إنها أشد بقع المقبرة سواداً ، وكأنها تناديني .. مشتاقة إليَّ : متى ستكون فيَّ ؟
أمشي محاذراً بين القبور .. وكلما تجاوزت قبراً تساءلت: أشقي أم سعيد ؟ ..
شقي بسبب ماذا .. أضيّع الصلاة ؟. ... أم كان من أهل الغناء والطرب .. أم كان من أهل الزنى ..
لعل من تجاوزت قبره الآن كان يظن أنه أشد أهل الأرض قوة .. وأن شبابه لن يفنى .. وأنه لن يموت كمن مات قبله ...أم أنه كان يقول : ما زال في العمر بقية ...
سبحان من قهر الخلق بالموت ....
أبصرت الممر ... حتى إذا وصلت إليه ووضعت قدمي عليه أسرعت نبضات قلبي فالقبور يميني ويساري .. وأنا ارفع نظري إلى الناحية الشرقية ..
ثم بدأت .. أولى خطواتي .. بدت وكأنها دهر .. أين سرعة قدمي .. ما أثقلهما الآن ..
تمنيت أن تطول المسافة ولا تـنـتهي ابداً .. لأنني أعلم ما ينـتظرني هناك ..
اعلم ... فقد رأيت القبر كثيرا .. ولكن هذه المرة مختلفة تماماً ...
أفكار عجيبة .. أكاد أسمع همهمة خلف أذني .. نعم ... أسمع همهمة جلـيّـة ....
وكأن شخصاً يتنفس خلف أذني .. خفت أن أنظر خلفي .. خفت أن أرى أشخاصاً يلوحون إليّ من بعيد .. .. خيالات سوداء تعجب من القادم في هذا الوقت ...
بالتأكيد أنها وسوسة من الشيطان .. لا يهمني شيء طالما أنني قد صليت العشاء في جماعه ..
أخيراً ... أبصرت القبور المفتوحة .. أقسم للمرة الثانية أنني ما رأيت أشد منها سواداً ..
كيف أتـتـني الجرأة حتى أصل بخطواتي إلى هنا ؟
بل كيف سأنزل في هذا القبر ؟
وأي شئ ينـتظرني في الأسفل ؟
فكرت بالإكتفاء بالوقوف و أن أصوم ثلاثة أيام تكفيراً لقسمي ..
ولكن لا .. لن أصل إلى هنا ثم أقف .. يجب أن أكمل ..
ولكن لن أنزل إلى القبر مباشرة .... بل سأجلس خارجه قليلاً حتى تأنس نفسي ....
ما أشد ظلمته .. وما أشد ضيقه ....
كيف لهذه الحفرة الصغيرة أن تكون حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة .. سبحان الله ..
يبدو أن الجو قد إزداد برودة .. أم هي قشعريرة في جسدي من هذا المنظر...
هل هذا صوت الريح ؟! ليس ريحاً .... لا أرى ذرة غبار في الهواء !!! ... هل هي وسوسة أخرى ؟؟؟
استعذت بالله من الشيطان الرجيم ... ثم أنزلت الشماغ ووضعته على الأرض ثم جلست وقد ضممت ركبتي أمام صدري أتأمل هذا المشهد العجيب ...
إنه المكان الذي لا مفر منه أبداً ..
سبحان الله .. نسعى لكي نحصل على كل شئ ... وهذه هي النهاية : لاشئ ...
كم تنازعنا في الدنيا ؟.. اغتبنا .. تركنا الصلاة .. آثرنا الغناء على القرآن ..
والكارثة أننا نعلم أن هذا مصيرنا .. وقد حذّرنا الله منه ورغم ذلك نتجاهل ..
أشحت بوجهي ناحية القبور وناديتهم بصوت خافت ... وكأني خفت أن يرد عليّ أحدهم :
يا أهل القبور .. مالكم ؟ .. أين أصواتكم ؟ .. أين أبناؤكم عنكم اليوم ؟..
أين أموالكم .. ؟ أين وأين .. كيف هو الحساب ؟ ..
أخبروني عن ضمة القبر .. أتكسر الأضلاع ؟
أخبروني عن منكر و نكير .. أخبروني عن حالكم مع الدود ..
سبحان الله .. نستاء إذا قـدم لنا أهلنا طعام بارد أو لا يوافق شهيتـنا .. واليوم .. نحن الطعام ..
يتبع