مفتاح اللغز!
ومفتاح حل اللغز الكوري مقابل الدراما العراقية التي أعدت أمريكا فصولها بالكامل وتسعى لتنفيذها دون أدنى معارضة عربية أو حتى الرغبة في المعارضة(!)، تتلخص في أن الكوريين ملكوا السلاح النووي أو في طريقهم، وأصبحت لهم القدرة على تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة، كما ملكوا السلاح (الصواريخ) القادر على حمل هذا التهديد إن لم يكن للمصالح الأمريكية مباشرة، فلمصالحها في شبة الجزيرة الكورية واليابان.
وعلى العكس.. سعت واشنطن وتل أبيب من البداية لضرب أي قدرات عراقية تتنامى في هذا المجال بداية من ضرب مفاعل العراق النووي (أوزوريك)، وانتهاء بحرب الخليج الأولى والثانية وعمليات التفتيش الصارمة منذ 1990 حتى الآن.
فلو كانت بغداد أو أي دولة عربية تملك السلاح النووي ما تجرأت واشنطن على امتهان كرامة العرب أجمعين كما تفعل الآن، وما تجرأ الصهاينة على العربدة في أرض فلسطين على النحو الذي يفعلونه.
المسألة بالتالي مسألة توازن رعب، ومصالح، وقدرة على إعداد العدة لا زال حكام العرب عاجزين عن القيام بها رغم أنها أحد دروس التاريخ الإسلامي التي لقَّنها العرب والمسلمون للعالم واستفاد منها الغرب!
والأهم أن القضية قضية (أمة) لا (حكام)، ولن يتسنى لهذه الأمة أن ترفع الذل عن نفسها وهي تراه بأعينها كل يوم يطبقه حكامها عليها قبل أن تفرضه أمريكا أو غيرها.
والأدهى أن بعض مراكز البحوث الأمريكية وخبراء السياسة -كما جاء في تقارير غربية- نصحوا الرئيس بوش فور توليه أن يتبع إستراتيجية التجاهل تجاه حكام العرب حتى يهرعوا هم إليه فيفرض عليهم شروطه لحل النزاع مع إسرائيل، وحينما سأل البعض عن رد فعل الشارع العربي قيل لهم إن الحكام هم أصحاب الكلمة ولا وجود للشعوب!
وحتى لو قيل إن حكومة كوريا الشمالية من أكثر الحكومات ديكتاتورية وسوقا لشعبها بالعصا، فيكفيها أنها تحدثت في الأزمة مع واشنطن باسم شعبها لتضمن وحدة الموقف الكوري الشمالي حكومة وشعبا، بل إن أبناء كوريا الجنوبية (حلفاء واشنطن) أخذتهم العزة وراحوا يدافعون عن بني جلدتهم في الشمال رغم الحروب التي قامت بينهم ويسعون لحل الأزمة، ويرددون مع الساخرين العرب: "لو لم أكن كوريا لودِدْتُ أن أكون كوريا"!
وهناك دروس عديدة يمكن للعرب أن يستفيدوا منها في الأزمة الكورية بدلا من حالة الهوان و"اللا حول ولا قوة" على النحو التالي:
1-تمسَّك الكوريون بتعاليم "دينهم" وشنوا هجوما متقدما على "العنصرية" أو ما يمكن تسميته "اللاساميه" الأمريكية حتى إنهم احتجوا على إهانة الأمريكان (في فيلم جيمس بوند الأخير "مت في يوم آخر") لديانتهم البوذية بتصوير البطل الأسطوري الغربي وهو يمارس الجنس في معبد بوذي، ونجحوا في حشد تأييد كل أبناء الكوريتين في هذه المعركة، وعلى العكس وصل التبجح الأمريكي لحد المطالبة بتغيير المناهج الدينية الإسلامية، بل وتغيير نظام خطب الجمعة -وفق خطة تطوير الخطاب الديني التي كشفتها صحيفة الأسبوع المصرية في عددها الأخير- بحيث يُسمح للمصلين بالاعتراض على الإمام ومناقشته فيما يقوله في الخطبة؟!
2- اتبع الكوريون خطة "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، وأخذوا يمطرون واشنطن بعشرات القرارات والتصريحات التي أربكت بوش ورجاله من طرد المفتشين، فالانسحاب من المعاهدة النووية، فالتهديد بتدمير ثلاث من المدن الأمريكية الكبرى، فالتهديد بالانسحاب من معاهدة تطوير الصواريخ، حتى وصل الأمر بوزير الخارجية البريطاني السابق مالكولم ريفكيند لأن يطالب الأمريكان -في صحيفة "ذي تايمز" البريطانية 26-12-2002- أن يلاطفوا الكوريين، أو تهديدهم أو رشوتهم حتى يتخلوا عن الخيار النووي؟!
3-سَعَى الكوريون للبحث عن أكثر ما يرعب الأمريكان والغرب (استنادا لدروس 11 سبتمبر وعمليات الاستشهاد الفلسطيني) ووظفوه في المعركة، وعلى طريقة نصيحة الرنتيسي لأبناء الشعب العراقي بالاستعداد لتفجير أنفسهم كقنابل بشرية في الأمريكان لو احتلوا أرضهم، دعا وزير دفاع كوريا الشمالية "كيم إيل كول" 24-12-2002 جنوده والمواطنين في البلاد إلى التحول لـ"قنابل بشرية" ضد الولايات المتحدة في الأزمة القائمة بين البلدين، وأن يستعدوا لتفجير أنفسهم في الأمريكان من أجل الدفاع عن بلادهم مما أثار الذعر بين الأمريكان.
4-بدأ الكوريون الاعتماد على الذات وتوفير الطعام والوقود بجهودهم، بدلا من رهن إرادتهم بأمريكا وانتظار شحنات القمح الأمريكي، وقد أشار سفير مصر السابق في كوريا الشمالية -في برنامج رئيس التحرير التلفزيوني المصري هذا الأسبوع- إلى قدرة الكوريين في أزمات سابقة على تناول وجبة واحدة يوميا وحدوث نوع من التلاحم بين الحكام والشعب في حالة الخطر الخارجي.
5-تزامن التهديد والصراخ الكوري مع تسريب عروض للحوار تسمح بالحفاظ على سقف أعلى للمكاسب الكورية في نهاية الأمر بدلا من مناطحة الصخر، خصوصا أنهم يعلمون أن الظروف الدولية لا تسمح لهم بالاستمرار في العناد والتحدي، ولهذا وزعوا الأدوار بين فريق يهدد ويتوعد وفريق دبلوماسي يطرح الحد الأدنى الذي تقبله كوريا للتفاوض مع بث الطمأنينة في قلوب الأمريكان بعدم نية كوريا تصنيع سلاح نووي!
فهل يستفيد العرب من الأزمة الكورية في سعيهم للبحث عن حل للأزمة العراقية؟ وهل نستفيد من دروس هذه الأزمة في تغيير الكثير من المفاهيم التي تحكم عقول الحكومات العربية تحسبا ليوم يأتي الدور على دول أخرى غير العراق، ولا تنفع فيه الدروس؟!