منتديات  الـــود

منتديات الـــود (http://vb.al-wed.com/index.php)
-   ۞ مكتبة الــوٍد الإسلامية ۞ (http://vb.al-wed.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   ۩ تفسير سورة التوبة عدد آياتها 129... (http://vb.al-wed.com/showthread.php?t=315862)

قلب الزهـــور 14-05-2014 02:32 AM

۩ تفسير سورة التوبة عدد آياتها 129...
 
تفسير سورة براءة عدد آياتها 129....

ويقال: سورة التوبة،
وهي مدنية
مقدمة
هَذِهِ السُّورَة الْكَرِيمَة مِنْ أَوَاخِر مَا نَزَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيّ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ أَبِي إسْحَاق قَالَ : سَمِعْت الْبَرَاء يَقُول آخِر آيَة نَزَلَتْ " يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَة " وَآخِر سُورَة نَزَلَتْ بَرَاءَة وَإِنَّمَا لَمْ يُبَسْمِل فِي أَوَّلهَا لِأَنَّ الصَّحَابَة لَمْ يَكْتُبُوا الْبَسْمَلَة فِي أَوَّلهَا فِي الْمُصْحَف الْإِمَام بَلْ اِقْتَدَوْا فِي ذَلِكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَرْضَاهُ . كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد وَمُحَمَّد بْن أَبِي جَعْفَر وَابْن عَدِيّ وَسُهَيْل بْن يُوسُف قَالُوا : حَدَّثَنَا عَوْف عَنْ أَبِي جَمِيلَة أَخْبَرَنِي يَزِيد الْفَارِسِيّ أَخْبَرَنِي اِبْن عَبَّاس قَالَ : قُلْت لِعُثْمَان بْن عَفَّان مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَال وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَة وَهِيَ مِنْ الْمِئِينَ وَقَرَنْتُمْ بَيْنهمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنهمَا سَطْر بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْع الطُّوَل مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ عُثْمَان : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَان وَهُوَ يَنْزِل عَلَيْهِ السُّوَر ذَوَات الْعَدَد فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْء دَعَا بَعْض مَنْ كَانَ يَكْتُب فَيَقُول ضَعُوا هَذِهِ الْآيَة فِي السُّورَة الَّتِي يُذْكَر فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَكَانَتْ الْأَنْفَال مِنْ أَوَّل مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَة مِنْ آخِر مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن وَكَانَتْ قِصَّتهَا شَبِيهَة بِقِصَّتِهَا وَخَشِيت أَنَّهَا مِنْهَا وَقُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّن لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ قَرَنْت بَيْنهمَا وَلَمْ أَكْتُب بَيْنهمَا سَطْر بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم وَوَضَعْتهَا فِي السَّبْع الطُّوَل .
وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حِبَّان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْرَكه مِنْ طُرُق أُخَر عَنْ عَوْف الْأَعْرَابِيّ بِهِ وَقَالَ الْحَاكِم صَحِيح الْإسْنَاد وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَأَوَّل هَذِهِ السُّورَة الْكَرِيمَة نَزَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَة تَبُوك وَهَمَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَحْضُرُونَ عَامهمْ هَذَا الْمَوْسِم عَلَى عَادَتهمْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاة فَكَرِهَ مُخَالَطَتهمْ وَبَعَثَ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَمِيرًا عَلَى الْحَجّ تِلْكَ السَّنَة لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ مَنَاسِكهمْ وَيُعْلِم الْمُشْرِكِينَ أَنْ لَا يَحُجُّوا بَعْد عَامهمْ هَذَا وَأَنْ يُنَادِي فِي النَّاس " بَرَاءَة مِنْ اللَّه وَرَسُوله " فَلَمَّا قَفَلَ أَتْبَعَهُ بِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب لِيَكُونَ مُبَلِّغًا عَنْ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ عَصَبَة لَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فَقَوْله تَعَالَى " بَرَاءَة مِنْ اللَّه وَرَسُوله " أَيْ هَذِهِ بَرَاءَة أَيْ تَبَرُّؤ مِنْ اللَّه وَرَسُوله " إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " .

قلب الزهـــور 16-05-2014 02:57 AM

الآية رقم ‏(1 ‏:‏ 2‏)‏
{ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ْ}
أي: هذه براءة من اللّه ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاهدين، أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم، آمنين من المؤمنين، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم، ولا ميثاق.
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر، أو مقدر بأربعة أشهر فأقل، أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر، فإن الله يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة، ولم يبدأ بنقض العهد.
ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم، أنهم وإن كانوا آمنين، فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه، وأنه من استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام، إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له.
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(3)‏
{ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ}
هذا ما وعد اللّه به المؤمنين، من نصر دينه وإعلاء كلمته، وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة، من بيت اللّه الحرام، وأجلوهم، مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز.
نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة، وأذل المشركين، وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار.
فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم، من جميع جزيرة العرب، أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين، فليس لهم عنده عهد وميثاق، فأينما وجدوا قتلوا، وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة.
وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، وأذن ببراءة -يوم النحر- ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال: { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ْ}
أي: فائتيه، بل أنتم في قبضته، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين. { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ} أي: مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر، والجلاء، وفي الآخرة، بالنار، وبئس القرار.
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏4)‏
{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ}
أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين. { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ْ} واستمروا على عهدهم، ولم يجر منهم ما يوجب النقض، فلا نقصوكم شيئا، ولا عاونوا عليكم أحدا، فهؤلاء أتموا لهم عهدهم إلى مدتهم، قَلَّتْ، أو كثرت، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء.
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ} الذين أدوا ما أمروا به، واتقوا الشرك والخيانة، وغير ذلك من المعاصي.
الآية رقم ‏(5)‏
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ}
يقول تعالى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ْ} أي: التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين، وهي أشهر التسيير الأربعة، وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها، فقد برئت منهم الذمة.
{ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ْ} في أي مكان وزمان، { وَخُذُوهُمْ ْ} أسرى { وَاحْصُرُوهُمْ ْ} أي: ضيقوا عليهم، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد اللّه وأرضه، التي جعلها [الله] معبدا لعباده.
فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها، ولا يستحقون منها شبرا، لأن الأرض أرض اللّه، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله، المحاربون الذين يريدون أن يخلو الأرض من دينه، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
{ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ْ} أي: كل ثنية وموضع يمرون عليه، ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم.
ولهذا قال: { فَإِنْ تَابُوا ْ} من شركهم { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ْ} أي: أدوها بحقوقها { وَآتُوا الزَّكَاةَ ْ} لمستحقيها { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ْ} أي: اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ} يغفر الشرك فما دونه، للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم.
وفي هذه الآية، دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة، فإنه يقاتل حتى يؤديهما، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(6‏)‏
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ْ}
لما كان ما تقدم من قوله { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ْ} أمرا عاما في جميع الأحوال، وفي كل الأشخاص منهم، ذكر تعالى، أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم جاز، بل وجب ذلك فقال: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ْ} أي: طلب منك أن تجيره، وتمنعه من الضرر، لأجل أن يسمع كلام اللّه، وينظر حالة الإسلام.
{ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ْ} ثم إن أسلم، فذاك، وإلا فأبلغه مأمنه، أي: المحل الذي يأمن فيه، والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون، فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم، إذا زال اختاروا عليه الإسلام، فلذلك أمر اللّه رسوله، وأمته أسوته في الأحكام، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام اللّه.
وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق.
وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول، ليس هذا محل ذكرها.
الآية رقم ‏(‏7)‏
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ}
هذا بيان للحكمة الموجبة لأن يتبرأ اللّه ورسوله من المشركين، فقال: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ْ} هل قاموا بواجب الإيمان، أم تركوا رسول اللّه والمؤمنين من أذيتهم؟ أما حاربوا الحق ونصروا الباطل؟
أما سعوا في الأرض فسادا؟ فيحق عليهم أن يتبرأ اللّه منهم، وأن لا يكون لهم عهد عنده ولا عند رسوله.
{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ ْ} من المشركين { عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ْ} فإن لهم في العهد وخصوصا في هذا المكان الفاضل حرمة، أوجب أن يراعوا فيها.
{ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ} ولهذا قال:
الآية رقم ‏(‏8)‏
{ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ْ}
أي: { كَيْفَ ْ} يكون للمشركين عند اللّه عهد وميثاق { و ْ} الحال أنهم { وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ْ} بالقدرة والسلطة، لا يرحموكم، و { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ} أي: لا ذمة ولا قرابة، ولا يخافون اللّه فيكم، بل يسومونكم سوء العذاب، فهذه حالكم معهم لو ظهروا.
ولا يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم، فإنهم { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ْ} الميل والمحبة لكم، بل هم الأعداء حقا، المبغضون لكم صدقا، { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ْ} لا ديانة لهم ولا مروءة.
{ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ْ} أي: اختاروا الحظ العاجل الخسيس في الدنيا. على الإيمان باللّه ورسوله، والانقياد لآيات اللّه.
{ فَصَدُّوا ْ} بأنفسهم، وصدوا غيرهم { عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ} أي: لأجل عداوتهم للإيمان { إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ْ} أي: لأجل عداوتهم للإيمان وأهله.
فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لأجله ويبغضونكم، هو الإيمان، فذبوا عن دينكم، وانصروه واتخذوا من عاداه لكم عدوا ومن نصره لكم وليا، واجعلوا الحكم يدور معه وجودا وعدما، لا تجعلوا الولاية والعداوة، طبيعية تميلون بهما، حيثما مال الهوى، وتتبعون فيهما النفس الأمارة بالسوء، ولهذا: { فَإِنْ تَابُوا ْ} عن شركهم، ورجعوا إلى الإيمان { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ْ} وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين لتكونوا عباد اللّه المخلصين، وبهذا يكون العبد عبدا حقيقة. لما بين من أحكامه العظيمة ما بين، ووضح منها ما وضح، أحكاما وحِكَمًا، وحُكْمًا، وحكمة قال: { وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ ْ} أي: نوضحها ونميزها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ْ} فإليهم سياق الكلام، وبهم تعرف الآيات والأحكام، وبهم عرف دين الإسلام وشرائع الدين.
اللهم اجعلنا من القوم الذين يعلمون، ويعملون بما يعلمون، برحمتك وجودك وكرمك
[وإحسانك يا رب العالمين].

