فكل هذه الآفات، وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور، وتحمل على الكفر الصريح; فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها.
…
وبعد أن تبين خطر العشق، وعظيم جنايته، وكثرة الأضرار الناجمة عنه، والمظالم الحاصلة من جرائه، وقبل الدخول في الحديث عن وجوب التوبة منه، وذكر الأسباب المعينة على ذلك_لابدّ من الوقوف على الأسباب الحاملة على العشق، والمحركة له; ذلك أن العشق ينشأ، ويثور إذا وجدت محركاته ومهيجاته; فهناك أسباب تثير العشق، وتبعثه، بل وتسوق إليه سوقاً، وتجرّ إليه جراً.
وفيما يلي ذكر لبعض تلك الأسباب:
1_الإعراض عن الله_عز وجل _: ذلك أن في الله عوضاً عن كل شيء، وأن من عرف الله_عز وجل_جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.
2_الجهل بأضرار العشق: وقد مرَّ شيء من أضراره، ; فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.
3_الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق.
قال ابن عقيل×: =وما كان العشق إلا لأرعنَ بطال، وقلَّ أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة; فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية?+(38).
وقال ابن عبد البر×: =سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: =شُغل قلب فارغ+(39).
وقال أفلاطون: =العشق حركة النفس الفارغة+(40).
وقال أرسطو: =العشق جهل عارض، صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة+(41).
وقال غيره: =هو سوء اختيار صادف نفساً فارغة+ (42).
ومن الفراغ_أيضاً_فراغ القلب من محبة الله_عز وجل_.
قال ابن القيم×:=وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله_تعالى_المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه; فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور+(43).
وقال: =ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته، وفراغه; فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد+(44).
4_وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة; فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلى الهاوية إذا هي انحرفت; فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم.
وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح.
وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية; حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منواله.
وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية; فهي الترجمان الناطق عملياً لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة(45).
5_التقليد الأعمى: فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق.
وربما رأى من حوله يبثُّون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة; فترى هذا الغِرَّ يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمَضَّه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعراً.
وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعزّ خلاصه، ويصعب استنقاذه.
* ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى:
أول العشق مزاحٌ وولع
ثم يزداد فيزداد الطمع
كل من يهوى وإن عالت به
رتبة الملكِ لمن يهوى تبع(46)
* وقيل:
تولع بالعشق حتى عشق
فلما استقلّ به لم يُطِقْ
رأى لُجَّةً ظنها موجةً
فلما تمكَّن منها غرق
ولما رأى أدمعاً تُستهلُّ
وأبصر أحشاءه تحترق
تمنى الإفاقة من سكره
فلم يستطعها ولم يستفق(47)
6_الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه; حيث يُظن أنْ لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادرًا في غيّه، لا يكاد يفيق من سكره.
فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقَّةٍ، وظرفٍ، ولطافة، وكرم، ونحو ذلك.
ومن لم يعشق، ويحبَّ ذلك الحبَّ فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خالٍ من العواطف، متجردٌ من الفضائل، كما قال قائلهم:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى
فكن حجراً من جامد الصخر جلمدا(48)
* وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى
فأنت وعَيْرٌ في الفلاة سواءُ(49)
* وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى
فمالك في طيب الحياة نصيبُ(50)
ولا ريب أن المتجرد في عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل.
ولكنَّ حصرَ الحبِّ والعشق في زواية حُبِّ الصور المحرمة_جهل وانحراف; ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعمّ، وصوره أشمل.
وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها; فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وحب الطبيعة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه.
ولهذا يجد أهل العلم من اللذة في العلم، ما لا يحاط به، أو يقدر على وصفه.
يقول الإمام الشافعي×مبينًا عظيم اغتباطه بالعلم، ولذته، وفرحه به:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي
من وصْلِ غانيةٍ وطيب عناقِ
وصرير أقلامي على صفحاتها
أحلى من الدوكاء(51) والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها
نقريْ لألقيْ الرمل عن أوراقي
وتمايلي طرباً لحل عويصةٍ
في الدرس أشهى من مدامة ساقي
وأبيت سهران الدُّجى وتبيته
نوماً وتغي بعد ذاك لحافي(52)
بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله_عز وجل_فهو أصل المحابِّ المحمودة، بل كل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك.
قال ابن القيم×: =فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله_تعالى_واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن الله_تعالى_أو تنقصها; فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق.
فمحبة الله _عز وجل_ أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
والمحبة مع الله أصل الشرك، والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها+(53).
وقال في موضع آخر متحدثاً عن فضل محبة الله_عز وجل_: =ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها الله _تعالى_ وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه; فيوحِّد محبوبه، ويوحِّد حبه.
فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ حتى يبذلها له; فهذا الحب_وإن سمي عشقاً_فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله; فلا يحب إلا الله+(54).
ولهذا قال النبي_عليه الصلاة والسلام _: =ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار+(55).
قال ابن القيم×عن هذا الحديث: =فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبةُ رسوله هي من محبته، ومحبةُ المرء إن كانت الله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله، مضعفة لها.
وتَصْدُق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.
ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة; فإن الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر_كان الله أحبَّ إليه من نفسه.
وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهرًا وباطناً.
وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان+(56).
وقال×: =والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً مثاباً عليه، وذلك أنواع:
أحدها: محبة القرآن; بحيث يَغْنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومرادِ المتكلم_سبحانه_منه.
وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه; فمن أحب محبوباً أحب كلامه+(57).
وقال: =وكذلك محبة ذكره_سبحانه وتعالى_من علامة محبته; فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه; فيحتاج إلى من يذكِّره.
وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه; فَعِشْقُ ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق.
وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق.