الجزء الرابع :
وبالرغم من ظهور ما جره الاستعمار الغربي الديمقراطي على العالم من كوارث وويلات، ومن نكب الشعوب المستعمرة والمتأخرة من سرقة ثرواتها، ونهب خيراتها، وإفقار أهلها، وإذلال شعوبها، وجعل بلدانها أسواقا استهلاكية لصناعاته ومنتوجاته.
وبالرغم من وضوح ما وصلت إليه المجتمعات الديمقراطية الغربية من الانحدار إلى درجة البهيمية القذرة التي لم تصل إليها تجمعات البهائم من جراء الانفلات الذي أطلقت الحريات الشخصية عنانه.
وبالرغم من كون الديمقراطية بمعناها الحقيقي غير قابلة للتطبيق، ومن كونها بمعناها بعد التأويل لا تنطبق على الواقع، ولم توجد في الواقع.
وبالرغم من الكذب والتضليل في قول الديمقراطيين : إن البرلمانات هي التي تمثل الإرادة العامة، وإنها التجسيد السياسي للإرادة العامة لجماهير الشعب، وإنها تمثل رأي الأكثرية، وان التشريعات التي تشرعها بأكثرية أصوات النواب تعبر عن إرادة أكثرية الشعب، وفي قولهم إن الحكام يختارون من أكثرية الشعب، وإنهم يستمدون سلطتهم من الشعب.
وبالرغم من المساوي البارزة في النظام الديمقراطي فيما يتعلق بالحكم والحكام عندما لا توجد في البلد أحزاب كبيرة تستطيع أن تكون أغلبية في مجلس النواب.
بالرغم من كل ذلك وأكثر منه فإن الغرب الكافر قد استطاع أن يوجد لأفكار الديمقراطية الفاسدة سوقاً في بلاد المسلمين.
أما كيف استطاع هذا الغرب الكافر أن يوجد لأفكار الديمقراطية الكافرة والتي لا علاقة لها بأحكام الإسلام سوقاً، في بلاد المسلمين.
فذلك أن الدول الأوربية الكافرة، التي تحمل العداء الشديد للإسلام والمسلمين، والتي أكل الحقد اللئيم على الإسلام والمسلمين كبدها – وصدق الله العظيم حيث يقول : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ) الآية 118 آل عمران
– بعد أن أدركت إن السر في قوة المسلمين إنما هو الإسلام، لان عقيدته هي منشأ هذه القوة العظيمة عند المسلمين، وضعت خطة جهنمية لغزو العالم الإسلامي غزواً تبشيرياً، وغزواً ثقافياً حملت فيه ثقافتها وأفكارها – والديمقراطية منها – وحضارتها، ووجهة نظرها في الحياة، وأخذت تدعو المسلمين إليها، بغية أن يتخذوها أساسا لتفكيرهم، ووجهة نظرهم في الحياة، لتحرفهم بذلك عن الإسلام، وتبعدهم عن التقيد به، وعن الالتزام بتطبيق أحكامه، ليسهل لها القضاء على الدولة الإسلامية – دولة الخلافة – وبالتالي القضاء على تطبيق الإسلام وأحكامه في الحياة والدولة والمجتمع، ليأخذ المسلمون أفكارها وأنظمتها وقوانينها الكافرة، ليضعوها موضع التطبيق والتنفيذ مكان الإسلام، حتى يبعدوا عن الإسلام، وتمكن السيطرة عليهم، وصدق الله حيث يقول : (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120)) البقرة
وقد اشتدت هذه الغزوة التبشيرية والثقافية في الوقت الذي زاد فيه انحطاط المسلمين الفكري والسياسي أواخر أيام الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي الوقت الذي تغير فيه ميزان القوى لصالح الدول الأوربية، بعد الانقلاب الفكري والصناعي في أوروبا، وبعد حصول المخترعات والمكتشفات العلمية، والتي صارت أوروبا بواسطته تسير بخطى حثيثة إلى الرقيَّ والتقدم، بينما بقيت الدولة العثمانية جامدة، وأخذت تزداد ضعفاً يوماً بعد يوم.
مما فتح الباب للثقافة الغربية، والأفكار الغربية، والحضارة الغربية، والأنظمة الغربية لان تدخل إلى بلاد المسلمين.
وقد اتخذت الدول الأوروبية في غزوها التبشيري والثقافي للبلاد الإسلامية أسلوب الحطَّ من شأن الإسلام، وتشويه أحكامه، وتشكيك المسلمين فيه، وحملهم على الامتعاض منه، وانه سبب تأخرهم وانحطاطهم، في الوقت الذي تمجد فيه الغرب وحضارته، وتُعلي شأن أفكاره ونظامه الديمقراطي، وتشيد بعظمة أنظمته وقوانينه.
كما اعتمدت أسلوب التضليل، فأوهمت المسلمين أن حضارتها لا تتناقض مع حضارة الإسلام، لان حضارتها مأخوذة منه، وأن أنظمتها وقوانينها لا تخالف أحكام الإسلام.