قلب الزهـــور 16-05-2014 03:08 AM

http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم (12 - 15 )
{ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ}
يقول تعالى بعدما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ْ} أي: نقضوها وحلوها، فقاتلوكم أو أعانوا على قتالكم، أو نقصوكم، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ْ} أي: عابوه، وسخروا منه.
ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين، أو إلى القرآن، { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ْ} أي: القادة فيه، الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن، الناصرين لدين الشيطان، وخصهم بالذكر لعظم جنايتهم، ولأن غيرهم تبع لهم، وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه، فإنه من أئمة الكفر.
{ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ْ} أي: لا عهود ولا مواثيق يلازمون على الوفاء بها، بل لا يزالون خائنين، ناكثين للعهد، لا يوثق منهم.
{ لَعَلَّهُمْ ْ} في قتالكم إياهم { يَنْتَهُونَ ْ} عن الطعن في دينكم، وربما دخلوا فيه، ثم حث على قتالهم، وهيج المؤمنين بذكر الأوصاف، التي صدرت من هؤلاء الأعداء، والتي هم موصوفون بها، المقتضية لقتالهم فقال: { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ْ} الذي يجب احترامه وتوقيره وتعظيمه؟ وهم هموا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه وسعوا في ذلك ما أمكنهم، { وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ} حيث نقضوا العهد وأعانوا عليكم، وذلك حيث عاونت قريش -وهم معاهدون- بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا معهم كما هو مذكور مبسوط في السيرة.
{ أَتَخْشَوْنَهُمْ ْ} في ترك قتالهم { فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ْ} فإنه أمركم بقتالهم، وأكد ذلك عليكم غاية التأكيد.
فإن كنتم مؤمنين فامتثلوا لأمر اللّه، ولا تخشوهم فتتركوا أمر اللّه، ثم أمر بقتالهم وذكر ما يترتب على قتالهم من الفوائد، وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم، فقال: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ْ} بالقتل { وَيُخْزِهِمْ ْ} إذا نصركم اللّه عليهم، وهم الأعداء الذين يطلب خزيهم ويحرص عليه، { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ْ} هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها.
{ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ْ} فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ما يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم، إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين للّه ولرسوله، ساعين في إطفاء نور اللّه، وزوالا للغيظ الذي في قلوبهم، وهذا يدل على محبة اللّه لعباده المؤمنين، واعتنائه بأحوالهم، حتى إنه جعل -من جملة المقاصد الشرعية- شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم.
ثم قال: { وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ْ} من هؤلاء المحاربين، بأن يوفقهم للدخول في الإسلام، ويزينه في قلوبهم، ويُكَرِّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ} يضع الأشياء مواضعها، ويعلم من يصلح للإيمان فيهديه، ومن لا يصلح، فيبقيه في غيه وطغيانه.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ}
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد ما أمرهم بالجهاد: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ْ} من دون ابتلاء وامتحان، وأمر بما يبين به الصادق والكاذب.
{ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ْ} أي: علما يظهر مما في القوة إلى الخارج، ليترتب عليه الثواب والعقاب، فيعلم الذين يجاهدون في سبيله: لإعلاء كلمته { وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ْ} أي: وليا من الكافرين، بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء.
فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود الأعظم، وهو أن يتميز الصادقون الذين لا يتحيزون إلا لدين اللّه، من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين.
{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ} أي: يعلم ما يصير منكم ويصدر، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه، ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرها.
الآية رقم ( 17 - 18)
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ْ}
يقول تعالى: { مَا كَانَ ْ} أي: ما ينبغي ولا يليق { لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ْ} بالعبادة، والصلاة، وغيرها من أنواع الطاعات، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر بشهادة حالهم وفطرهم، وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل.
فإذا كانوا { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ْ} وعدم الإيمان، الذي هو شرط لقبول الأعمال، فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه، والأصل منهم مفقود، والأعمال منهم باطلة؟".
ولهذا قال: { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ْ} أي: بطلت وضلت { وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ْ}
ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ْ} الواجبة والمستحبة، بالقيام بالظاهر منها والباطن.
{ وَآتَى الزَّكَاةَ ْ} لأهلها { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ْ} أي قصر خشيته على ربه، فكف عما حرم اللّه، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة.
فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها، الذين هم أهلها.
{ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ْ} و { عسى ْ} من اللّه واجبة. وأما من لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولا عنده خشية للّه، فهذا ليس من عمار مساجد اللّه، ولا من أهلها الذين هم أهلها، وإن زعم ذلك وادعاه.
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم (19 - 22 )
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
لما اختلف بعض المسلمين، أو بعض المسلمين وبعض المشركين، في تفضيل عمارة المسجد الحرام، بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج، على الإيمان باللّه والجهاد في سبيله، أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما، فقال: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } أي: سقيهم الماء من زمزم كما هو المعروف إذا أطلق هذا الاسم، أنه المراد { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ }
فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة، لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال.
وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع، وينصر الحق ويخذل الباطل.
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فهي وإن كانت أعمالا صالحة، فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد، فلذلك قال: { لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي: الذين وصفهم الظلم، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشر.
ثم صرح بالفضل فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ } بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة { وَأَنْفُسِهِمْ } بالخروج بالنفس { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي: لا يفوز بالمطلوب ولا ينجو من المرهوب، إلا من اتصف بصفاتهم، وتخلق بأخلاقهم.
{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ } جودا منه، وكرما وبرا بهم، واعتناء ومحبة لهم، { بِرَحْمَةٍ مِنْهُ } أزال بها عنهم الشرور، وأوصل إليهم [بها] كل خير. { وَرِضْوَانٍ } منه تعالى عليهم، الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجله، فيحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا.
{ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } من كل ما اشتهته الأنفس، وتلذ الأعين، مما لا يعلم وصفه ومقداره إلا اللّه تعالى، الذي منه أن اللّه أعد للمجاهدين في سبيله مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم.
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } لا ينتقلون عنها، ولا يبغون عنها حِوَلًا، { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا تستغرب كثرته على فضل اللّه، ولا يتعجب من عظمه وحسنه على من يقول للشيء كن فيكون.

قلب الزهـــور 16-05-2014 03:17 AM

الآية رقم ( 23 - 24)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى الإيمان، بأن توالوا من قام به،
وتعادوا من لم يقم به.
و { لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ } الذين هم أقرب الناس إليكم، وغيرهم من باب أولى وأحرى، فلا تتخذوهم { أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا } أي: اختاروا على وجه الرضا والمحبة { الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ }
{ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم تجرؤوا على معاصي اللّه، واتخذوا أعداء اللّه أولياء، وأصل الولاية: المحبة والنصرة، وذلك أن اتخاذهم أولياء، موجب لتقديم طاعتهم على طاعة اللّه، ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله.
ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك، وهو أن محبة اللّه ورسوله، يتعين تقديمهما على محبة كل شيء، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } ومثلهم الأمهات { وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ } في النسب والعشرة { وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي: قراباتكم عموما { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي: اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها، خصها بالذكر، لأنها أرغب عند أهلها، وصاحبها أشد حرصا عليها ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ.
{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي: رخصها ونقصها، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات، من الأثمان، والأواني، والأسلحة، والأمتعة، والحبوب، والحروث، والأنعام، وغير ذلك.
{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم، فإن كانت هذه الأشياء { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فأنتم فسقة ظلمة.
{ فَتَرَبَّصُوا } أي: انتظروا ما يحل بكم من العقاب { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الذي لا مرد له.
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة اللّه، المقدمين على محبة اللّه شيئا من المذكورات.
وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله، وجهاد في سبيله.
وعلامة ذلك، أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه اللّه ورسوله، وليس لنفسه فيها هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله، أو ينقصه، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه، على ما يحبه اللّه، دل ذلك على أنه ظالم، تارك لما يجب عليه.
الآية رقم ‏( 25 - 27)
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
يمتن تعالى على عباده المؤمنين، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء، ومواضع الحروب والهيجاء، حتى في يوم { حنين } الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة، ورأوا من التخاذل والفرار، ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه، فسار إليهم صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين فتحوا مكة، وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، والمشركون أربعة آلاف، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم، وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة.
فلما التقوا هم وهوازن، حملوا على المسلمين حملة واحدة، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد، ولم يبق مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إلا نحو مائة رجل، ثبتوا معه، وجعلوا يقاتلون المشركين، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم، يركض بغلته نحو المشركين ويقول: { أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب }
ولما رأى من المسلمين ما رأى، أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين، وكان رفيع الصوت، فناداهم: يا أصحاب السمرة، يا أهل سورة البقرة.
فلما سمعوا صوته، عطفوا عطفة رجل واحد، فاجتلدوا مع المشركين، فهزم اللّه المشركين، هزيمة شنيعة، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم.
وذلك قوله تعالى { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف.
{ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا } أي: لم تفدكم شيئا، قليلا ولا كثيرا { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ } بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم { بِمَا رَحُبَتْ } أي: على رحبها وسعتها، { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } أي: منهزمين.
{ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } والسكينة ما يجعله اللّه في القلوب وقت القلاقل والزلازل والمفظعات، مما يثبتها، ويسكنها ويجعلها مطمئنة، وهي من نعم اللّه العظيمة على العباد.
{ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة، أنزلهم اللّه معونة للمسلمين يوم حنين، يثبتونهم، ويبشرونهم بالنصر.
{ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بالهزيمة والقتل، واستيلاء المسلمين على نسائهم وأولادهم وأموالهم.
{ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يعذبهم اللّه في الدنيا، ثم يردهم في الآخرة إلى عذاب غليظ.
{ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } فتاب اللّه على كثير ممن كانت الوقعة عليهم، وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين، فرد عليهم نساءهم، وأولادهم.
{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: ذو مغفرة واسعة، ورحمة عامة، يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة، والصفح عن جرائمهم، وقبول توباتهم، فلا ييأسنَّ أحد من مغفرته ورحمته، ولو فعل من الذنوب والإجرام ما فعل.

قلب الزهـــور 16-05-2014 03:53 AM

الآية رقم (28)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره { نَجَسٌ } أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم، وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنه شيئا؟".
وأعمالهم ما بين محاربة للّه، وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل، ورد للحق، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح، فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم.
{ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وهو سنة تسع من الهجرة، حين حج بالناس أبو بكر الصديق، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا، أن يؤذن يوم الحج الأكبر بـ { براءة } فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وليس المراد هنا، نجاسة البدن، فإن الكافر كغيره طاهر البدن، بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها، ولم يأمر بغسل ما أصاب منها.
والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار، ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها، تَقَذُّرَهْم من النجاسات، وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية، بالشرك، فكما أن التوحيد والإيمان، طهارة، فالشرك نجاسة.
وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها المسلمون { عَيْلَةً } أي: فقرا وحاجة، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فليس الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة، فإن فضل اللّه واسع، وجوده عظيم، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم، فإن اللّه أكرم الأكرمين.
وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله، وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك.
وقوله: { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء بالمشيئة، لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان، ولا يدل على محبة اللّه، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة.
فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين، إلا من يحب.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: علمه
واسع، يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.
وتدل الآية الكريمة، وهي قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أن المشركين بعد ما كانوا، هم الملوك والرؤساء بالبيت، ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين، مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه الآية.
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز، فلا يبقى فيها دينان، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام، فيدخل في قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }
الآية رقم ( 29 )
{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من { الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم. ولا يحرمون ما حرم الله، فلا يتبعون شرعه في تحريم المحرمات، { وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } أي: لا يدينون بالدين الصحيح، وإن زعموا أنهم على دين، فإنه دين غير الحق، لأنه إما بين دين مبدل، وهو الذي لم يشرعه اللّه أصلا، وإما دين منسوخ قد شرعه اللّه، ثم غيره بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز.
فأمره بقتال هؤلاء وحث على ذلك، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب.
وغيَّى ذلك القتال { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي: المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كل عام، كلٌّ على حسب حاله، من غني وفقير ومتوسط، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره، من أمراء المؤمنين.
وقوله: { عَنْ يَدٍ } أي: حتى يبذلوها في حال ذلهم، وعدم اقتدارهم، ويعطونها بأيديهم، فلا يرسلون بها خادما ولا غيره، بل لا تقبل إلا من أيديهم، { وَهُمْ صَاغِرُونَ }
فإذا كانوا بهذه الحال، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية، وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم، واستسلموا للشروط التي أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم وتكبرهم، ويوجب ذلهم وصغارهم، وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم.
وإلا بأن لم يفوا، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لم يجز إقرارهم بالجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا.
واستدل بهذه الآية الجمهور الذين يقولون: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأن اللّه لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم.
وأما غيرهم فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا، وألحق بأهل الكتاب في أخد الجزية وإقرارهم في ديار المسلمين، المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر، ثم أخذها أمير المؤمنين عمر من الفرس المجوس.
وقيل: إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع، لا مفهوما له.
ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب، ولأنه قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف، من غير فرق بين كِتَابِيٍّ وغيره.
الآية رقم
( 30 - 33 )
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب، ذكر من أقوالهم الخبيثة، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه، وتنقصوا عظمته وجلاله.
وقد قيل: إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه، أنه لما سلط الله الملوك على بني إسرائيل، ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة، وجدوا
عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها، فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.
{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ } قال اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه { قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا.
ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله، فإنه لا دين ولا عقل، يحجزه، عما يريد من الكلام.
ولهذا قال: { يُضَاهِئُونَ } أي: يشابهون في قولهم هذا { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي: قول المشركين الذين يقولون: { الملائكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في البطلان.
{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين، إلى القول الباطل المبين.
وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول- يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه، فإن لذلك سببا وهو أنهم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم { وَرُهْبَانَهُمْ } أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.
{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.
وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم، ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه، وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة.
{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه، والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله فما { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } فيخلصون له العبادة والطاعة، ويخصونه بالمحبة والدعاء، فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.
{ سُبْحَانَهُ } وتعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم، فإنهم ينتقصونه في ذلك، ويصفونه بما لا يليق بجلاله، واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه، مما ينافي كماله المقدس.
فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصَّلوه، وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }
ونور اللّه: دينه الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وسماه اللّه نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة، فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه فإنه بضده، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم، التي ليس عليها دليل أصلا.
{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } لأنه النور الباهر، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه، والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده، وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء، ولهذا قال: { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله، فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا.
ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } الذي هو العلم النافع { وَدِينِ الْحَقِّ } الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم مشتملا على بيان الحق من الباطل في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب، والأرواح والأبدان من إخلاص الدين للّه وحده، ومحبة اللّه وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة.
فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه، فوعد اللّه لا بد أن ينجزه، وما ضمنه لابد أن يقوم به.

