الجزء الثاني :
أما النظرة الرابعة أيها الإخوة الكرام : أن إقامة دولة الإسلام التي أصبحنا نعلم أنها فرض فرضه الله سبحانه وتعالى على المسلمين , وأصبحنا نعلم أنها عمل من الأعمال التي يجب على المسلمين أن يقوموا به حتى يستحقوا الإستخلاف والتمكين والأمان في الأرض , يجب أن نفهم أنها ليست مكافأة بحد ذاتها , بقدر ما هي عمل يجب على المسلمين إنجازه وإتمامه .
وإننا أيها الإخوة الكرام : إذ نؤمن أنه لا يكون عمل على هذه الأرض إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى , ولا يكون نجاح ولا صلاح إلاَّ بتوفيق منه , فإن الله هو الموفق , وهو المستعان , وهو الهادي إلى سواء السبيل , وهو الذي عليه التكلان .
ولكن أيها الإخوة الكرام : أنظروا معنا فيما قد أجمع عليه العلماء من أن أعمال الإنسان المتعلقة بالصلاح , والمتعلقة بطاعة الله ِسبحانه وتعالى , والمتعلقة بتحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , والمتعلقة بموافقة الحكم الشرعي , والمتعلقة بالإقتداء بالنبي عليه السلام , والمتعلقة بالتزام العبادات والطاعات , والمتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ أي أعمال الصلاح ـ هذه كلها أعمال اختيارية لا تقع على المسلم جبراً عنه , وعلى هذا عقيدة المسلمين .
فإذا كان الصلاح يختارُه الإنسان المسلم اختياراً بتوفيق من الله سبحانه وتعالى , فإن إقامة دولة الإسلام أيضاً عملٌ يجب أن يقوم به المسلم ملتزماً بالكيفية الثابتة التي جاء بها الرسول الهادي عليه السلام , وأن لا يحيد عنها قيد أنملة , لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله فرض فروضاً فلا تضيعوها , وحدَّ حدوداً فلا تنتهكوها ) .
حتى يستحق رضوان الله سبحانه وتعالى , وبهذا تكون دولة الإسلام ليست مكافأة , وإنما تكون فرضاً فرضها الله علينا , وعملاً يجب علينا إنجازه , وهذا كله بتوفيق من الله سبحانه وتعالى وإذن ٍمنه. والدليل على ذلك , أو الشاهد عليه أن التحاق الجزيرة العربية بدولة الإسلام لم يكن لأهل مكة على سبيل المثال مكافأة !
فالرسول عليه السلام قد خرج من مكة إلى يثرب لإقامة دولته التي مكنه من إقامتها الأنصار بتوفيق من الله سبحانه وتعالى , ولكن أيُّ عمل ٍقام به أهل مكة من كفار قريش حتى يستحقوا مُكافأة أن يُصبحوا جزءً من دولة الإسلام , فهم قد ظلوا على كفرهم حتى فـُتحت مكة , إذن فلا يمكن أن يكونوا قد عملوا أيَّ عمل ٍيستحقون به أن يصبحوا جزءً من دولة الإسلام , إلاَّ أنهم أصبحوا جزءً من دولة الإسلام بعدما أسلموا , وحَسُن إسلامهم , وصلح حالهم , وأصبحوا بذلك جنوداً مغاوير في جيش الرسول صلى الله عليه وسلم وأبطالاً مجاهدين .
فمجرد إقامة دولة الإسلام ليس بحد ذاته مكافأة , ولكنه فرض فرضه الله سبحانه وتعالى على الناس .