وأضفت على أفكارها الديمقراطية. ونظامها الديمقراطي صفة الإسلام، وأنها لا تخالف الإسلام، ولا تناقضه، بل هي من الإسلام، لأنها هي الشورى بعينها، وهي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحاسبة الحكام. فأثر ذلك على المسلمين تأثيرا كبيرا، وأدى إلى أن تتحكم فيهم الأفكار الغربية، والحضارة الغربية.
كما أدى إلى أن يأخذوا بعض الأنظمة والقوانين في أواخر أيام الدولة العثمانية، ومعظم الأنظمة والقوانين الغربية بعد القضاء على دولة الخلافة.
وقد اثر ذلك على الفئة المثقفة، وعلى رجال السياسة، وحتى على حملة الثقافة الإسلامية، وبعض حملة الدعوة الإسلامية، وعلى جمهرة المسلمين.
أما الفئة المثقفة فان كثيراً منها قد تأثر بالثقافة الغربية، التي تثقفوا على أساسها، سواء من درس منهم في الغرب أو من درس في بلاد المسلمين، لان المناهج في بلاد المسلمين قد وضعت، بعد الحرب العالمية الأولى على أساس فلسفة الغرب، ووجهة نظره في الحياة، حتى صار كثير من المثقفين يستمرئون الثقافة الغربية، ويتعشقونها، ويمجدون الغرب الذي أتى بها، ويستنكرون الثقافة الإسلامية، وأحكام الإسلام إذا تناقضت مع الثقافة الغربية، ومع الأنظمة والقوانين الغربية، وصاروا يمقتون الإسلام كما يمقته الأوروبي الكافر، ويحملون للإسلام، وللثقافة الإسلامية، ولأنظمة الإسلام وأحكامه العداء اللئيم، كما يحمله الأوروبي الكافر، وصاروا أبواق دعاية للغرب وحضارته وأفكاره وأنظمته، لمهاجمة الإسلام وحضارته، وأحكامه وأنظمته، والحط من شانه.
أما رجال السياسة فقد أخلصوا للغرب ونظامه، وربطوا أنفسهم به، وجعلوه قبلة أنظارهم، به يستعينون، وعليه يتكلون، وجعلوا من أنفسهم حراساً لقوانينه وأنظمته، وخداماً مسخرين لحفظ مصالحه، وتنفيذ مؤامراته. ناصبوا الله ورسوله العداء، فكانوا حرباً على الإسلام السياسي، وعلى حملة دعوته المخلصين، يبذلون كل ما في طاقتهم للحيلولة دون إقامة الخلافة، ودون عودة الحكم بما انزل الله. قاتلهم الله أنى يؤفكون.
أما حملة الثقافة الإسلامية فأنهم لعدم وعيهم على الإسلام، وعدم إدراكهم حقيقة واقع الأحكام الشرعية، وحقيقة واقع حضارة الغرب وأفكاره وأنظمته، وعدم إدراكهم مناقضة حضارة الغرب وأفكاره، ووجهة نظره لعقيدة الإسلام، وأحكامه وحضارته ووجهة نظره.
وذلك لما طرأ على أذهان المسلمين من الضعف الشديد في فهم الإسلام وأحكامه، ومن الخطأ في فهم الشريعة الإسلامية لتطبيقها على المجتمع، فصار الإسلام يفسر بما لا تحتمله نصوصه، وتؤول أحكامه ليتفق مع الواقع القائم، بدل أن يغير الواقع القائم وفق أحكام الإسلام، فأخذوا بأحكام لا سند لها من الشرع، أو كان لها سند ضعيف، بحجة القاعدة الخاطئة التي وضعوها " لاينكر تغير الأحكام بتغير الزمان " وصار تأويل الإسلام على لسان الكثيرين ليوافق كل مذهب، وكل فكر، وكل مبدأ ولو خالف أحكام الإسلام، ووجهة نظره، فقالوا إن حضارة الغرب وأفكاره لا تتناقض مع حضارة الإسلام وأحكامه، لأنها مأخوذة من حضارة الإسلام، وقالوا إن النظام الديمقراطي في الحكم، والنظام الرأسمالي في الاقتصاد لا يناقضان أحكام الإسلام، مع أنهما في واقعهما نظاما كفر. وقالوا إن الديمقراطية من الإسلام، وان الحريات العامة من الإسلام مع أنهما تتناقضان تناقضاً كليا مع الإسلام.
وبذلك التبس عليهم ما يجوز للمسلمين أخذه من مثل علوم الطب والصيدلة والهندسة والكيمياء وعلوم الزراعة والصناعة وأنظمة المرور والمواصلات وأمثالها من المباحات ما دامت لا تخالف الإسلام.
وما لا يجوز لهم أخذه، من كل ما يتعلق بالعقائد والأحكام الشرعية لأنها لا يجوز أن تؤخذ إلا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة، ومما ارشدا إليه من قياس وإجماع صحابة.
وبهذا استطاع الغرب الكافر أن يسوق حضارته ووجهة نظره، وان يسوق أفكار نظامه الديمقراطي، وأفكار نظامه الاقتصادي، وأفكاره في الحريات العامة إلى بلاد المسلمين.
يتبع بإذن الله
ــــــــــــــــــــــــــــ