قلب الزهـــور 16-05-2014 04:15 AM

الآية رقم( 34 - 35 )
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ }
هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الأحبار والرهبان، أي: العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أي: بغير حق، ويصدون عن سبيل اللّه، فإنهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بذل الناس لهم من أموالهم فإنه لأجل علمهم وعبادتهم، ولأجل هداهم وهدايتهم، وهؤلاء يأخذونها ويصدون الناس عن سبيل اللّه، فيكون أخذهم لها على هذا الوجه سحتا وظلما، فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إلا ليدلوهم إلى الطريق المستقيم.
ومن أخذهم لأموال الناس بغير حق، أن يعطوهم ليفتوهم أو يحكموا لهم بغير ما أنزل اللّه، فهؤلاء الأحبار والرهبان، ليحذر منهم هاتان الحالتان: أخذهم لأموال الناس بغير حق، وصدهم الناس عن سبيل اللّه.
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } أي: يمسكونها { وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: طرق الخير الموصلة إلى اللّه، وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل اللّه إذا وجبت.
{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم فسره بقوله:
{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } أي: على أموالهم، { فِي نَارِ جَهَنَّمَ } فيحمى كل دينار أو درهم على حدته.
{ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ويقال لهم توبيخا ولوما: { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } فما ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز.
وذكر اللّه في هاتين الآيتين، انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعا، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة اللّه، وإخراجها للصد عن سبيل اللّه.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، و { النهي عن الشيء، أمر بضده }

الآية رقم( 36 )
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
يقول تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ } أي: في قضائه وقدره. { اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } وهي هذه الشهور المعروفة { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي في حكمه القدري، { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وأجرى ليلها ونهارها، وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [شهرا].
{ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وهي: رجب الفرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وسميت حرما لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها.
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا، وأن اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تعمر بطاعته، ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها.
ومن ذلك النهي عن القتال فيها، على قول من قال: إن القتال في الأشهر الحرام لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها.
ومنهم من قال: إن تحريم القتال فيها منسوخ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي: قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين.
ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم، لا يألونهم من الشر شيئا.
ويحتمل أن { كَافَّةً } حال من الواو فيكون معنى هذا: وقاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين.
وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } الآية. { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بعونه ونصره وتأييده، فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام بطاعته، خصوصا عند قتال الكفار، فإنه في هذه الحال، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين.

الآية رقم (37)
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
النسيء: هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم، وكان من جملة بدعهم الباطلة، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال، في بعض أوقات الأشهر الحرم، رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم، التي حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراما، فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم، لما فيه من المحاذير.
منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه، واللّه ورسوله بريئان منه.
ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.
ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه.
ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها، يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل، ولهذا قال: { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.
{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا.

الآية رقم ( 38 - 39 )
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة، نزلت في غزوة تبوك، إذ ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم، وكان الوقت حارا، والزاد قليلا، والمعيشة عسرة، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم، فقال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ألا تعملون بمقتضى الإيمان، وداعي اليقين من المبادرة لأمر اللّه، والمسارعة إلى رضاه، وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم، فـ { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } أي: تكاسلتم، وملتم إلى الأرض والدعة والسكون فيها.
{ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ } أي: ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة، فكأنه ما آمن بها.
{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } التي مالت بكم، وقدمتموها على الآخرة { إِلَّا قَلِيلٌ } أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا تَزِنُون بها الأمور، وأيها أحق بالإيثار؟.
أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها- لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار، المشحونة بالأخطار.
فبأي رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فواللّه ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولي الألباب، ثم توعدهم على عدم النفير فقال:
{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيها من المضار الشديدة، فإن المتخلف، قد عصى اللّه تعالى وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين اللّه، ولا ذب عن كتاب اللّه وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل ربما فَتَّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء اللّه، فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده اللّه بالوعيد الشديد، فقال: { إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } ثم لا يكونوا أمثالكم { وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا } فإنه تعالى متكفل بنصر دينه وإعلاء كلمته، فسواء امتثلتم لأمر اللّه، أو ألقيتموه، وراءكم ظهريا.
{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه أحد.
الآية رقم (40)
{ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي: إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فاللّه غني عنكم، لا تضرونه شيئا، فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله، وسعوا في ذلك، وحرصوا أشد الحرص، فألجؤوه إلى أن يخرج.
{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي: هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه. { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } أي: لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب.
فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال.
{ إِذْ يَقُولُ } النبي صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه، { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده.
{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي: الثبات والطمأنينة، والسكون المثبتة للفؤاد، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه معنا }
{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وهي الملائكة الكرام، الذين جعلهم اللّه حرسا له، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي: الساقطة المخذولة، فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين، في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذه، حنقين عليه، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئا منه.
ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع، فإن النصر على قسمين: نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا، وقصدوا، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم.
والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر، فنصر اللّه إياه، أن يرد عنه عدوه، ويدافع عنه، ولعل هذا النصر أنفع النصرين، ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع.
وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية، هي العالية على كلمة غيره، التي من جملتها قوله: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان الناصر.
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب، ولا يفوته هارب، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية.
وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، كافرا، لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها.
وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته.
وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه، فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة.


قلب الزهـــور 16-05-2014 04:16 AM

الآية رقم ( 41 - 42 )
{ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
يقول تعالى لعباده المؤمنين -مهيجا لهم على النفير في سبيله فقال: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } أي: في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والحر والبرد، وفي جميع الأحوال.
{ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: ابذلوا جهدكم في ذلك، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس، وفي هذا دليل على أنه -كما يجب الجهاد في النفس- يجب الجهاد في المال، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك.
ثم قال: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: الجهاد في النفس والمال، خير لكم من التقاعد عن ذلك، لأن فيه رضا اللّه تعالى، والفوز بالدرجات العاليات عنده، والنصر لدين اللّه، والدخول في جملة جنده وحزبه.
لو كان خروجهم لطلب العرض القريب، أي: منفعة دنيوية سهلة التناول { و } كان السفر { َسَفَرًا قَاصِدًا } أي: قريبا سهلا. { لَاتَّبَعُوكَ } لعدم المشقة الكثيرة، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي: طالت عليهم المسافة، وصعب عليهم السفر، فلذلك تثاقلوا عنك، وليس هذا من أمارات العبودية، بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال، القائم بالعبادة السهلة والشاقة، فهذا العبد للّه على كل حال.
{ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي: سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك.
{ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وهذا العتاب إنما هو للمنافقين، الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في { غزوة تبوك } وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بمجرد اعتذارهم، من غير أن يمتحنهم، فيتبين له الصادق من الكاذب، ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم فقال:
الآية رقم (43 - 45 )
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ }
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ } أي: سامحك وغفر لك ما أجريت.
{ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } في التخلف { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } بأن تمتحنهم، ليتبين لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر ممن لا يستحق ذلك.
ثم أخبر أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر، لا يستأذنون في ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم، لأن ما معهم من الرغبة في الخير والإيمان، يحملهم على الجهاد من غير أن يحثهم عليه حاث،
فضلا عن كونهم يستأذنون في تركه من غير عذر.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه، ومن علمه بالمتقين، أنه أخبر، أن من علاماتهم، أنهم لا يستأذنون في ترك الجهاد.
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: ليس لهم إيمان تام، ولا يقين صادق، فلذلك قلَّتْ رغبتهم في الخير، وجبنوا عن القتال، واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال. { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي: لا يزالون في الشك والحيرة.

شمس القوايل 18-05-2014 12:37 AM

بارك الله فيج وجزاج الله الخير

وجعله في ميزان حسناتج

قلب الزهـــور 19-05-2014 02:41 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شمس القوايل (المشاركة 5607699)
بارك الله فيج وجزاج الله الخير

وجعله في ميزان حسناتج

●●●
هلااااااااااوغلاااااااااااا

يسعدلي قلبك ويسلمووو وربي على الحضور الرائع بصفحتي
وجزاك الله كووول خير ويعطيك الصحة والسعادة يارب
تقبلي شكري وتقديري واحترامي
مع تحياتي : قلب الزهـــور ..بباي
http://www.sheekh-3arb.net/3atter/di...s/image366.gif


قلب الزهـــور 19-05-2014 03:33 AM

الآية رقم ‏(‏46 ‏:‏ 47‏)‏
{‏ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ‏.‏ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أرادوا الخروج‏}‏ أي معك إلى الغزو ‏{‏لأعدوا له عدة‏}‏ أي لكانوا تأهبوا له ‏{‏ولكن كره اللّه انبعاثهم‏}‏ أي أبغض أن يخرجوا معك قدراً ‏{‏فثبطهم‏}‏ أي أخرهم، ‏{‏وقيل اقعدوا مع القاعدين‏}‏ أي قدراً، ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا‏}‏ أي لأنهم جبناء مخذولون ‏{‏ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة‏}‏ أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، ‏{‏وفيكم سماعون لهم‏}‏ أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏وفيكم سماعون لهم‏}‏‏:‏ أي عيون يسمعون لهم

الأخبار وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين‏.‏ وقال محمد ابن إسحاق‏:‏ كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد اللّه بن أبي سلول و الجد بن قيس وكانوا أشرافاً في قومهم فثبطهم اللّه لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم،

فقال‏:‏ ‏{‏وفيكم سماعون لهم‏}‏، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال‏:‏ ‏{‏واللّه عليم بالظالمين‏}‏، فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا‏}‏ فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنا كتبنا
عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏48‏)‏
‏{‏ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ‏}‏

يقول تعالى محرضاً لنبيه عليه السلام على المنافقين‏:‏ ‏{‏لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور‏}‏ أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها فلما نصره اللّه يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد اللّه بن أبي وأصحابه‏:‏ هذا أمر قد توجه، فدخلوا في الإسلام ظاهراً، ثم كلما أعز اللّه الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏49‏)‏
‏{‏ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ومن المنافقين من يقول لك يا محمد ‏{‏ائذن لي‏}‏ في القعود، ‏{‏ولا تفتني‏}‏ بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا في الفتنة سقطوا‏}‏ أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازة للجد بن قيس ‏:‏ ‏(‏هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه أو تأذن لي ولا تفتني، فواللّه لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏قد أذنت لك‏)‏، ففي الجد بن قيس نزلت هذه‏:‏ ‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني‏}‏ ‏"‏أخرجه محمد بن إسحاق عن الزهري وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وكان الجد بن قيس من أشراف بني سلمة‏"‏الآية‏:‏ أي إن كان يخشى من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة لتخلفه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم، ‏{‏وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏ أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏50 ‏:‏ 51‏)‏
‏{‏ إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ‏.‏ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ‏}‏

يعلم تبارك وتعالى نبيّه صلى اللّه عليه وسلم بعدواة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة، أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساءهم ذلك، ‏{‏وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل‏}‏ ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن أبي حاتم‏:‏ جعل المنافقون المتخلفون بالمدينة يخبرون عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبار السوء، ويقولون‏:‏ إنه هو وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إن تصبك حسنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏"‏أي قد احترزنا من متابعته قبل هذا، ‏{‏ويتولوا وهم فرحون‏}‏ فأرشد اللّه تعالى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة، فقال ‏{‏قل‏}‏ أي لهم، ‏{‏لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا‏}‏ أي نحن تحت مشيئته وقدره، ‏{‏هو مولانا‏}‏ أي سيدنا وملجؤنا، ‏{‏وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون‏}‏ أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏52 ‏:‏ 54‏)‏
‏{‏ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ‏.‏ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ‏.‏ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد، ‏{‏هل تربصون بنا‏}‏ أي تنتظرون بنا ‏{‏إلا إحدى الحسنيين‏}‏ شهادة أو ظفر بكم، ‏{‏ونحن نتربص بكم‏}‏ أي ننتظر بكم ‏{‏أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده أو بأيدينا‏}‏ أي ننتظر بكم هذا بسبي أو بقتل، ‏{‏فتربصوا إنا معكم متربصون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أنفقوا طوعا أو كرها‏}‏ ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن جرير‏:‏ قال الجد بن قيس‏:‏ إني رأيت لم أصبر ولكن أعينك بمالي، فنزلت فيه‏:‏ ‏{‏أنفقوا طوعا أو كرها‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏"‏أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين ‏{‏لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين‏}‏ ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم ‏{‏إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله‏}‏ أي والأعمال إنما تصح بالإيمان، ‏{‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏ أي ليس لهم قدم صحيح ولا همة في العمل، ‏{‏ولا ينفقون‏}‏ نفقة ‏{‏إلا وهم كارهون‏}‏، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن اللّه لا يمل حتى تملوا‏)‏ و‏(‏أن اللّه طيب لا يقبل إلا طيباً‏)‏، فلهذا لا يتقبل اللّه من هؤلاء نفقة ولا عملاً، لأنه إنما يتقبل من المتقين‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏55‏)‏
‏{‏ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ‏}
يقول تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا‏}
‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ بزكاتها والنفقة منها في سبيل اللّه، وقال قتادة‏:‏ هذا من المقدم والمؤخر تقديره‏:‏ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة، واختار ابن جرير قول الحسن، وهو القول القوي الحسن، وقوله‏:‏ ‏{‏وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏ أي ويريد أن يميتهم - حين يميتهم - على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم؛ عياذاً باللّه من ذلك، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فما هم فيه‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏56 ‏:‏ 57‏)‏
‏{‏ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ‏.‏ لو يجدون ملجأ
أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ‏}‏

