وراء حياتها الطبيعية لم تقف بسعيها عند طمع بوصال، أو أمل بنظرة.
بل لا تستفيق جهدها، ولا يطمئن بها قرارها إلا إذا بلغت مجداً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء.
فلا يكون_إذاً_من وراء العشق إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة، والتسفل; أو ليس من الذل أن تكون حياة الإنسان معلقة بغيره، وسعادته بيد سواه; فهو مضطر إليه، وهو لعبة في يديه، إن أقبل سَعُد، وإن أعرض شقي، وإن مال إلى غيره اسودت الدنيا في عينيه?
هذا_والله_الصغار بعينه، وهذا هو الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض.
أليست هذه هي حقيقة الحب، والعشق الذي ألّهه الشعراء? أليست هذه هي حال من غايةُ طموحه أن يواصله معشوقه بكلمة، أو إشارة، أو ما هو أدنى أو أعلى من ذلك?!
* قال الأعشى:
أرى سفها تعليق قلبه
بغاية خود متى تدن تبعد(89)
* وقال أبو فراس الحمداني مفتخرًا بشرف نفسه، عائباً على من سفلت همته، واسترقه هواه:
لقد ضلَّ مَنْ تحوي هواه خَرِيدةٌ
وقد ذل منَْ تقضي عليه كَعابُ
ولكنني والحمد لله حازم
أعزُّ إذا ذلت لهن رقابُ
ولا تملك الحسناء قلبي كله
ولو شمَّلَتْها رقة وشباب(90)
* وقال أبو علي الشبل:
وآنف أن تعتاق قلبي خريدةٌ
بلحظ وأن يروي صداي رضاب
وللقلب مني زاجر من مروءةٍ
يُجَنِّبُه طُرْقَ الهوى فيجاب(91)
* وقال منصور الهروي:
خلقت أبي النفس لا أتبع الهوى
ولا أستقي إلا من المشرب الأصفى
ولا أحمل الأثقال في طلب العلى
ولا أبتغي معروف من سامني خسفا
ولست على طبع الذباب متى يُذَدْ
عن الشيء يسقط فيه وهو يرى الحتفا(92)
* وقال ابن المقفع: =اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة، والوقار_الغرامَ بالنساء.
ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفكُّ يأجم(93) ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
وإنما النساء أشباه، وما يتزين في العيون، والقلوب من فضل مجهولات على معروفات باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن+(94).
وقال: =ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلُبِّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن، والجمال، حتى تَعْلَقَ بها نفسه من غير رؤية، ولا خبر مُخبر، ثم لعله يهجم منها على أدَمِّ الدمامة، فلا يعظه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزل مشغوفاً بما لم يَذُق حتى لو لم يَبْقَ في الأرض غيرُ واحدة لظن أن لها شأناً غير ما ذاق.
وهذا هو الحمق، والشقاء، والسفه+(95).
وبالجملة فشرف النفس وزكاؤها يقود إلى التسامي، والعفة، والجلالة; ذلك أن المرء بين عاطفة تخدعه، وشهوة تتغلب عليه; فمتى ما لم يجد من عقله سائساً، ومن دينه وازعاً يقاومان الضعف، ويصارعان الميول والأهواء_وقع في الخطايا، وانغمس في الشرور والرذائل.
وإن قوي على عصيان الهوى، والنفس، والشيطان، والشهوة، وثبت في مواقف هذا الصراع الهائل_كان في عداد المجاهدين، وترتب على انتصاره وفوزه جميع المكارم والفضائل التي تنتهي به إلى خيري الدنيا والآخرة.
ومن كان ذا نفس ترى الأرض جولةً
فلا بدَّ يوماً للسموات يرتقي
14_التفكر في عيوب المحبوب: فمحبوبك ليس كما في نفسك; فأعمل فكرك في عيوبه تسْلُ.
قال ابن الجوزي×: =فإن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يصور له الهوى عيباً; لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر، يغطي المعايب، فيرى العاشقُ القبيحَ من معشوقه حسناً+(96).
وقال: =وقال الحكماء: عين الهوى عوراء.
وبهذا السبب يعرض الإنسان عن زوجته، ويؤثر عليها الأجنبية، وقد تكون الزوجة أحسن.
والسبب في ذلك أن عيوب الأجنبية لم تَبِنْ له، وقد تكشفها المخالطة.
ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة، وكشفت له المخالطة ما كان مستوراً_ملَّ، وطلب أخرى إلى ما لا نهاية له+(97).
وقال×: =فاستعمال الفكر في بدن الآدمي وما يحوي من القذارة، وما تستر الثياب من المستقبح_يُهَوِّنُ العشق; ولهذا قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها.
وقال بعض الحكماء: من وجد ريحاً كريهة من محبوبه سلاه، وكفى بالفكر في هذا الأمر دفعاً للعشق+(98).