والنظرة الخامسة أيها الإخوة الكرام : أننا يجب أن نعلم أن دولة الإسلام لا تتنزل من السماء , فهي ليست معجزة من معجزات الأنبياء , وهي ليست كرامة من كرامات الأولياء , ولكنها أيها الإخوة الكرام عملٌ بشري , نعم وأكرر أن إقامة دولة الإسلام عملٌ بشريٌّ , وأذكركم مرة أخرى بأننا نؤمن بأنه لا يكون عملٌ إلاَّ بإذن الله , ولا يكون نجاح ولا إتمام لأيِّ مهمة إلاَّ بإذنه وبتوفيق منه , ولكن , هناك أعمال بشرية كلفنا بها المولى من أوامر ونواه وجعلها منوطة بالإستطاعة ومنها القيام بالفرائض , وهي جميعها تكون تحت الممكنات وليست من المستحيلات , فالله سبحانه وتعالى لا يكلف الإنسان ما لا يطيق , فالعمل لإقامة الخلافة فرض , بل هو تاج الفروض وأهمُّها وباستطاعة المسلمين أن يقوموا به , وأن يتلبسوا بالعمل لإقامته وهو أمر مقدور عليه , والنتائج ليست بأيدينا , وإنما كل شيء بأمر الله , وهذا من القدر ولا دخل لنا فيه ولا نـُسأل عنه , وإنما سنسأل يوم القيامة : ماذا عملتم فيما علمتم ؟ ولا نسأل عن النتائج لأنها بيده سبحانه وتعالى .
ولكن هناك أعمال بشرية وأنتم تعلمون هذا , وهو ثابتٌ , وشاهده وثبوته أنه لما قامت دولة الإسلام الأولى التي أقامها محمد وصحبه ما قامت إلاَّ بأعمال ٍبشرية , فإنه عليه الصلاة السلام وقد خـُيِّر في أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يُطبق على أهل مكة الأخشبين فيقضي عليهم ! إلاَّ أنه عليه السلام أبى ذلك , وانتم تعلمون هذا ,وتعلمون أنه عليه السلام قد سعى لطلب النصرة , فمنهم من أعطاه إياها مشروطة بأن يكون لهم الأمر من بعده فرفض , وأوذي في سبيل الله حتى أدميت قدماه الشريفتان , وأصابه وصاحبه الشدة والعذاب , ورغم ذلك كله كان يقول : اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون .
نعم : اختار غير ذلك , وأنتم تعلمون هذا, وتعلمون أنه قد سعى, يمشي في الطرقات, ويخاطب الناس متكلماً, ويطلب النصرة, ويدعو القوم , ويدعو القبائل التي كانت تحج إلى مكة , ويطرق أبوابهم , ويستنصر القبيلة الفلانية , والقبيلة العلاَّنية , حتى أكرمه الله فاستجاب له نفرٌ من أهل يثرب وقبلوا دعوته .
ثم إنه عليه السلام قد خرج مهاجراً في حفظ الله ورعايته , وأن الأنصار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم همُ الذين نصروه عليه السلام وأقاموا له الدولة, وأعطوه البيعة , وأعطوه السلطان , وأعطوه النصرة , وأعطوه المنعة , ومنعوه كما عاهدوه , وصدقوا ما عاهدوا الله وما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عليه , قد قاموا بذلك وهم بشر, نعم لقد كانوا بشراً , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم من البشرِ, جاؤوا إليه, وآمنوا بما جاء به , ثم رجعوا , فتعلموا الإسلام , وبايعوه بيعة العقبة الأولى , ثم بايعوه بيعة العقبة الثانية , وقاتلوا معه , وقتل منهم في سبيل الله من قتل , وجرح من جرح , وأسر من أسر, وهذا كله كان عملاً بشرياً , لذلك فإننا إذا ما فهمنا بأن إقامة دولة الإسلام عملٌ بشري , وليس معجزة , وليس كرامة , وإنما عمل بشري كما ذكرنا , فإن هذا يقودنا إلى النظرة التي تليها , النظرة السادسة .
والنظرة السادسة أيها الإخوة الكرام : سؤال نطرحه الآن , ويجب علينا وعليكم وعلى الأمة أن تطرحه على نفسها : هل من الحقِّ القولُ بأن أمة الإسلام عاجزة ٌاليوم عجزاً مقعداً عن إقامة دولة الإسلام والحكم بما أنزل الله ؟!
ثمَّ ما هو العجز المُقعد ؟ إن العجز المقعد أيها الإخوة الكرام : الكساح الذي يمنع من المشي , أو العمى الذي يحجب الإبصار, أو الشلل التام الذي يصيب الجسم فيقعد صاحبه ويمنعه الحركة , والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : هل أمة الإسلام مزجوجٌ بها في سجون لا تستطيع أن تخرج منها أبدا؟!