يخبر تعالى نبيه محمداً صلى اللّه عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم ‏{‏يحلفون بالله إنهم لمنكم‏}‏ يميناً مؤكدة ‏{‏وما هم منكم‏}‏ أي في نفس الأمر، ‏{‏ولكنهم قوم يفرقون‏}‏ أي فهو الذي حملهم على الحلف، ‏{‏لو يجدون ملجأ‏}‏ أي حصناً يتحصنون به وحرزاً يتحرزون به، ‏{‏أو مغارات‏}‏ وهي التي في الجبال ‏{‏أو مدخلا‏}‏ وهو السرب في الأرض والنفق، ‏{‏لولوا إليه وهم يجمحون‏}‏ أي يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرهاً لا محبة، ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم، لأن الإسلام وأهله لا يزالون في عز ونصر ورفعة‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏58 ‏:‏ 599
‏{‏ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ‏.‏ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏ أي ومن المنافقين ‏{‏من يلمزك‏}‏ أي يعيب عليك ‏{‏في‏}‏ قسم ‏{‏الصدقات‏}‏ إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتهمون المأبونون، ومع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم، ولهذا ‏{‏فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون‏}‏ أي يغضبون لأنفسهم، قال قتادة‏:‏ ومنهم من يطعن عليك في الصدقات، وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقسم ذهباً وفضة، فقال‏:‏ يا محمد‏!‏ واللّه لئن كان اللّه أمرك أن تعدل ما عدلت، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويلك فمن الذي يعدل عليك بعدي‏؟‏‏)‏، وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة لما اعترض على النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قسم غنائم حنين، فقال له‏:‏ اعدل، فإنك لن تعدل، فقال‏:‏ ‏(‏لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل‏)‏؛ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد رآه مقفياً‏:‏ ‏(‏إنه يخرج من ضِئْضِيء أي من أصله ومعدنه أو من نسله هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء‏)‏، وذكر بقية الحديث‏.‏ ثم قال تعالى منبهاً لهم على ما هو خير لهم من ذلك{‏ولو أنهم رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله وقالوا حسبنا اللّه سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله إنا إلى اللّه راغبون‏}‏ فتضمنت هذه الآية الكريمة أدباً عظيماً وسراً شريفاً، حيث جعل الرضا بما آتاه اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه وحده، في قوله ‏{‏وقالوا حسبنا الله‏}‏، وكذلك الرغبة إلى اللّه وحده، في التوفيق لطاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وامتثال أوامره وترك زواجره، وتصديق أخباره والاقتفاء بآثاره‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 03:40 AM

الآية رقم ‏(‏60‏)‏
‏{‏ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ‏}‏

لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى اللّه عليه وسلم، ولمزهم إياه في قسم الصدقات، بيَّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين، وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية، هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما أنه يجب ذلك، وهو الشافعي وجماعة، والثاني ‏:‏ أنه لا يجب استيعابها بل يجوز الدفع إلى واحد منها، وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف منهم عمر وابن عباس وحذيفة وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون ابن مهران وغيرهم ‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ وهو قول عامة أهل العلم؛ وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور، ولشدة فاقتهم وحاجتهم، وعند أبي حنيفة‏:‏ أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير، وهو كما قال أحمد، قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ الفقير ليس بالذي لا مال له، ولكن الفقير الأخلق الكسب؛ قال ابن علية‏:‏ الأخلق المحارف عندنا والجمهور على خلافه، وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد‏.‏
واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً، والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس، وقال قتادة‏:‏ الفقير من به زمانة، والمسكين الصحيح الجسم‏.‏ ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية‏.‏ فأما الفقراء فعن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّةٍ سويّ‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏"‏‏.‏

وعن عبيد اللّه ابن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلّب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال‏:‏ ‏(‏إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد جيد قوي‏"‏، وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان‏)‏ قالوا‏:‏ فما المسكين يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان‏"‏‏.‏ وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطاً على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت عن عبد المطلب بن الحارث أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة، فقال‏:‏ ‏(‏إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس‏)‏ ‏"‏رواه مسلم‏"‏‏.‏ وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام‏:‏ منهم من يعطى ليسلم، كما أعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏صفوان بن أمية‏"‏من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركاً، كما قال الإمام أحمد عن صفوان بن أمية قال‏:‏ أعطاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ‏"‏رواه أحمد ومسلم والترمذي‏"‏‏.‏ ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه، كما أعطى يوم حنين أيضاً جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل، مائة من الإبل، وقال‏:‏ ‏(‏إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبه اللّه على وجهه في نار جهنم‏)‏ وفي الصحيحين عن أبي سعيد‏:‏ أن علياً بعث إلى النبي صلى
اللّه عليه وسلم بذهبية في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر‏:‏ الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر، وعلقمة بن علاثة، وزيد الخير، وقال‏:‏ ‏(‏أتألفهم‏)‏، ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه‏.‏ ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد‏.‏
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ فيه خلاف، فروي عن
عمر وعامر والشعبي وجماعة أنهم لا يعطون بعده، لأن اللّه قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد، وقال آخرون‏:‏ بل يعطون لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوزان، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم‏.‏ وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل وسعيد بن جبير أنهم المكاتبون؛ وهو قول الشافعي والليث رضي اللّه عنهما، وقال ابن عباس والحسن لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد ومالك أي أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالاً؛ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ثلاثة حق على اللّه عونهم‏:‏ الغازي في سبيل اللّه، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن إلا أبا
داود‏"‏‏.‏ وفي المسند عن أبي البراء بن عازب قال‏:‏ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال‏:‏ ‏(‏أعتق النسمة وفك الرقبة‏)‏، فقال‏:‏ يا رسول اللّه أو ليسا واحداً‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد في المسند‏"‏‏.‏ وأما الغارمون فهم أقسام‏:‏ فمنهم من تحمل حمالة أو ضمن ديناً فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم، لما روي عن أبي سعيد قال‏:‏ أصيب رجل في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تصدقوا عليه‏)‏، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي لغرمائه‏:‏ ‏(‏خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم في صحيحه‏"‏‏.‏ وأما ‏{‏في سبيل اللّه‏}‏ فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديون‏.‏ وعند الحسن‏:‏ والحج من سبيل اللّه وكذلك ‏{‏ابن السبيل‏}‏ وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال، لحديث أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللّه، وابن السبيل، أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فريضة من الله‏}‏ أي حكماً مقدراً بتقدير اللّه وفرضه وقسمه ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏‏:‏ أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما يقوله ويشرعه ويحكم به لا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 03:55 AM

الآية رقم ‏(‏61‏)‏
‏{‏ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ومن المنافقين قوم يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالكلام فيه قيل‏:‏ هو عتاب بن قشير، وقيل هو نبتل بن الحارث ويقولون ‏{‏هو أذن‏}‏ أي من قال له شيئاً صدّقه فينا، ومن حدثه صدّقه فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل أذن خير لكم‏}‏ أي هو أذن يعرف الصادق من الكاذب، ‏{‏يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين‏}‏ أي ويصدق المؤمنين، ‏{‏ورحمة للذين آمنوا منكم‏}‏ أي وهو حجة على الكافرينن ولهذا قال‏:‏
‏{‏والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏62 ‏:‏64‏)‏
‏{‏ حلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ‏.‏ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ‏}‏

قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال‏:‏ واللّه إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقاً، لهم شر من الحمير، قال‏:‏ فسمعها رجل من المسلمين فقال‏:‏ واللّه إن ما يقول محمد لحق، ولأنت أشر من الحمار، قال‏:‏ فسعى بها الرجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال‏:‏ ‏(‏ما حملك على الذي قلت‏؟‏‏)‏ فجعل يلتعن ويحلف باللّه ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول‏:‏ اللهم صدّق الصادق وكذب الكاذب، فأنزل اللّه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله‏}‏ أي ألم يتحققوا أنه من حادّ اللّه عزَّ وجلَّ أي شاقه وحاربه وخالفه ‏{‏فأن له نار جهنم خالدا فيها‏}‏ أي مهاناً معذباً، و‏{‏ذلك الخزي العظيم‏}
أي وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏64‏)‏
{‏ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا
إن الله مخرج ما تحذرون ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ يقولون القول بينهم، ثم يقولون عسى اللّه أن لا يفشي علينا سرنا هذا، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به اللّه ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير‏}‏، وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏قل استهزئوا إن اللّه مخرج ما تحذرون‏}‏ أي إن اللّه سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبين له أمركم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج اللّه أضغانهم‏}‏، ولهذا قال قتادة‏:‏ كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فضحت المنافقين‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏65 ‏:‏ 66‏)‏
‏{‏ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ‏.‏ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ‏}‏

قال رجل من المنافقين‏:‏ ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؛ فرفع ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد ارتحل ناقته، فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنما كنا نخوض ونلعب، فقال‏:‏ ‏{‏أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون - إلى قوله - كانوا مجرمين‏}‏ وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو متعلق بسيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكره المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره ‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ورجل من أشجع يقال له مخشى بن حمير يسيرون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً، واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمار بن ياسر‏:‏ ‏(‏أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا‏)فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت يا رسول اللّه‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب، فقال مخشى بن حمير‏:‏ يا رسول اللّه قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عُفي عنه في هذه الآية مخشى بن حمير فتسمى عبد الرحمن، وسأل اللّه أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ‏"‏رواه ابن إسحاق‏"‏‏.وقال قتادة بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك وركبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا‏:‏ يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها‏؟‏ هيهات هيهات، فأطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ما قالوا، فقال‏:‏ ‏(‏عليَّ بهؤلاء النفر‏)‏ فدعاهم فقال‏:‏ ‏(‏قلتم كذا وكذا‏)‏، فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ أي بهذا المقال الذي استهزأتم به، ‏{‏إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة‏}‏ أي لا يعفي عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم ‏{‏بأنهم كانوا مجرمين‏}‏ أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏67 ‏:‏ 68‏)‏
‏{‏
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ‏.‏ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ‏}‏

يقول تعالى منكراً على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء ‏{‏يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم‏}‏ أي عن الإنفاق في سبيل اللّه، ‏{‏نسوا الله‏}‏ أي نسوا ذكر اللّه ‏{‏فنسيهم‏}‏ أي

عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى‏:‏ {‏فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا‏}‏، ‏{‏إن المنافقين هم الفاسقون‏}‏ أي الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة، وقوله‏:‏ ‏{‏وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم‏}‏ أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم، ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها مخلدين هم والكفار {‏هي حسبهم‏}‏ أي كفايتهم في العذاب، ‏{‏ولعنهم اللّه‏}‏ أي طردهم وأبعدهم{‏ولهم عذاب مقيم‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏69‏)‏
‏{‏ كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ أصاب هؤلاء من عذاب اللّه تعالى في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم، ‏{‏بخلاقهم‏}‏ قال الحسن‏:‏ بدينهم، ‏{‏وخضتم كالذي خاضوا‏}‏ أي في الكذب والباطل، ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم‏}‏ أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة، ‏{‏في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون‏}‏ لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ ما أشبه الليلة بالبارحة، ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه ‏"‏أخرجه ابن جرير عن عطاء بن عكرمة عن ابن عباس‏"‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏)‏، قالوا‏:‏ ومن هم يا رسول اللّه‏؟‏ أهل الكتاب‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن‏؟‏‏)‏، قال أبو هريرة‏:‏ الخلاق الدين، ‏{‏وخضتم كالذي خاضوا‏}‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه كما صنعت فارس والروم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فهل الناس إلا هم‏؟‏‏)‏ ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح‏"‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏70‏)‏
‏{‏ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏}‏