* قال أبو نصر بن نباتة:
ما كنت أعرف عيبَ من أحببتُه
حتى سلوت فصرت لا أشتاق
وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى
رأت القلوب ولم تر الأحداق(99)
ولهذا تجد العاشق يغالي في معشوقه، ويُصوِّر له في قلبه ما يصور; لأن عقله شبه غائب، مع أن أقرب الناس للمعشوق، وأعرفهم به_لا يرون له ذلك الشأن; بل ربما رأوه أقل من ذلك بكثير، بل ربما لم يروا له فضلاً البتة.
15_تصوُّر فقدِ المحبوب: إما بموته، أو بفراق يحدث عن غير اختيار، أو بنوع ملل، فيزول ما أوجب من المحن الزائدة على الحدِّ التي خسر بها المحب جاه الدنيا والدين.
16_النظر في العاقبة: فالعاقل_إذاً_هو من وزن ما يحتوي عليه العشق من لذة ونُغْصَة; فنُغصُهُ كثيرة، وأذاه شديد، وغالب لذَّاته محرم، ثم هي مشوبة بالغموم، والهموم، وخوف الفراق، وفضيحة الدنيا، وحسرات الآخرة; فيعلم الموازنُ بين الأمرين، الناظرُ في العاقبة_أن اللذة مغمورة في جنب الأذى.
وأعقل الناس من لم يركب سبباً
حتى يفكر ما تجني عواقبه(100)
17_أن يعلم المبتلى أن الابتلاء سبب لظهور جواهر الرجال: فربما ابتلي الإنسان بذلك، فإن صبر ظهر فضله، وكمل سؤدده، ونقل إلى مرتبة أعلى، وربما نال محبة خالقه، تلك المحبة التي تملأ قلبه، وتغنيه عن كل محبة.
18_النظر فيما يُفَوِّته التشاغل بالعشق من الفضائل: فإن أرباب اليقظة عشقُهم للفضائل من العلوم، والعفة، والصيانة، والكرم، وغير ذلك من الخلال المحمودة_أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس; لأن شهوات الحس حظ النفس، وتلك الخلال حظ العقلِ، والنفسُ الناطقة الفاضلة إلى ما يُوثر العقلُ أميلُ، وإن جرَّها الطبع إلى الشهوات الحسية.
19_النظر في حال العشاق: وما هم عليه من العذاب، وكيف كانوا يعيشون على هامش الحياة، وكيف انفرطت عليهم مصالح دينهم ودنياهم; فإن ذلك يوقف العاقل على حقيقة العشق; فما الذي خبَّل مجنونَ ليلى? وما الذي غدا بلبِّ جميل بثينة? وما الذي تيَّم كثير عَزَّة?
إنه العشق الذي ألبسهم ثوبه، وكساهم حُلَّته، وربط اسم كل واحد منهم باسم معشوقته; فأصبحوا لا يذكرون إلا ويذكر معهم العشق، وضعة النفوس، ودنو الهمم، فهذا جميل بثينة_على سبيل المثال_لما دعي للجهاد في سبيل الله في وقت كانت الفتوحات الإسلامية تتسع، وتعظم_قال:
يقولون جاهد يا جميلُ بغزوةٍ
وأيّ جهاد غيرَهنَّ أريد
لكل حديث بينهن بشاشةٌ
وكل قتيلٍ عندهن شهيد(101)
فانظر كيف قصر همته على ملاحقة النساء، ومطاردتهن; فهذا هو جهاده، وتلك هي شهادته!
أين هذا وأمثاله من أولي الهمم العلية، والعزائم القوية? أين هم من صقر قريش عبد الرحمن الداخل_على سبيل المثال _? هذا الرجل الذي أهديت له جارية بارعة الجمال أول قدومه الأندلس، فلما رآها قال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شغلت عنها بما أهِمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهِمُّ به ظلمت همتي; فلا حاجة لي بها الآن، وردَّها على صاحبها.
فانظر إلى هذا الرجل لما عصى هواه، ولم يسترسل مع شهوته_كيف نال ما نال.
هذا الرجل الذي ولي الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتشْرَقُ بالدماء، فما لبث أن قرَّت له، وسكنت لهيبته، ثم خرج في طليعة من جنده، فافتتح سبعين حصناً في غزوة واحدة، ثم أمعن في قلب فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطرافاً من إيطاليا، حتى ريَّض كل أولئك له.
وبعد أن كانت قرطبة دار إمارة يذكر فيها الخليفة العباسي على منابرها، وتمضي باسمه أحكامها أصبحت مقر خلافته، يحتكم إليها عواهل أوربا، وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها.
