الجزء الثامن :
ولا يجوز الخروج على الحاكم إلا إذا أظهر الكفر البواح كما ورد في حديث عبادة بن الصامت في البيعة فقد ورد فيه ( فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان )).
والذي يملك عزل الخليفة إنما هو محكمة المظالم، وذلك أن حدوث أي أمر من الأمور التي يعزل فيها الخليفة، والتي يستحق فيها العزل مظلمة من المظالم فلا بد من إزالتها، وهي كذلك أمر من الأمور التي تحتاج إلى إثبات، فلا بد من إثباتها أمام قاض، وبما أن محكمة المظالم هي التي تحكم بإزالة المظالم في الدولة الإسلامية، وقاضيها هو صاحب الصلاحية في إثبات المظلمة والحكم بها، لذلك كانت محكمة المظالم هي التي تقرر ما إذا كانت قد حصلت حالة من الحالات السابقة، أم لا، وهي التي تقرر عزل الخليفة.
وباعتبار أن الديمقراطية هي حكم الأكثرية، فإن اختيار الحكام وأعضاء المجالس النيابية، وأعضاء المؤسسات والسلطات والهيئات يتم بالأكثرية، كما أن سن التشريعات في المجالس النيابية، واتخاذ القرارات من المجالس والسلطات والمؤسسات والهيئات كافة تتم برأي الأكثرية.
لهذا كانت الأكثرية ملزمة في النظام الديمقراطي للجميع حكاما وغير حكام، لأن رأي الأكثرية هو المعبر عن أرادة الشعب، وما على الأقلية ألا أن تخضع وتنصاع لرأي الأكثرية.
أما في الإسلام فالأمر مختلف جدا :
فالأمور التشريعية لا يتوقف الأمر فيها على رأي الأكثرية، أو الأقلية، وإنما يتوقف على النصوص الشرعية، لأن المشرع إنما هو الله، وليس الأمة وصاحب الصلاحية في تبني الأحكام التي تلزم لرعاية شؤون الناس وتسيير الحكم إنما هو الخليفة وحده، فيأخذ الأحكام من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله بناء على الدليل الأقوى باجتهاد صحيح. ولا يجب على الخليفة أن يرجع لمجلس الأمة لأخذ رأيه فيما يريد تشريعه من أحكام، وإن كان يجوز له ذلك، فقد كان الخلفاء الراشدون يرجعون إلى الصحابة لأخذ رأيهم عندما يريدون تبني حكم من الأحكام، كما حصل مع عمر بن الخطاب عندما أراد أن يتبنى حكما في الأراضي المفتوحة في الشام ومصر والعراق، فقد أستشار المسلمين في أمرها.
فإذا رجع الخليفة إلى مجلس الأمة، لأخذ رأيه في الأحكام التي يريد أن يتبناها، فإن رأي المجلس لا يكون ملزما له، ولو كان بالإجماع أو بالأكثرية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يرضخ لرأي المسلمين، الذين اعترضوا على عقد صلح الحديبية - وكانوا كثرة - ورفض رأيهم، ومضى في إتمام العقد وقال لهم: (( إني عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره )) والصحابة الكرام قد أجمعوا على أن للإمام أن يتبنى أحكاما معينة، ويأمر بالعمل بها. وعلى المسلمين طاعتها، وترك آرائهم.
ومن ذلك استنبطت القواعد المشهورة "أمر الإمام يرفع الخلاف". "أمر الإمام نافذ ظاهرا وباطنا". "للسلطان أن يحدث من الاقضية بقدر ما يحدث من مشكلات"
على أن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر حيث قال: ((((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (59)النساء)) وأولوا الأمر هم الحكام.
ومثل التشريع الأمور الفنية والفكرية التي تحتاج إلى خبرة وفكر وإمعان نظر، فإن العبرة فيها بالصواب، وليس بالأكثرية، أو الأقلية، فيرجع فيها لأصحاب الاختصاص، فهم الذين يدركون واقعها، فالأمور العسكرية يرجع فيها للخبراء العسكريين، والأمور الفقهية يرجع فيها للفقهاء المجتهدين، والأمور الطبية يرجع فيها للأطباء المختصين، والأمور الهندسية يرجع فيها إلى مشاهير المهندسين، والامور الفكرية يرجع فيها لكبار المفكرين وهكذا، فالعبرة في مثل هذه الامور بالصواب وليس بالاكثرية والصواب يؤخذ من مظانه، وهم أصحاب الاختصاص فيه وليس بالكثرة.
على أن أعضاء المجالس النيابية سواء عند المسلمين أم في الغرب فإن غالبية أعضائها ليسوا من أصحاب الاختصاص، وليسوا على دراية أو وعي على مثل هذه الأمور، لذلك لا توجد فائدة أو قيمة لرأي أكثرية أعضاء المجالس النيابية في هذه الأمور، وموافقتهم أو معارضتهم تكون شكلية، وليست عن وعي وإدراك، ولاعن معرفة، لذلك لا تعتبر الأكثرية في هذه الأمور ملزمة، ودليل ذلك ما حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم لمانزل على رأي الحباب بن المنذر في معركة بدر - وكان الحباب خبيرا بالأمكنة- عندما أشار عليه أن يترك المكان الذي نزل فيه-إن لم يكن وحيا- لأنه ليس بمنزل صالح للحرب، فنزل الرسول على رأيه، ونزل في المكان الذي حدده له، وترك الرسول رأيه، ولم يستشر الصحابة في ذلك.