يقول تعالى واعظاً لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل ‏{‏ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم‏}‏ أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل، ‏{‏قوم نوح‏}‏ وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض، إلا من آمن بعبده ورسوله نوح عليه السلام، ‏{‏وعاد‏}‏ كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذبوا هوداً عليه السلام، ‏{‏وثمود‏}‏ كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحاً عليه السلام وعقروا الناقة، ‏{‏وقوم إبراهيم‏}‏ كيف نصره اللّه عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم وأهلك ملكهم نمرود لعنه اللّه، ‏{‏وأصحاب مدين‏}‏ وهم قوم شعيب عليه السلام وكيف أصابتهم الرجفة وعذاب يوم الظلة، ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ قوم لوط وقد كانوا يسكنون في مدائن، وقال ‏{‏والمؤتفكة أهوى‏}‏، والغرض أن اللّه تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي اللّه لوطاً عليه السلام، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، ‏{‏أتتهم رسلهم بالبينات‏}‏ أي بالحجج والدلائل القاطعات ‏{‏فما كان اللّه ليظلمهم‏}‏ أي بإهلاكه إياهم لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ أي بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏71‏)‏
‏{‏ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم‏}‏

لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة، فقال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏(‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً‏)‏ وشبك بين أصابعه‏.‏ وفي الصحيح أيضاً‏:‏ ‏(‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة‏}‏ أي يطيعون اللّه ويحسنون إلى خلقه، ‏{‏ويطيعون اللّه ورسوله‏}‏ أي فيما أمر وترك ما عنه زجر، ‏{‏أولئك سيرحمهم اللّه‏}‏ أي سيرحم اللّه من اتصف بهذه الصفات، ‏{‏إن اللّه عزيز‏}‏ أي يعز من أطاعه، فإن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين، ‏{‏حكيم‏}‏ في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة فإن له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏72‏)‏
‏{‏ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ‏}‏

يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها أبداً، ‏{‏ومساكن طيبة‏}‏ أي حسنة البناء طيبة القرار، كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن‏)‏، وقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن‏)‏ ‏"‏أخرج الشيخان عن أبي هريرة‏"‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الكواكب في السماء‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قلنا يا رسول اللّه حدثنا عن الجنة ما بناؤها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه‏)‏، وعند الترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها‏)‏ فقام أعرابي فقال‏:‏ يا رسول اللّه لمن هي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام‏)‏، وعن أسامة بن زيد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا هل من مشمر إلى الجنة‏؟‏ فإن الجنة لا حظر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية‏)‏، قالوا‏:‏ نعم يا رسول اللّه نحن المشمرون لها، قال‏:‏ ‏(‏قولوا إن شاء اللّه‏)‏، فقال القوم‏(‏ إن شاء اللّه ‏"‏رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد‏"‏،

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من اللّه أكبر‏}‏ أي رضا اللّه عنهم أكبر وأجل وأعظم، ممّا هم فيه من النعيم، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنة‏:‏ يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول‏:‏ هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك‏؟‏ فيقول‏:‏ ألا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا رب وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏ فيقول‏:‏ أحل لكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان ومالك عن أبي سعيد الخدري‏"‏‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 04:48 AM

الآية رقم ‏(‏73 ‏:‏ 74‏)‏
‏{‏ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ‏.‏ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ‏}‏

أمر تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة، وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأربعة أسياف‏:‏ سيف للمشركين ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين‏}‏، وسيف للكفار أهل الكتاب ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر‏}‏ وسيف للمنافقين ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏، وسيف للبغاة ‏{‏فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه‏}‏،

وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ‏.‏ قال ابن مسعود ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ قال‏:‏ بيده قإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، وقال ابن عباس‏:‏ أمره اللّه تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم، وقال الضحاك‏:‏ جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم‏.‏ وقال الحسن وقتادة ومجاهد‏:‏ مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم؛ ولا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ نزلت في عبد اللّه بن أبي وذلك أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجني على الأنصاري، فقال عبد اللّه للأنصار ألا تنصرون أخاكم‏؟‏ واللّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل‏:‏ سمِّن كلبك يأكلك، وقال‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف باللّه ما قاله، فأنزل اللّه فيه هذه الآية‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالساً في ظل شجرة، فقال‏:‏ ‏(‏إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم - بعيني الشيطان - فإذا جاء فلا تكلموه‏)‏ فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏علام تشتمني أنت وأصحابك‏؟‏‏)‏ فانطلق الرجل، فجاءه بأصحابه، فحلفوا باللّه ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله ما قالوا‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس‏"‏الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ قيل أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه همّ بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقيل‏:‏ في عبد اللّه بن أبيّ همَّ بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، قال الضحاك‏:‏ ففيهم نزلت هذه الآية، روى الحافظ البيهقي في كتاب دلائل النبوة عن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنت آخذاً بخطام ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقود به، وعمار يسوق الناقة، حتى إذا كنا بالعقبة، فإذا أنا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها، قال‏:‏ فانتهرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وصرخ بهم، فولوا مدبرين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل عرفتم القوم‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ لا يا رسول اللّه قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال‏:‏ ‏(‏هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏أرادوا أن يزاحموا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في العقبة فليقوه منها‏)‏، قلنا يا رسول اللّه أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل، حتى إذا أظهره اللّه أقبل عليهم يقتلهم‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله‏}‏ أي وما للرسول عندهم ذنب إلا أن اللّه أغناهم ببركته ويمن سعادته، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم اللّه لما جاء به كما قال صلى اللّه عليه وسلم للأنصار‏:‏ ‏(‏ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم اللّه بي‏؟‏ وكنتم متفرقين فألّفكم اللّه بي‏؟‏ وعالة فأغناكم اللّه بي‏؟‏‏)‏ كلما قال شيئاً‏:‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أمّن، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب، كقوله‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله‏}‏ الآية، ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة فقال‏:‏ ‏{‏فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم اللّه عذابا أليما في الدنيا والآخرة‏}‏ أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا‏:‏ أي بالقتل والهم والغم، والآخرة‏:‏ أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار ‏{‏وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير‏}‏ أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم، لا يحصِّلُ لهم خيراً، ولا يدفع عنهم شراً‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏75 ‏:‏ 78‏)‏
‏{‏ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ‏.‏ فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ‏.‏ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ‏.‏ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ومن المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه لئن أغناه اللّه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين، فما وفى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقاً سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة عياذاً باللّه من ذلك، وقد ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ادع اللّه أن يرزقني مالاً، قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه‏)‏ قال، ثم قال مرة أخرى، فقال‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مثل نبي اللّه‏؟‏ فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت‏(‏ قال‏:‏ والذي بعثك بالحق لئن دعوت اللّه فرزقني مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏)‏اللهم ارزق ثعلبة مالاً‏(‏، قال‏:‏ فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمى الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت، فتنحّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمي الدود، حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقي الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما فعل ثعلبة‏؟‏‏)‏ فقالوا يا رسول اللّه اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره، فقال‏:‏ ‏(‏يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة‏)‏، وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ الآية، ونزلت فرائض الصدقة، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما‏:‏ ‏(‏مرّا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما‏)‏، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، وما أدري ما هذا‏!‏ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا، وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بهما، فلما رأوها، قالوا‏:‏ ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال‏:‏ بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذاها منه، ومرا على الناس، فأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال‏:‏ أروني كتابكما، فقرأه فقال‏:‏ ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية‏!‏ انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما رآهما قال‏:‏ ‏(‏يا ويح ثعلبة‏)‏، قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن‏}‏ الآية‏.‏ فهلك ثعلبة في خلافة عثمان ‏"‏أخرجه ابن جرير بتمامه وفيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يقبل صدقته في حياته فلما قبض صلى اللّه عليه وسلم عرضها على أبي بكر فلم يقبلها ثم عرضها على عمر فلم يقبلها حتى هلك في زمن عثمان، ورواه أيضاً ابن أبي حاتم بنحوه‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما أخلفوا اللّه ما وعدوه‏}‏ الآية، أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم‏}‏ الآية، يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى وأنه أعلم بضمائرهم، وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا
منها وشكروا عليها، فإن اللّه أعلم بهم من أنفسهم، لأنه تعالى علام الغيوب، أي يعلم كل غيب وشهادة وكل سر ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏79‏)‏
‏{‏ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ‏}‏

وهذا أيضاً من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جيمع الأحوال، وإن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا؛ هذا مراء، وأن جاء بشيء يسير قالوا‏:‏ إن اللّه لغني عن صدقة هذا، كما روى البخاري عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل أي نؤاجر أنفسنا في الحمل، وفي رواية عنده في التفسير‏:‏ نتحامل، أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا‏:‏ مراء، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا‏:‏ إن اللّه لغني عن صدقة هذا، فنزلت‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوعين‏}‏ الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين‏:‏ واللّه ما جاء عبد الرحمن بما جاء إلا رياء، وقالوا‏:‏ إن اللّه ورسوله لغنيان عن هذا الصاع‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم، و عاصم بن عدي أخو بني العجلان، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما وقالوا‏:‏ ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل حليف بني عمرو ابن عوف، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوابه، وقالوا‏:‏ إن اللّه لغني عن صاع أبي عقيل‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً‏)‏، قال‏:‏ فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال‏:‏ يا رسول اللّه عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بارك اللّه لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت‏)‏ وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال يا رسول اللّه‏:‏ أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي، قال‏:‏ فلمزه المنافقون وقالوا‏:‏ ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء، وقالوا‏:‏ ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم‏}‏ ‏"‏أخرج الحافظ البزار‏"‏الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏فيسخرون منهم سخر اللّه منهم‏}‏ هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين، لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصاراً للمؤمنين في الدنيا، وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليماً، لأن الجزاء من جنس العمل‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 04:59 AM

الآية رقم ‏(‏80‏)‏
‏{‏ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ‏}‏
يخبر تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلاً للاستغفار، وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم؛ وقد قيل‏:‏ إن السبعين إنما ذكرت حسماً لمادة الاستغفار لهم، لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها؛ وقيل‏:‏ بل لها مفهوم كما روي، لما نزلت هذه الآية قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ربي قد رخص لي فيهم، فواللّه لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل اللّه أن يغفر لهم‏)‏، وقال الشعبي‏:‏ لما ثقل عبد اللّه بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إن أبي يحتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه، فانطلق معه حتى شهده، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فقيل له‏:‏ أتصلي عليه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه قال‏:‏ ‏{‏إن تستغفر لهم سبعين مرة‏}‏، ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين‏)‏"‏رواه ابن جرير بسنده‏"‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏81 ‏:‏ 82‏)‏
‏{‏ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ‏.‏ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ‏}‏

يقول تعالى ذاماً للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه ‏{‏وكرهوا أن يجاهدوا‏}‏ معه ‏{‏بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه وقالوا‏}‏ - أي بعضهم لبعض - ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا‏:‏ ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏، قال اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم ‏{‏نار جهنم‏}‏ التي تصيرون إليها بمخالفتكم ‏{‏أشد حرا‏}‏ مما فررتم منه من الحر بل أشد حراً من النار، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نار بني آدم التي توقدنها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم‏)‏، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن كانت لكافية، فقال‏:‏ ‏(‏فضّلت عليها بتسعة وستين جزءاً‏)‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم ومالك عن أبي هريرة‏"‏، وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وضربت في البحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل اللّه فيها منفعة لأحد‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد قال ابن كثير‏:‏ إسناده صحيح‏"‏‏.‏ وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوقد اللّه على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم‏)‏ وعن أنس قال‏:‏ تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏نارا وقودها الناس والحجارة‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك‏"‏،
والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة‏.‏ وقال تعالى في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏كلا إنها لظى نزاعة للشوى‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏، وقال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون‏}‏ ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن جرير‏:‏ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في حر شديد، إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة‏:‏ لا تنفروا في الحر، فنزلت‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏"‏أي أنهم لو يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل اللّه في الحر، ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا، ولكنهم كما قال الشاعر‏:‏