هل سُـلط على عقولهم حقيقة ولا أقول مجازاً : من يوجههم ويتحكم بهم ؟!
كما يتم التحكم بالآليات والمعدات ؟!
ليس هذا صحيحاً فأمة الإسلام ليست عاجزة ًعجزاً مقعداً عن الحكم بما أنزل الله , بإقامة دولة الإسلام ,
وإنما أمة الإسلام قادرة ٌعلى التغيير,
وهي تمتلك من الطاقات , وتمتلك من الإمكانيات ما يُأهلها ويُمكنها على الحقيقة من أن تقيم دولة الخلافة فوراً ,
ولكنها لا تـُوجَّهُ الوجهة َالصحيحة , ولا تسير إلى حيث يجب أن تسير , والكثير منهم لا يلتزمون بأمر الله ولا بأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ,
إذن فما الذي ينقص أمة الإسلام ؟!
أينقصها الرجال ؟!
لا والله !
فهم أكثر من المليار ونصف المليار من المسلمين , والغالبية العظمى منهم من الشباب ,
وهذا من سُنـَّة النبي صلى الله عليه وسلم الذي حثَّ الشباب على التناكح والتناسل والتكاثر ,
لذلك فإنا نجد أن نسبة الشباب بين المسلمين هي أعلى نسبة قياساً على غيرها من الأمم الأخرى على وجه الأرض .
هؤلاء الشباب ماذا ينقصهم ؟ هل على سبيل المثال , طاقة الرجل الأمريكي , أو البريطاني , أو طاقة الرجل النصراني , أو طاقة الرجل اليهودي , تساوي طاقة مئة رجل مسلم ؟!
من حيث عضلاته وقوة جسده أو عقله ؟!
لا والله ! ليس هذا بواقع أبداً ,
فالطاقة البشرية موجودة , ومقسمة على طاقات علمية , وطاقات عملية , وطاقات مهنية , وطاقات حيثما يلزم أن يكون هناك طاقات .
والطاقات العلمية منها العلوم الشرعية , ومنها العلوم الدنيوية , وهذا معلوم , فيوجد عندنا بوفرة : أطباء , ومهندسون , وعلماء ذرةٍ , وعلماء الكترونيات , وما شئت من أمور, فإنها كلها موجودة عند أبناء المسلمين فهناك طاقات وإمكانيات , وهناك علماء بالأصول , والفقه , والشريعة , والتفسير, والحديث واللغة , نعم طاقات بشرية هائلة موجودة لدى الأمة , كل هذا وزيادة , علاوة على الشباب الجبار, والعقول الفذة , والدماء النقية , والأخلاق الحميدة ,
والأهم من هذا كله , العقيدة الصحيحة الموافقة لفطرة الإنسان , والمقنعة ُلعقله بحيث تملأ القلب راحة وطمأنينة .
أيها المؤمنون الموحدون : ماذا ينقص الأمة ؟! أتنقصها الأموال ؟!
إن أموال الأمة أيها الإخوة الكرام تنفق اليوم على أمريكا وعلى أوروبا وعلى يهود وسائر بلاد الكفر, وتدفع أتاوات للحروب التي أشعلها الحكام بإيعازٍ من الكفار المستعمرين , وتدفع فواتير للحروب التي تشنها الدول الكافرة على المسلمين من هذه الأموال !
إذاً هناك طاقات هائلة جداً !
فما الذي ينقص أمة الإسلام , أينقصها بقعة جغرافية ملائمة أو مناسبة لإقامة الدولة !
وبلاد المسلمين تقع على أهم المواقع , وأهم المعابر البرية والبحرية والجوية , في سائر الكرة الأرضية ,
نعم : بلاد المسلمين تمتد من أندونيسيا حتى الأندلس , وأهم المعابر قاطبة موجودة في بلاد المسلمين !
ولذلك أدرك الكافر المستعمر ومنذ قرون طويلة ضرورة السيطرة عليها ,
إذاً فإن الأمة لا تنقصها طاقات بشرية , ولا طاقات مادية , ولا تنقصها الأرض !!!
