كثيراً ما يتساءل، رجال ونساء، وفي حالات التأزم النفسي خصوصاً، عن ظاهرة يحسبونها في النادرات من الظواهر، تدور حول مسألة بسيطة غاية البساطة، معقدة غاية التعقيد، تتعلق بحالة الحب، الذي كان شبوباً قبل الزواج، بين فتى وفتاة، ثم فقد حرارته، وفتر اواره، وانتهى بعد الزواج، إلى ما يشبه الموت البطيء، رغم محاولات الزوجين، في بعث الحرارة فيه من جديد، أو الصعود به بعد الهبوط، أو احيائه بعد موت، وتذهب جهودهما مذروّة مع الريح، متناثرة كقصل حبات الشعير، عندما تشيل بها المذراة في الفضاء، دافعة القش مع التيار، ليبقى الحب وحده على البيدر الذي يتنامى شيئاً فشيئاً، غير مدركين، أي الزوج والزوجة، ان كل ما يولد ينشأ، وبعد النشوء يكون الكبر، ومع الكبر تأتي الشيخوخة، وفي طواياها الموت الذي لا راد له، كونه من سنن الحياة في مجراها ازلا وأبداً.
ان حكاية الحب، ككائن نفسي وفيزيولوجي معاً، هي حكاية هذا النشوء، فالارتقاء، فالاندثار التدريجي، أو التحوّل من حال إلى حال، وفق شرعة التطور، فالتبدل، فالانتقال، من حب بين قلبين، إلى حب للأسرة بعد الانجاب، وإلى بناء هذه الأسرة بالتفاهم المشترك، نزولاً عند ارادة الطبيعة، التي لا يبقى فيها شيء، أو كائن، أو موجود، على الحال التي خلق على اساسها، وفي الظن، خلبياً، انه ثابت عليها، فالثبوت، هنا مخالف للحركة، والحركة، في الطبيعة والاشياء، هي القانون، هي الناموس، هي جوهر الوحدة التي في ذاتها تناقضها، وهذا التناقض يولّد، قسرياً، التبدّل.
ذلك ان الحب مرض، وهو مرض لذيذ، سعيد من ابتلي به، وأقل سعادة من شفي منه على مهل، وشقي من لم يعرفه، فعاش محروماً من لذاذاته، ولأن الحب مرض، فإنه إلى شفاء أو إلى موت، ولا خيرة في الأمر، وعبث كل تحايل، كل وهم، كل انخداع في ابقائه على ما كان عليه، يوم الاصابة به، ولابد من التسليم بما هو واقع، بما هو موضوعي، وعلى اتساق مع مجرى الاحداث، في سيرورتها، وصيرورتها معاً. والحب، هذا المرض اللذيذ، حدث من الأحداث، وخاضع، بدوره، لمنطق الاحداث التي تعطي للاشياء تاريخها الاجتماعي، وكل إنسان في هذه الدنيا ابن تاريخه الاجتماعي في المحصلة.
لماذا الأمر كذلك وليس غير ذلك؟ وكيف علينا ان نتصرف حيال واقع موضوعي كهذا؟ واي فهم لهذا الواقع ينبغي ان نتحلى به؟ وبأية وسيلة نتمسك حتى لا نصدم فنقع ضحية جهلنا؟ وأي شفاه هي البخيلات بين الشفاه؟
في الجواب على هذه الاسئلة، أو بعضها على الاقل، لابد ان ندرك، وبوعي، ان قانون التحوّل يستحيل نقضه، والتصرف العاقل حياله هو في فهمه، والتصرف من منطلق هذا الفهم في تقبل نتائجه، وكل شفة، حسب تساؤل الشاعر بدوي الجبل، هي شفة بخيلة، الا شفاه الزوجة، لانها مبذولة في كل وقت، وكل مبذول مآله الملل منه، وسبب هذا الملل دخوله مرحلة الطمأنينة، والطمأنينة تقتل الرغبة، ودون رغبة تصبح آلية الاشتهاء منعدمة، وعندئذ لا فائدة من بعثها، ولابد من تقبل اللقاء بين الزوجين على انه واجب، واجب لا اكثر، وهذه حال اغلب المتزوجين، الذين يعون ان ضرام الحب مضى، وانه انطفأ، وقام مقامه حب من نوع آخر، هو حب بناء الأسرة السعيدة على نحو ما.
اما بالنسبة إليّ، فإن الطمأنينة لم تعرف سبيلها إلى قلبي، فأنا اعيش القلق زاداً يومياً، وهذا من حظي الأبيض، فالطمأنينة تقتل الحب والابداع، ودونهما لا أدب ولا فن، ودون الأدب والفن، يجد اكثر الناس كل ما حولهم فراغاً، لافتقارهم إلى البهجة التي تمدهم بالأمل، وبالرجاء في مستقبل أفضل.
لذلك ابارك القلق، الذي قال عنه بودلير "ياللوحش المفترس!" وابارك القلق لأنه الدافع إلى اكتشاف المجهول، وهذا الاكتشاف هو غاية الابداع، وابارك القلق الذي باركه الفريد دي موسيه، ونفذ إلى سره شاعرنا المتنبي، الذي قال: "على قلق كأن الريح تحتي - اوجهها يميناً أو شمالاً" وابارك القلق ثلاثاً، في العيش والكتابة، رغم انه، القلق، جعلني اضطرب مثل نورس في ريح العاصفة المجنونة، فوق اللجة الزرقاء، التي منها اخذت شفاهي وكلماتي، واباركه، أيضاً، لأنه عمدني في النار الملتهبة، لا في مياه الاردن الطهور، وقد وسمت، هذه النار، جبيني، وظلت جذوتها متقدة في دمي، وفي هذا الدم غمست يراعتي، ولا ازال استسقيها الارجوان في شراييني..
ان الهاجرة، في يتم السراب، وومضة البرق، في نيزكة الانخطاف، والمجرة في شعشاع توهجها، قد اغرتني جميعها، في اقتباس الحجر الكريم في لألائه، ومنه صفت، للتي كانت، وما كانت، فظلت، في المبتغى، رجوة حلم يراود!
هذا الحلم هو كل دنياي، وما نفع دنيانا بغير أحلام؟ بل ما نفعها إذا تكسّرت أحلامنا ولم نصلها بأيدينا؟ انما الحلم سيف، والسيوف بالأيدي توصل، حين القدم، في غمار المعارك، يكون من تحت اخمصها الموت أو الحياة، والحياة تُوهب دائماً للمفادين، لا للقعدة الذين يهابون المنية، وهم اليها، عاجلا أو آجلاً، صائرون!
--------------------
تحياتي لكم جميعا
أخيكم في الله
أمير الظلام
للمراسلة :
yas101_@hotmail.com