قال أبو جعفر المنصور لأصحابه يوماً: أخبروني عن صقر قريش، فذكروا له طائفة من الخلفاء، وهو يقول: (لا) فقالوا: من يا أمير المؤمنين? فقال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلداً أعجمياً مفرداً، فمصرَّ الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام مُلْكاً بعد انقطاعه; لحسن تدبيره، وشدة شكيمته(102).
هذه بعض الأسباب المعينة على علاج العشق، الواقية _بإذن الله_ لمن لم يقع فيه.
فحري بمن أخذ بها أن يُعان، ويوفَّق; فإن جاهد، وصابر، ثم بقي بعد ذلك في قلبه ما بقي فإنه لا يلام عليه.
يقول الجنيد×: =الإنسان لا يعاب بما في طبعه، إنما يعاب إذا فعل بما في طبعه(103).
وقال ابن حزم×: =لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل، ما لم يظهره بقول أو فعل.
بل يكاد يكون أحمدَ ممن أعانه طبعه على الفضائل.
ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل+(104).
وقال ابن الجوزي×بعد إيراده عدداً من الأدوية النافعة لداء العشق: =فإن قال قائل: فما تقول فيمن صبر عن حبيبه، وبالغ في استعمال الصبر، غير أن خيال الحبيب في القلب لا يزول، ووسواس النفس به لا ينقطع?
فالجواب: أنه إذا كففت جوارحك فقد قطعت موادَّ الماء الجاري، وسينضب ما حصل في الوادي مع الزمان، خصوصاً إذا طلعت عليه شمسُ صيف الخوف، ومرّت به سمومُ المراقبة لمن يرى الباطن فما أعجل ذهابه.
ثم استغث بمن صبرت لأجله، وقل: إلهي! فعلتُ ما أطقتُ; فاحفظ لي ما لا طاقة لي بحفظه+(105).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية×في معرض حديث له عن العشق، وعلاجه"وميلُ النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان، وإن لم يكن بفعل الفاحشة الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة، وإن لم تكن كان بالنظر، ويحصل للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس.
وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه; فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في طاعة الله_تعالى_وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمراً حرَّمه على نفسه; فيكون في طاعة نفسه وهواه.
بل هو أمر حرَّمه الله ورسوله، ولا حيلة فيه; فتكون المجاهدة للنفس في طاعة الله ورسوله(106).وقال في موضع آخر: =وليتخذ ورداً من الأذكار في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف; فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه. وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنة، وظاهرة; فإنها عمود الدين. وليكن هجِّيراه:+ لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال(107).
وقال:×=فأما إذا ابتلي بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقوى الله.
وقد روي في الحديث أن: =من عشق فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً+(108).
وهو معروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه نظر، ولا يحتج بهذا.
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظراً، وقولاً، وعملاً، وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم: إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق.
وصبَرَ على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن(109) ألم المصيبة_فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر(110).
وقال×في موضع آخر: =فإن الله أمر بالتقوى والصبر; فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرم الله، من نظر بعين، ومن لَفْظ بلسان، ومن حركة برجل.
والصبر أن يصبر عن شكوى ما به إلى غير الله; فإن هذا هو الصبر الجميل.
* وأما الكتمان فيراد به شيئان:
أحدهما: أن يكتم بثَّه وألمه، ولا يشكو إلى غير الله; فمتى شكى إلى غير الله نقص صبره.
وهذا أعلى الكتمانين، ولكن هذا لا يَصْبِر عليه كلُّ أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين: فإن شكى إلى طبيب يعرف طبَّ النفوس; ليعالج نفسه بعلاج الإيمان; فهو بمنزلة المستفتي، وهذا حسن.
وإن شكى إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام، وإن شكى إلى غيره; لما في الشكوى من الراحة_كما أن المصاب يشكو مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلُّم ما ينفعه، ولا الاستعانة على معصيته_فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذي يتسخط.
والثاني: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس; لما في ذلك من إظهار السوء والفحشاء; فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتشهَّت، وتمنت، وتتيمت.
والإنسان متى رأى، أو سمع، أو تخيَّل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً إلى الفعل(111).
وفي نهاية المطاف هذه كلمة وداع أخيرة توجه إلى أدباء الأمة، وشعرائها، وكتابها; فيقال لهؤلاء: إن أمتنا اليوم ليست بحاجة إلى مزيد من العشاق، وليست بحاجة إلى من يذكي أوار نيران العشق; فلدى الأمة من الأمراض ما يكفيها; فكيف نزيدها وهناً على وهن?!
إن أمتنا بأمسِّ الحاجة إلى الأقلام الجادة، والهمم العلية، والعزائم القوية، والعقول المستنيرة; فنحن في عصرٍ: شعارُه:
( إن لم تكن آكلاً كنت مأكولاً، وكُنْ قَوِيَّاً تحترمْ )