ولكن ينقصها قرار توجيه مجهودها الوجهة الصحيحة , هذه الأمة التي لا تنفك كل يوم تـُخرج أجيالاً وأجيالاً من المجاهدين المقاتلين , ومن العلماء المجتهدين , ومن العالمين بالأصول والفقه والفكر, ومن العاملين بشتى المناحي العلمية والعملية , وكلهم مسلمون يعشقون الإسلام , ويضحون في سبيله بالغالي والنفيس , وليس أدل على حبهم للإسلام من ما حصل في تركيا من انتخابات شارك فيها الملايين واختاروا الإسلام ,
أليس هؤلاء كلهم طاقة من طاقات الأمة ؟!
أترى لو وجِّهوا الوجهة الصحيحة لإقامة الخلافة ؟!
ألا يستطيعون التغيير الجذري والصحيح ؟!
بلى يستطيعون , وكيف لا يستطيعون وهم القوة البشرية الحقيقية التي لا تـُرد إن قامت على صعيد واحد وعلى قلب رجل واحد , فإذا كان مليون أو مليونان أو أكثر قد انتخبوا الإسلاميين في تركيا , ألا تستطيع هذه الملايين تغيير واقع مرير في بلد من بلاد المسلمين , والقضاء على النظام العلماني هناك ؟!
ومثل ذلك إذا ما تجمهر الملايين في جميع عواصم بلاد المسلمين , وطالبوا بالإسلام السياسي المتمثل بالخلافة , وقاموا بعصيان مدني !
فلا يذهب الطالب إلى مدرسته , ولا العامل إلى عمله , ولا الموظف إلى وظيفته , لتتوقف المؤسسات عن استقبال الجمهور , ولتتوقف المواصلات عن الحركة , ولتعطل كل المؤسسات الحكومية والدوائر, وليقفوا في صعيد واحد مطالبين بتنحية الحكام , ومطالبين بدولة الإسلام ,
ولتكن حالة طوارىء واستنفار !!
فماذا ستصنع الأنظمة البالية والفاسدة حينها ؟!
أقولها بملىء فيَّ : لا تستطيع أن تقضيَ عليهم , أو أن تزجَّ بهم في السجون ,
وعدى عن ذلك كله , فإن أمام كل شرطي , أو جندي , أو رجل مخابرات أمامه من المعتصمين : إما والد , أو ولد , أو أخ , أو قريب , أو صديق ,
أو من يُدلي إليه بصلة أو رحم !
على أن يسبق ذلك كله إيجاد رأي عام عن الإسلام بشكل مقنع , مع كشف عمالة الحكام وسوء رعايتهم , وأننا لم نعد نثق بأقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم ,
وأننا لن نركن إليهم بعد هذا اليوم , شاؤوا أم أبوْا .
وأما إن جئنا بمثال من الواقع خلاف ما نقول , فإننا نرى الطاقات تكاد تكون غزيرة , وتتدفق كشلالات في أعمال كثيرة ,
إلاَّ أنها لا تصبُّ في إقامة الدولة , ونرى كذلك جهوداً جبارة مهدورة , وهي أيضاً لا تصب في صالح الأمة ,
وهي : إما أن تكون موجهة من قِبل الأنظمة للتنفيس عن الغضب الذي يجيش في أعماق الأمة بسبب ما يجري ,
وإما أن تكون صراعات على أمور ليست بالقضايا المصيرية , تسخر لأرب في نفس يعقوب قضاه ,
ومن أمثلة ذلك : الإنتخابات في فلسطين والعراق ومصر والأردن وغيرها ,
وإلهاء الشعوب برغيف الخبز تارة ,
وبالماء تارة , وبالكهرباء تارة أخرى ,
فينشغل الناس بها سنوات وسنوات , وهكذا دواليك !!
وهذا واضح أيها الإخوة الكرام , مما يدلل على أن الأمة ليست عاجزة عجزاً مقعداً عن إقامة دولة الإسلام .
يتبع الجزء الثالث بإذنه تعالى