* كالمستجير من الرمضاء بالنار *

ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا‏:‏ ‏{‏فليضحكوا قليلا‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى اللّه عزَّ وجلَّ استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً، وقال الحافظ الموصلي عن أنس بن مالك قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏(‏يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أزجيت فيها لجرت‏)‏ ‏"‏رواه ابن ماجه والحافظ الموصلي‏"‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏83‏)‏
‏{‏ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ‏}‏

يقول تعالى آمراً لرسوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فإن رجعك اللّه‏}‏ أي ردك اللّه من غزوتك هذه ‏{‏إلى طائفة منهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً ‏{‏فاستأذنوك للخروج‏}‏‏:‏ أي معك إلى غزوة أخرى ‏{‏فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا‏}‏، أي تعزيزاً لهم وعقوبة، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود أول مرة‏}‏، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة‏}‏ الآية، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقعدوا مع الخالفين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فاقعدوا مع الخالفين‏}‏ أي مع النساء، قال ابن جرير‏:‏ وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون، ولو أريد النساء لقال‏:‏ فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات، ورجح قول ابن عباس رضي اللّه عنهما‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏84‏)‏
‏{‏ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله
وماتوا وهم فاسقون ‏}‏

أمر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين، وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا عليه؛ وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد اللّه بن أبي سلول رأس المنافقين‏.‏ كما قال البخاري عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ لما توفي عبد اللّه ابن أبي، جاء ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسأله أن يعيطه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول اللّه تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما خيرني اللّه فقال‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم‏}‏ وسأزيده على سبعين‏)‏، قال‏:‏ إنه منافق، قال‏:‏ فصلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ آية‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره‏}
‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم‏"‏‏.‏

وعن عباس قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول‏:‏ لما توفي عبد اللّه بن أبي دعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه، فلما وقف يريد الصلاة عليه تحولت حتى قمت في صدره، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه أعلى عدو اللّه عبد اللّه بن أبي القائل يوم كذا وكذا - يعدّد أيامه - ‏؟‏ قال‏:‏ ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال‏:‏ ‏(‏أخّر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قد قيل لي‏:‏ ‏{‏استغفر لهم‏}‏ الآية، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت‏)‏، قال‏:‏ ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال‏:‏ فعجبت من جرأتي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ فواللّه ما كان يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ الآية، فما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه اللّه عزَّ وجلَّ ‏"‏رواه أحمد والترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح‏"‏،
وروى الإمام أحمد عن جابر قال‏:‏ لما مات عبد اللّه بن أبي أتى ابنه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنك لم تأته لم نزل نعيّر بهذا، فأتاه النبي صلى اللّه عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته، فقال‏:‏ ‏(‏أفلا قبل أن تدخلوه‏)‏، فأخرج من حفرته، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه‏.‏ وقال البخاري‏:‏ أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن أبي بعدما أدخل في قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، واللّه أعلم‏.‏

وقال قتادة‏: أرسل عبد اللّه بن أبي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مريض، فلما دخل عليه قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أهلكك حب يهود‏)‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني، ثم سأله عبد اللّه أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير الطبري‏"‏الآية، ولهذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين، ولا يقوم على قبره، كما قال قتادة‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها‏:‏ ‏(‏شأنكم بها‏)‏، ولم يصل عليها؛ وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، قد أخبره بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ ولهذا كان يقال له‏:‏ صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة، ولما نهى اللّه عزَّ وجلَّ عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك، وفي فعله الأجر الجزيل، كما ثبت في الصحاح‏:‏ ‏(‏من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان‏)‏ قيل‏:‏ وما القيراطان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أصغرهما مثل أُحُد‏)‏؛ وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فروى أبو داود عن عثمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وقال‏:‏ ‏(‏استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل‏)‏
‏"‏أخرجه أبو داود في سننه‏"‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏85‏)‏
‏{‏ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ‏}‏

تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة، وللّه الحمد والمنة‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏86 ‏:‏ 87‏)‏
‏{‏ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ‏.‏ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ‏}‏

يقول تعالى منكراً وذاماً للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه مع القدرة عليه، ووجود السعة والطول، واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا‏:‏ ‏{‏ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏ ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاماً كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد‏}‏ أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن، كما قال الشاعر‏:‏

أفي السلم أعياراً‏:‏ جفاء وغلظة * وفي الحرب أشباه النساء الفوارك‏؟‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وطبع على قلوبهم‏}‏ أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل اللّه، ‏{‏فهم لا يفقهون‏}‏ أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 05:15 AM

الآية رقم ‏(‏88 ‏:‏ 89‏)‏
{‏ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ‏.‏ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ‏}‏

لما ذكر تعالى ذنب المنافقين، بيّن ثناءه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم فقال‏:‏ ‏{‏لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا‏}‏ لبيان حالهم ومآلهم، وقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك لهم الخيرات‏}‏ أي في الدار الآخرة في جنات الفردوس والدرجات العلى‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏90‏)‏
‏{‏ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب
الذين كفروا منهم عذاب أليم ‏}‏

ثم بيَّن تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا إلى رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة، قال ابن إسحاق‏:‏ وبلغني أنهم نفر من بني غفار، وهذا القول هو الأظهر روى الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏وجاء المعذرون‏}‏ بالتخفيف ويقول‏:‏ هم أهل العذر وقراءة الجمهور بالتشديد ، لأنه قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله‏}‏ أي لم يأتوا فيعتذروا، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب‏}‏ قال‏:‏ نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم اللّه؛ وكذا قال الحسن وقتادة‏:‏ ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال‏:‏ ‏{‏سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏91 ‏:‏ 93‏)‏
‏{‏ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ‏.‏ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ‏.‏ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ‏}‏

ثم بيَّن تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها على القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعرج ونحوهما؛ ولهذا بدأ به، ومنها ما هو عارض بسبب مرض في بدنه شغله عن الخروج في سبيل اللّه، أو بسبب فقر لا يقدر على التجهيز للحرب، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ نزلت هذه الآية في عائذ ابن عمرو المزني، وروي عن زيد بن ثابت قال‏:‏ كنت أكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكنت أكتب براءة، فإني لواضع القلم على أذني، إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر ما نزل عليه، إذ جاء أعمى فقال‏:‏ كيف بي يا رسول اللّه وأنا أعمى‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ الآية‏.‏ وقال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد اللّه بن مغفل المزني، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه احملنا، فقال لهم‏:‏ ‏(‏واللّه لا أجد ما أحملكم عليه‏)‏، فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فلما رأى اللّه حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال‏:‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فهم لا يعلمون‏}‏، وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ نزلت في بني مقرن من مزينة، كانوا سبعة نفر، فاستحملوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانوا أهل حاجة، فقال‏:‏ ‏{‏لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏‏.‏ وفي حديث أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم‏)‏ قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم حبسهم العذر‏)
‏"‏أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك‏"‏‏.‏ وعن جابر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد خلفتم بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سلكتم طريقاً إلا شركوكم في الأجر حبسهم المرض‏)‏ ‏"‏رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‏"‏، ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء، وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرجال‏:‏ ‏{‏وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏94 ‏:‏ 96‏)‏
‏{‏ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ‏.‏ وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ‏.‏ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ‏.‏ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ‏.‏ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ‏}‏

أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم ‏{‏قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم‏}‏ لن نصدقكم ‏{‏قد نبأنا اللّه من أخباركم‏}‏ أي قد أعلمنا اللّه أحوالكم، ‏{‏وسيرى اللّه عملكم ورسوله‏}‏ أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، ‏{‏ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها، ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون لكم معتذرين لتعرضوا عنهم، فلا تؤنبوهم، فأعرضوا عنهم احتقاراً لهم ‏{‏إنهم رجس‏}‏ أي خبث نجس بواطنهم واعتقادتهم، ومأواهم في آخرتهم جهنم، ‏{‏جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏ أي من الآثام والخطايا، وأخبر أنهم إن رضوا عنهم بحلفهم لهم، ‏{‏فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏ أي الخارجين عن طاعة اللّه وطاعة رسوله‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏97 ‏:‏ 99‏)‏
‏{‏ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ‏.‏ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ‏.‏ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ‏}‏

أخبر تعالى أن في الأعراب كفاراً ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، ‏{‏وأجدر‏}‏ أي أحرى ‏{‏ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله‏}‏، كما قال الأعمش‏:‏ جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي‏:‏ واللّه إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني، فقال زيد‏:‏ ما يريبك من يدي إنها الشمال‏؟‏ فقال الأعرابي‏:‏ واللّه ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال‏!‏ فقال زيد صدق اللّه‏:‏ ‏{‏الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس مرفوعاً‏"‏، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به، وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري‏.‏ ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث اللّه منهم رسولاً، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت‏:‏ قدم ناس من الأعراب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ أتقبلون صبيانكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ لكنا واللّه ما نقبل،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأملك ‏"‏وفي البخاري أو أملك لك إن نزع اللّه من قلبك الرحمة‏"‏إن كان اللّه نزع منكم الرحمة‏)‏‏؟‏ وقال ابن نميرة‏:‏ ‏(‏من قلبك الرحمة‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ أي عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، ‏{‏حكيم‏}‏ فيما قسم بين عباده، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته، وأخبر تعالى أن منهم‏:‏ ‏{‏من يتخذ ما ينفق‏}‏ أي في سبيل اللّه ‏{‏مغرما‏}‏ أي غرامة وخسارة، ‏{‏ويتربص بكم الدوائر‏}‏ أي ينتظر بكم الحوادث والآفات، ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ أي هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم، ‏{‏واللّه سميع عليم‏}‏ أي سميع لدعاء عباده، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه وصلوات الرسول‏}‏ هذا هو القسم الممدوح من الأعراب، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل اللّه قربة يتقربون بها عند اللّه ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، ‏{‏ألا إنها قربة لهم‏}‏ أي ألا إن ذلك حاصل لهم، ‏{‏سيدخلهم اللّه في رحمته إن اللّه غفور رحيم‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏100‏)‏
‏{‏ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ‏}‏

يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم بما أعد لهم من جنات النعيم، قال الشعبي‏:‏ السابقون الأولون من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية، وقال الحسن وقتادة‏:‏ هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقد أخبر اللّه العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم أبا بكر رضي اللّه عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم، عياذاً باللّه من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي اللّه عنهم، وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي اللّه عنه، ويسبون من سبه اللّه ورسوله، ويوالون من يوالي اللّه، ويعادون من يعادي اللّه، ومهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، وهؤلاء هم حزب اللّه المفلحون‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏101‏)‏
‏{‏ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ‏}‏

يخبر تعالى رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون، وفي أهل المدينة أيضاً منافقون، ‏{‏مردوا على النفاق‏}‏ أي مرنوا واستمروا عليه، ومنه يقال‏:‏ شيطان مريد ومارد، ويقال تمرد فلان على اللّه أي عتا وتجبر، وقوله‏:‏ ‏{‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ لا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم‏}‏، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا لأنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين؛ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏ يعني القتل والسبي، وقال في رواية‏:‏ بالجوع وعذاب القبر، ‏{‏ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏، وقال الحسن البصري‏:‏ عذاب في الدنيا وعذاب في القبر، وقال ابن زيد‏:‏ أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا‏}‏ فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر، وعذاب في الآخرة في النار، ‏{‏ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏ قال‏:‏ النار‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏102‏)‏
‏{‏ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب
عليهم إن الله غفور رحيم ‏}‏

لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزو تكذيباً وشكاً، شرع في بيان حال المكذبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال‏:‏ ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏ أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم، ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو اللّه وغفرانه، وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين، وقد قال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا ألا يحلهم إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما أنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏ أطلقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعفا عنهم، وروى البخاري عن سمرة بن جندب قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لنا‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم‏:‏ اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك، قالا‏:‏ وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز اللّه عنهم‏)‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏103 ‏:‏ 104‏)‏
‏{‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ‏.‏ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم‏}‏