أما الأمور التي ينطلق منها إلى العمل دون حاجة إلى تفكير وروية وأعمال فكر، فأن أمثال هذه الأمور يؤخذ فيها برأي الأكثرية، لأن الأكثرية تدركها، ويمكن أن تعطي الرأي فيها بكل يسر وسهولة، بما تراه مصلحة، وذلك مثل: أننتخب فلانا أم فلانا، وهل نخرج أو لا نخرج، وهل نسافر صباحا أو ليلا، وهل نركب طائرة أو باخرة أو قطارا.
فأمثال هذه الأمور يدركها كل إنسان ويمكن أن يعطي فيها رأيا لذلك يكون رأي الأكثرية فيها معتبرا، ويؤخذ به، ويكون ملزما. ودليل ذلك ما حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في معركة أحد، فقد كان رأي الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة عدم الخروج من المدينة، وكان رأي الكثرة من الصحابة خاصة الشباب الخروج لملاقاة قريش خارج المدينة، فكان الرأي دائرا حول الخروج وعدمه.
ولما كانت الكثرة تقول بالخروج نزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيهم وترك رأي كبار الصحابة، وخرج إلى أحد لملاقاة قريش.
إن فكرة الحريات العامة هي من أبرز الأفكار التي جاءت بها الديمقراطية، وتعتبر أساسا من أسسها الهامة، إذ بها يتمكن الفرد من ممارسة إرادته ، ومن تسييرها كما يشاء، دون ضغط او إكراه ، والشعب لا يستطيع أن يعبر عن إرادته العامة إلا بتوفر الحريات العامة لجميع أفراده.
والحرية الفردية مقدسة في النظام الديمقراطي، فلا يسمح للدولة ولا للأفراد بالتعدي عليها.
والنظام الديمقراطي الرأسمالي يعتبر نظاما فرديا، وحماية الحريات العامة وصيانتها تعتبر من اهم وظائف الدولة فيه.
والحريات العامة التي جاءت بها الديمقراطية لا تعني تحرر الشعوب المستعمرة من الدول التي تستعمرها، وتستغل ثرواتها، وتنهب خيراتها، لأن فكرة الاستعمار نتيجة من نتائج حرية التملك التي جاءت بها الديمقراطية.
كما أنه لا تعني التخلص من العبودية، والانعتاق منها، فالعتق لم يعد له وجود في عالمنا اليوم.
وإنما تعني الحريات العامة الحريات الأربع، التي هي :
حرية الاعتقاد.
حرية الرأي.
حرية التملك.
الحرية الشخصية.
وهذه الحريات العامة بأنواعها الأربعة غير موجودة في الإسلام، فالمسلم مقيد في جميع أفعاله بالأحكام الشرعية، وليس حرا في أي فعل، ولا توجد في الإسلام حرية، إلا حرية تحرير العبيد من الرق. وقد انتهى الرق من زمن بعيد.
والحريات الأربع تتناقض مع الإسلام وأحكامه تناقضا تاما في كل شيء.
وذلك:
أن حرية الاعتقاد تعني أن الإنسان يحق له أن يعتقد العقيدة التي يريدها، وأن يعتنق الدين الذي يود، دون ضغط أو إكراه، كما يحق له أن يترك عقيدته ودينه وأن يتحول إلى عقيدة جديدة، ودين جديد، أو أن يتحول إلى غير دين، يحق له أن يفعل كل ذلك بمنتهى الحرية دون ضغط أو إكراه .
فيحق للمسلم مثلا أن يتحول إلى النصرانية، أو إلى اليهودية، أو إلى البوذية، أو إلى الشيوعية، بمنتهى الحرية، دون أن يكون للدولة أو غيرها حق منعه من ذلك.
بينما الإسلام يحرم على المسلم أن يترك عقيدة الإسلام، وأن يرتد إلى اليهودية، أو النصرانية، أو البوذية أو الشيوعية، أو الرأسمالية.
ومن يرتد عن الإسلام يستتاب فإن رجع كان به، وإن لم يرجع يقتل ويصادر ماله، ويفرق بينه وبين زوجته قال صلى الله عليه وسلم ((من بدل دينه فاقتلوه )). ،
وإن كان المرتدون جماعة، وأصروا على ارتدادهم فإنهم يقاتلون، حتى يرجعوا أو يبادوا.
كما حصل مع الذين ارتدوا بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، إذ أن أبا بكر قاتلهم قتالا شديدا حتى رجع من بقي منهم ممن لم يقتل.
أما حرية الرأي في النظام الديمقراطي فإنها تعني أن الفرد له أن يحمل أي رأي وأي فكر، مهما كان هذا الرأي وهذا الفكر، وله أن يقول أي فكر وأي رأي، وأن يدعو إلى أي فكر وأي رأي، بمنتهى الحرية دون قيد أو حد، مهما كان هذا الرأي وهذا الفكر، وله أن يعبر عن ذلك بأي أسلوب من الأساليب المتاحة له، دون أن يكون للدولة، أو غيرها أي حق في منعه من ذلك ما دام لم يتعد على حرية الآخرين، فأي منع لحمل الرأي أو التعبير عنه، أو الدعوة له يعتبر اعتداء على الحرية.
أما الإسلام فالأمر فيه مختلف، فالمسلم فيه مقيد في جميع أفعاله وأقواله بما جاءت به النصوص الشرعية، فلا يجوز له أن يعمل عملا أو أن يقول قولا إلا إذا جاءت الأدلة الشرعية بجوازه.
يتبع بإذن الله
ــــــــــــــ