في اخر مقال تساءلنا عن المدى الذي وصلت اليه فتوحات المسلمين خلف جبال البرينية الفرنسية وعرفنا كيف ان القرن الثامن والتاسع الميلادي بالذات شهدا نشاطاً كبيراً في غزواتهم على اوروبا.. وقد بدأ بحثي في هذا الموضوع حين رأيت قبل سبع سنوات مسجداً متداعياً في جبال الألب السويسرية.. ورغم ان الأمر كان مفاجأه في البداية الا انه لم يعد كذلك حين اتضح ان العرب وصلوا الى بحيرة جنيف وتحكموا في ممرات الألب واطلوا على مقاطعة بيامونت الايطالية- ناهيك عن استيلائهم على مدن كان ونيس ومرسيليا( كما قرأنا في اخر مقال)..
وبعد ذلك- وتحديداً في عام 889-وقع حاث طريف ترتب عليه نتائج عظيمة.. ففي ذلك العام توجه عشرون مغامراً مغربياً الى شواطئ بروفنسا الفرنسية فهبت عليهم عاصفة اضطرتهم للنزول في خليج سان تروبيه (بين مدينتي كان و مرسيليا). ومن هناك تسللوا الى غابه مجاورة وبدأوا يغيرون ليلا على القرى القريبة وبمرور الزمن انضم اليهم عدد كبير من الاصدقاء والأقارب فبنوا مجموعة كبيرة من الحصون التي عرفت في التاريخ الاوروبي باسم فراكسيناتوم( وتعرف اليوم باسم فراكسينس).
من هذه الحصون بسط العرب سيطرتهم على جبال الألب واشرفوا على منطقة بيامونت الايطالية وعاشوا بقية حياتهم في جبال الألب العالية ومع مرور الزمن استقروا هناك وتزوجوا من السكان الاصليين وتعاملوا معهم تجارياً ولم يعكر صفوهم الا المحاولة الفاشلة لأمير بروفنسا (هوغ) لاقتلاعهم من جبال الألب عام 940وحرق سفنهم في سانت تروبيه على يد الأسطول البيزنطي عام 942!! وبين عامي 930و 952كثرت الغزوات على المناطق السويسرية من قبل المسلمين والهنغار، فالعرب هاجموا البلاد من جبال الالب وبدأوا بالاستقرار حول بحيرة جنيف، والهنغار هاجموا سويسرا بجيوش بربريه قادمة من اوروبا الشرقية.. ولكن، بمكيدة ذكية استطع كونراد ملك بوغارنيا (المملكة الاكبر في سويسرا) تدبير مواجهة بين العرب والبلغار فأفنوا بعضهم البعض في معركة ضارية خارج مدينة سافوا، فاستغل كونراد الوضع فانقض على من تبقى منهم وانتهى بذلك وجود العرب في سويسرا!!!
@ بعد هذه المعركة البائسة بثماني سنوات عزم اتون الاول امبراطور المانيا على اقتلاع بقايا العرب من جبال الألب فنجح في ذلك وان لم يستطع اخراجهم من جنوب فرنسا (حيث معاقل فراكسينيه الشهيرة)!!
@ وبعد خروجهم من سويسرا وجبال الألب استطاع الامير غليوم امير منطقة بروفنسا الانتصار على العرب في عدة معارك ادت (عام 975) الى خروجهم نهائياً من فرنسا.. وقد ساعده في ذلك انقطاع المدد عن المسلمين من الاندلس وشمال افريقيا مما اضطرهم للتقوقع داخل حصون فراكسينيه!!
.. هذا ملخص لاهم مراحل الوجود العربي في اوروبا الذي استمر قرابة المائتي عام وحتى اليوم يمكن رصد الكثير من الاثار العربية في المناطق السابقة.. ففي مدينة ناربوني مثلا قاسم العرب المسيحيين كنيسة سان روستيك وحولوها الى مسجد وتعتبر منطقة بروفنسا (حيث مدن كان ومرسيليا وارل وسانت تروبيه) من اغنى المناطق بالاثار العربية وما زالت بعض الازقه والحواري فيها تحتفظ بأسمائها العربية (مثل زقاق مكة في تروبيه، وباب المغاربه في آرل)... اما على ضفاف نهر الرون (الذي يصب في بحيرة جنيف) فقد ترك العرب اطلالا واضحة وما تزال الاسماء العربية رائجه حتى اليوم- فكلمة سرازان مثلا التي كانت تطلق على المسلمين ما زلت تطلق على بعض القرى والمناطق هناك، كما ان سحنة وعادات سكان نهر الرون في فرنسا ترجح بشدة اصولهم العربية.. في الحقيقة بقايا المسجد في جبال الألب السويسرية جعلتني اتساءل ان كان اجدادانا قد حاولوا تحقيق امنية موسى بن نصير حين "اقسم ان يعود للمشرق من ناحية القسطنطنية مجاهداً في دروب الأمم الاعجمية" قبل ان توقفه رسل الوليد!!؟