أمر تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها ويزكيهم بها، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في ‏{‏أموالهم‏}‏ إلى الذين اعترفوا بذنوبهم ‏"‏في اللباب‏:‏ أخرج ابن جرير‏:‏ وجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه هذه أموالنا، فتصدق بها واستغفر لنا، فقال‏:‏ ‏(‏ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً‏(‏، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم‏}‏ الآية‏.‏ وعن قتادة‏:‏ أن هذه الآيات نزلت في سبعة‏:‏ أربعة منهم ربطوا أنفسهم، وهم أبو لبابة، ومرداس، وأوس ابن خزان، وثعلبة بن وديعة‏"‏‏.‏ ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون، وإنما كان خاصاً بالرسول صلى اللّه عليه وسلم، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ الآية، وقد رد عليهم أبو بكر الصديق وقاتلهم حتى أدوا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى قال الصديق‏:‏ واللّه لو منعوني عناقاً - وفي رواية عقالاً - كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وصل عليهم‏}‏ أي ادع لهم واستغفر لهم، كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال‏:كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقته، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه صل عليّ وعلى زوجي، فقال‏:‏ ‏(‏صلى اللّه عليك وعلى زوجك‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن صلاتك سكن لهم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ رحمة لهم، وقال قتادة‏:‏ وقار، وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه سميع‏}‏ أي لدعائك ‏{‏عليم‏}‏ أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له، ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات‏}‏، هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها، وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن اللّه يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها، حتى تصير التمرة مثل أُحد، كما جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتكون مثل أُحد‏)‏، وتصديق ذلك في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات‏}‏‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 05:26 AM

الآية رقم ‏(‏105‏)‏
‏{‏ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ هذا وعيد من اللّه تعالى للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال‏:‏ ‏{‏يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وحصل ما في الصدور‏}‏، وقد يظهر اللّه تعالى ذلك للناس في الدنيا كما قال الإمام أحمد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج اللّه عمله للناس كائناً ما كان‏)‏، وقد ورد‏:‏ أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا‏:‏ اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والطيالسي‏"‏‏.‏ وقال البخاري‏:‏ قالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل‏:‏ ‏{‏اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون‏}‏، وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا أراد اللّه بعبده خيراً استعمله قبل موته‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه وكيف يستعمله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه‏)‏ ‏
"‏أخرجه أحمد عن أنس ابن مالك‏"‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏106‏)‏
‏{‏ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ‏}‏

قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هم الثلاثة الذين خلفوا، أي عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع و كعب بن مالك و هلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلاً وميلاً إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكاً ولا نفاقاً، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجي هؤلاء عن التوبة، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله‏:‏ ‏{‏لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار‏}‏ الآية، ‏{‏وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت‏}‏ الآية، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك، وقوله‏:‏ ‏{‏إما يعذبهم وإما يتوب عليهم‏}‏ أي هم تحت عفو اللّه إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه، ‏{‏واللّه عليم حكيم‏}‏ أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، ‏{‏حكيم‏}‏ في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏107 ‏:‏ 108‏)‏
‏{‏ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ‏.‏ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏

سبب نزول هذه الآيات الكريمات
أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم اللّه يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش، يمالئهم على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم اللّه عزَّ وجلَّ، وكانت العاقبة للمتقين، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين،

فوقع في إحداهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشج رأسه صلوات اللّه وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا‏:‏ لا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق يا عدو اللّه، ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول‏:‏ واللّه قد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد دعاه إلى اللّه قبل فراره وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة‏.‏ وذلك لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فوعده ومنَّاه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه اللّه من الصلاة فيه فقال‏:‏ ‏(‏إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء اللّه‏)‏، فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال ابن عباس في الآية‏:‏ هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر‏:‏ ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليحلفن‏}‏‏:‏ أي الذين بنوه، ‏{‏إن أردنا إلا الحسنى‏}‏ أي ما أردنا ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ أي فيما قصدوا وفيما نووا، وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء، وكفراً باللّه وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الفاسق لعنه اللّه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ نهي له صلى اللّه عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن تقوم فيه‏:‏ أي يصلي أبداً، ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من يوم بنيانه على التقوى، وهي طاعة اللّه وطاعة رسوله وجمعاً لكلمة المؤمنين وموئلاً للإسلام وأهله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه‏}‏، والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجد قباء كعمرة‏)‏، وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً، وفي الحديث‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف، كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة واللّه أعلم‏.‏

قال الإمام أحمد، عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ واللّه يا رسول اللّه ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا‏.‏ وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري وسعيد بن حبان وقتادة وغيرهم ‏.‏ وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي في جوف المدنية هو المسجد الذي أسس على التقوى؛ وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ اختلف رجلان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، أحدهما قال‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد قباء، فأتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم فسألاه فقال‏:‏ ‏(‏هو مسجدي هذا‏)‏ وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال أحدهما‏:‏ هو مسجد قباء، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هو مسجدي هذا‏)‏ ‏"‏رواهما الإمام أحمد رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد، عن أبي سعيد عن أبيه أنه قال‏:‏ تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل‏:‏ هو مسجد قباء، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هو مسجدي‏)‏ ‏
"‏رواه أحمد والترمزي والنسائي‏"‏‏.‏

طريق آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى عن أنيس بن يحيى، حدثني أبي، قال‏:‏ سمعت أبا سعيد الخدري قال‏:‏ اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري‏:‏ هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال العمري‏:‏ هو مسجد قباء، فأتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألاه عن ذلك، فقال‏:‏ ‏لمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال في ذلك يعني مسجد قباء، وقد قال‏:‏ بأنه مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم جماعة من السلف والخلف، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد اللّه، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير، وقوله‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏، دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة اللّه وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات، وقال الإمام أحمد‏:‏ عن رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فيها فأوهم، فلما انصرف قال‏:‏ ‏(‏إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا، فليحسن الوضوء‏)‏، فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها، وقال أبو العالية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يحب المطهرين‏}‏ إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب، وقال الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏109 ‏:‏ 110‏)‏
‏{‏ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ‏.‏ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان، ومن بنى مسجد
ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار، أي طرف حفيرة في نار جهنم، ‏{‏واللّه لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي لا يصلح عمل المفسدين، قال جابر‏:‏ رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدخان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال ابن جريج‏:‏ ذكر لنا أن رجالاً حفروا فوجدوا الدخان الذي يخرج منه، وكذا قال قتادة‏.‏
وقال خلف الكوفي‏:‏ رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره اللّه تعالى في القرآن، وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم‏}‏ أي شكاً ونفاقاً بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، أورثهم نفاقاً في قلوبهم كما أُشرِب عابدو العجلِ حبَّه، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تقطع قلوبهم‏}‏ أي بموتهم، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد من السلف، ‏{‏واللّه عليم‏}‏ أي بأعمال خلقه، ‏{‏حكيم‏}‏ في مجازاتهم عنها من خير وشر‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏111‏)‏
‏{‏ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ‏}‏

يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم - إذ بذلوها في سبيله - بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العَوْض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له‏.‏ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة‏:‏ بايعهم واللّه فأغلى ثمنهم، وقال شمر بن عطية‏:‏ ما من مسلم إلا وللّه عزَّ وجلَّ في عنقه بيعة وفى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية، وقال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني ليلة العقبة‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال‏:‏ ‏(‏أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم‏)‏، قالوا‏:‏ فما لنا إذا فعلنا ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجنة‏)‏، قالوا‏:‏ ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت‏:‏ ‏{‏إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون‏}‏ أي سواء قَتَلوا أو قُتلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة، ولهذا جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏تكفّل اللّه لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏ تأكيد لهذا الوعد، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه العظيمة وهي ‏{‏التوراة‏}‏ المنزلة على موسى، و‏{‏الإنجيل‏}‏ المنزل على عيسى، و‏{‏القرآن‏}‏ المنزل على محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من اللّه حديثا‏}‏، ‏{‏ومن أصدق من اللّه قيلا‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‏}‏ أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد، ووفى بهذا العهد، بالفوز العظيم والنعيم المقيم‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 05:35 AM

الآية رقم ‏(‏112‏)‏
‏{‏ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ‏}
هذا نعت المؤمنين الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة، ‏{‏التائبون‏}‏ من الذنوب كلها، التاركون للفواحش، ‏{‏العابدون‏}‏ أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها، ومن أخصها الحمد للّه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الحامدون‏}‏، ومن أفضل الأعمال الصيام، وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع، وهو المراد بالسياحة ههنا، قال‏:‏ ‏{‏السائحون‏}‏ كما وصف أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سائحات‏}‏ أي صائمات، وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الراكعون الساجدون‏}‏، وهم مع ذلك ينفعون خلق اللّه ويرشدونهم إلى طاعة اللّه بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه، وهو حفظ حدود اللّه في تحليله وتحريمه علماً وعملاً، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ لأن الإيمان يشمل هذا كله، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به، والسياحة يراد بها الصيام فقد سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن السائحين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هم الصائمون‏)‏، وهذا أصح الأقوال وأشهرها‏.‏ وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، وهو ما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول اللّه ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سياحة أمتي الجهاد في سبيل اللّه‏)‏ وعن عكرمة أنه قال‏:‏ هم طلبة العلم، وقال ابن أسلم‏:‏ هم المهاجرون، وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال، والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال‏:‏ أي رؤوس الجبال‏"‏ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن‏)‏، وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والحافظون لحدود الله‏}‏ قال‏:‏ القائمون بطاعة اللّه، وكذا قال الحسن البصري، وعنه قال‏:‏ لفرائض اللّه، والقائمون على أمر اللّه‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏113 ‏:‏ 114‏)‏
{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ‏.‏ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ‏}‏

لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد اللّه ابن أبي أمية فقال‏:‏ ‏(‏أي عم‏!‏ قل‏:‏ لا إله إلا اللّه، كلمة أحاج لك بها عند اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏، فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فقال‏:‏ أنا على ملة عبد المطلب‏!‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأستغفرن لك ما لم أنه عنك‏)‏، فنزلت‏:‏ ‏{‏ما كان

للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏، قال، ونزلت فيه‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء‏}‏ ‏"‏أخرجه الشيخان وأحمد عن ابن المسيب‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد، عن ابن بريدة عن أبيه قال‏:‏ كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ونحن في سفر، فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال‏:‏ يا رسول اللّه ما لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إني سألت ربي عزَّ وجلَّ في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث‏:‏ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها لتذكركم زيارتها خيراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشريوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكراً‏)‏

وقال ابن أبي حاتم، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً إلى المقابر، فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلاً، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا فقال‏:‏ ‏(‏ما أبكاكم‏)‏‏؟‏ فقلنا‏:‏ بكينا لبكائك، قال‏:‏ ‏(‏إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي‏)‏، ثم أورده من وجه آخر وفيه‏:‏ ‏(‏وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل عليَّ‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا‏}‏ الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة‏.‏

وقال ابن عباس في هذه الرواية‏:‏ كانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه‏}‏ الآية، وقال قتادة في الآية، ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا‏:‏ يا نبي اللّه إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم‏؟‏ قال‏:‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بلى، واللّه إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه‏)‏، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏، ثم عذر اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه‏}‏ الآية، وقال الثوري، عن ابن عباس‏:‏ مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس، فقال‏:‏ فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حياً، فإذا مات وكله إلى شأنه، ثم قال‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه - إلى قوله - تبرأ منه‏}‏، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي اللّه عنه‏:‏ لما مات أبو طالب قلت‏:‏ يا رسول اللّه إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال‏:‏ ‏(‏اذهب فواره ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني‏)‏، فذكر تمام الحديث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو اللّه تبرأ منه‏.‏ وفي رواية‏:‏ لما مات تبين له أنه عدو اللّه، وكذا قال مجاهد والضحاك، وقوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏، قال ابن مسعود‏:‏ الأواه الدعَّاء؛ وقال ابن جرير‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول اللّه ما الأواه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏المتضرع‏)‏، وقال الثوري‏:‏ سئل ابن مسعود عن الأواه، فقال‏:‏ هو الرحيم أي بعباد اللّه، وقال ابن عباس‏:‏ الأواه الموقن، بلسان الحبشة‏.‏ وعنه‏:‏ الأواه المؤمن‏.‏ وقال سعيد بن جبير والشعبي‏:‏ الأواه المسبّح، وعن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال‏:‏ لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه، وعن مجاهد‏:‏ الأواه الحفيظ، الرجل يذنب الذنب سراً ثم يتوب منه سراً، ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه اللّه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ إن رجلاً كان يكثر ذكر اللّه ويسبح، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إنه أواه‏)‏، وقال أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دفن ميتاً فقال‏:‏ ‏(‏رحمك اللّه إن كنت لأواهاً‏)‏ يعني تلاءً للقرآن، قال ابن جرير‏:‏ وأولى الأقوال قول من قال إنه الدعّاء وهو المناسب للسياق، وذلك أن اللّه تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله‏:‏ ‏{‏أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا‏}‏ فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏‏.‏

http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏115 ‏:‏ 116‏)‏
‏{‏ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم ‏.‏ إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة وحكمه العادل، إنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأما ثمود فهديناهم‏}‏ الآية، قال ابن جرير‏:‏ يقول تعالى‏:‏ وما كان اللّه ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن يبين كم كراهة ذلك فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعاً أو عاصياً فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ هذا تحريض من اللّه لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر، وأنهم يثقوا بنصر اللّه مالك السموات والأرض، ولا يرهبوا من أعدائه، فإنه لا ولي لهم من دون اللّه، ولا نصير لهم سواه‏.‏ وقال ابن أبي حاتم، عن حكيم بن حزام قال‏:‏ بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم‏:‏ ‏(‏هل تسمعون ما أسمع‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ ما نسمع من شيء، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم‏)‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏117‏)‏
{‏ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ‏}‏

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في سنة مجبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء، عن عبد اللّه بن عباس قال‏:‏ قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى وإن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إن اللّه عزَّ وجلَّ قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع لنا، فقال‏:‏ ‏(‏تحب ذلك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ‏"‏أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏، قال ابن جرير في قوله‏:‏ ‏{‏لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة‏}‏ أي من النفقة والظهر والزاد والماء، ‏{‏من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏}‏ أي عن الحق، ويشك في دين الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم، ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ يقول‏:‏ ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه ‏{‏إنه بهم رؤوف رحيم‏}‏‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 07:58 PM

الأية رقم ‏(‏118 ‏:‏ 119‏)‏
‏{‏ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ‏.‏ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ‏}‏

قال الإمام أحمد، عن عبيد اللّه بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال‏:‏ سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك‏:‏ لم أتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع اللّه بينهم وبين عدوهم على غير معاد، ولقد شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر‏.‏ وكان خبري حين تخلفت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، واللّه ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - ‏.‏ قال كعب‏:‏ فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من اللّه عزّ وجلّ؛ وغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصعر، فتجهز إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أنجز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً، فأقول لنفسي‏:‏ أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، وقلت‏:‏ أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره اللّه عزّ وجلّ، ولم يذكرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك‏:‏ ‏(‏ما فعل كعب بن مالك‏)‏‏؟‏ فقال رجل من بني سلمة‏:‏ حبسه يا رسول اللّه برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل‏:‏ بئسما قلت، واللّه يا رسول اللّه ما علمنا عنه إلا خيراً‏.‏ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏.‏

قال كعب بن مالك‏:‏ فلما بلغني
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول‏:‏ بماذا أخرج من سخطه غداً، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أظل قادماً راح عني الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه‏.‏ فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علانيتهم، ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى اللّه تعالى، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي‏:‏ ‏(‏تعال‏)‏، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي‏:‏ ‏(‏ما خلفك، ألم تكن قد اشتريت ظهراً‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه إني لو جلست عند غيرك
من الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن اللّه أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من اللّه عزّ وجلّ؛ واللّه ما كان لي عذر، واللّه ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما هذا فصدق، فقم حتى يقضي اللّه فيك‏)‏ فقمت، وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا‏:‏ واللّه ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ واللّه ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال‏:‏ ثم قلت لهم‏:‏ هل لقي معي هذا أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت‏:‏ فمن هما‏؟‏ قالوا‏:‏ مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أُمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، قال‏:‏ فمضيت حين ذكروهما لي؛ قال‏:‏ ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة‏.‏ ثم ذكر تتمة الحديث
‏"‏أخرجه الشيخان وأحمد، وله تتمة طويلة في توبة اللّه عزَّ وجلَّ عليه يرجع إليها في الصحيحين‏"‏‏.‏

قال وأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين‏}‏‏.‏ ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي مع سعتها، فسدت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر اللّه واستكانوا لأمر اللّه، وثبتوا حتى فرج اللّه عنهم بسبب صدقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تخلفهم، وإنه كان عن غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب اللّه عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم، ولهذا قال‏(‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين‏}‏ أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين‏}‏، وقال الحسن البصري‏:‏ إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهذ في الدنيا والكف عن أهل الملة‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الأية رقم ‏(‏120‏)‏
‏{‏ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولاينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ‏}‏

يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر، لأنهم ‏{‏لا يصيبهم ظمأ‏}‏ وهو العطش ‏{‏ولا نصب‏}‏ وهو التعب ‏{‏ولا مخمصة‏}‏ وهي المجاعة ‏{‏ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار‏}‏ أي ينزلوا منزلاً يرهب عدوهم، ‏{‏ولا ينالون‏}‏ منه ظفراً وغلبة عليه، ‏{‏إلا كتب لهم‏}‏ بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً، ‏{‏إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ كقوله‏:‏
‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الأية رقم ‏(‏121‏)‏
‏{‏ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ‏}‏

يقول تعالى ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل اللّه ‏{‏نفقة صغيرة ولا كبيرة‏}‏ أي قليلاً ولا كثيراً، ‏{‏ولا يقطعون واديا‏}‏ أي في السير إلى الأعداء، ‏{‏إلا كتب لهم‏}‏، ولم يقل ههنا به لأن هذه أفعال صادرة عنهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون‏}‏، وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللّه عنه من هذه الآية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم؛ وذلك أنه أفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة، كما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان رضي اللّه عنه‏:‏ عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال‏:‏ ثم حث، فقال عثمان بن عفان‏:‏ عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال‏:‏ ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان بن عفان‏:‏ علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال‏:‏ فرأيترسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها، ‏)‏ما على عثمان ما عمل بعد هذا‏)‏ وعن عبد الرحمن بن سمرة قال‏:‏ جاء عثمان رضي اللّه عنه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى اللّه عليه وسلم جيش العسرة، قال‏:‏ فصبها في حجر النبي صلى اللّه عليه وسلم، فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول‏:‏ ‏(‏ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم‏)‏ يرددها مراراً، وقال قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم‏}‏ الآية، ما ازداد قوم في سبيل اللّه بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من اللّه‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 08:08 PM

الأية رقم ‏(‏122‏)‏
‏{‏ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ‏}‏

هذا بيان من اللّه تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، عن ابن عباس في الآية‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏، يقول‏:‏ ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى اللّه عليه وسلم وحده‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ يعني عصبة، يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقالوا‏:‏ إن اللّه قد أنزل على نبيكم قرآناً، وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل اللّه على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ليتفقهوا في الدين‏}‏ يقول‏:‏ ليعلموا ما أنزل اللّه على نبيهم، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ‏{‏لعلهم يحذرون‏}‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفاً، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال لهم الناس‏:‏ ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا، فوجدوا من أنفسهم من ذلك تحرجاً، واقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال اللّه عز وجل‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ يبغون الخير ‏{‏ليتفقهوا في الدين‏}‏ وليستمعوا إلى ما أنزل اللّه، ‏{‏ولينذروا قومهم‏}‏ الناس كلهم ‏{‏إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون‏}‏، وقال الضحاك‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار، وكان إذا أقام وأرسل السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه، وكان الرجل إذا غزا فنزل بعده قرآن وتلاه نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ إن اللّه أنزل بعدكم على نبيه قرآناً فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏، يقول‏:‏ إذا أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ يعني ذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعاً، ونبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعد، ولكن إذا قعد نبي اللّه فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ألا تنفروا يعذبكم عذابا أليما‏}‏، ‏{‏وما كان لأهل المدينة‏}‏ الآية، قال المنافقون‏:‏ هلك أصحاب البدو والذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقونهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏‏.
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الأية رقم ‏(‏123‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ‏}‏

أمر اللّه تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح اللّه عليه مكة والمدينة والطائف وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين اللّه أفواجاً شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام‏.‏ ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية صلوات اللّه وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوماً، فاختاره اللّه لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وخليفته أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، فأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفُرس عبدة النيران، ففتح اللّه ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل اللّه، كما أخبر بذلك رسول اللّه، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق عمر بن الخطاب، رضي اللّه عنه، فأرغم اللّه به أنوف الكفرة الملحدين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، ثم لما مات أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه شهيد الدار، فكسى الإسلام حلة سابغة، وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة اللّه البالغة فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ وعلت كلمة اللّه وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفة من أعداء اللّه غاية مآربها، وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار امتثالاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليجدوا فيكم غلظة‏}‏ أي وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً بأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أشداء على الكفار رحماء بينهم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم‏}‏، وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أنا الضحوك القتال‏)‏ يعين أنه ضحوك في وجه وليه، قتال لهامة عدوه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أن اللّه مع المتقين‏}‏ أي قاتلوا الكفار، وتوكلوا على اللّه، واعلموا أن اللّه معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه، وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة اللّه تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في البلاد، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، وللّه الأمر من قبل ومن بعد‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الأية رقم ‏(‏124 ‏:‏ 125‏)‏
‏{‏ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ‏.‏ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة‏}‏ فمن المنافقين {‏من يقول أيكم زادته هذه إيمانا‏}‏ أي يقول بعضهم لبعض، وفي الآية الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء،{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم‏}‏ أي زادتهم شكاً إلى شكهم وريباً إلى ريبهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى‏}‏، وهذه من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سبباً لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالاً ونقصاً‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الأية رقم ‏(‏126 ‏:‏ 127‏)‏
‏{‏ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ‏.‏ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ أولا يرى هؤلاء المنافقون، ‏{‏أنهم يفتنون‏}‏ أي يختبرون، ‏{‏في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏}‏ أي لا يتوبون عن ذنوبهم السالفة، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يختبرون بالسنة والجوع، وقال قتادة بالغزو في السنة مرة أو مرتين، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض‏}‏ هذا أيضاً إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏نظر بعضهم إلى بعض‏}‏ أي تلفتوا ‏{‏هل يراكم من أحد ثم انصرفوا‏}‏ أي تولوا عن الحق وانصرفوا عنه، وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم انصرفوا صرف اللّه قلوبهم‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم‏}‏، قوله‏:‏ ‏{‏بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏ أي لا يفهمون عن اللّه خطابه، ولا يتصدون لفهمه ولا يريدونه، بل هم في شغل عنه ونفور منه، فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الأية رقم ‏(‏128 ‏:‏ 129‏)‏
‏{‏ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ‏.‏ فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ‏}‏

يقول تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولا منهم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ أي منكم وبلغتكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عزيز عليه ما عنتم‏}‏ أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها اللّه تعالى عليه، ‏{‏حريص عليكم‏}‏ أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه‏:‏ اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال‏:‏ إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال‏:‏ أرأيتم إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء تتبعوني‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فانطلق بهم فأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم‏:‏ ألم ألقكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني‏؟‏ فقالوا‏:‏ بلى، فقال‏:‏ فإن بين أيديكم رياضاً هي أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة‏:‏ صدق واللّه لنتبعنَّه، وقالت طائفة‏:‏ قد رضينا بهذا نقيم عليه ‏"‏رواه أحمد‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة، ‏{‏فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو‏}‏ أي اللّه كافي، لا إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا‏}‏،

‏{‏وهو رب العرش العظيم‏}‏ أي هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب العرش العظيم وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش، مقهورون بقدرة اللّه تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، وقد روى أبو داود عن أبي الدرداء قال‏:‏ من قال إذا أصبح وإذا أمسى‏:‏ حسبي اللّه، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات إلا كفاه اللّه ما أهمه‏.‏

قلب الزهـــور 19-05-2014 08:10 PM

اللهم لاتؤاخذني ان نسيت او اخطأت

شمس القوايل 22-05-2014 10:40 PM

بارك الله فيج وجزاج الله الخير

وجعله في ميزان حسناتج

قلب الزهـــور 29-05-2014 03:32 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شمس القوايل (المشاركة 5608050)
بارك الله فيج وجزاج الله الخير

وجعله في ميزان حسناتج

●●●
يمرحبا
هلااااااااااوغلاااااااااااا
يسعدلي قلبك ويسلمووو وربي على الحضور الرائع بصفحتي
وجزاك الله كووول خير ويعطيك الصحة والسعادة يارب
تقبلي شكري وتقديري واحترامي
مع تحياتي : قلب الزهـــور ..بباي
http://www.sheekh-3arb.net/3atter/di...s/image366.gif



الساعة الآن 02:04 PM.