منتديات  الـــود

منتديات الـــود (http://vb.al-wed.com/index.php)
-   ۞ مكتبة الــوٍد الإسلامية ۞ (http://vb.al-wed.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   ۩ تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ... (http://vb.al-wed.com/showthread.php?t=315776)

قلب الزهـــور 05-05-2014 02:44 AM

۩ تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ...
 
تفسير سورة النساء عدد آياتها 176 ...
وهي مدنية
مقدمة
قال العوفي عن ابن عباس‏:‏ نزلت سورة النساء بالمدينة وقال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة‏}‏ الآية، ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏}‏ الآية، ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشر به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏، ‏{‏لو أنه إذ ظلموا أنفسهم جاؤك‏}‏ الآية، وقوله ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيما‏}‏ رواه ابن جرير‏.‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 02:55 AM

الآية رقم ‏(‏1‏)‏
‏{‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ‏}‏
أمر اللّه تعالى خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من ‏{‏نفس واحدة‏}‏ وهي آدم عليه السلام ‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏ وهي حواء عليها السلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليه وأنست إليه‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ خلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن قتادة عن ابن عباس‏"‏وفي الحديث الصحيح‏: ‏(‏إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وأن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج‏)
وقوله‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالا كثيراً ونساء‏}‏ أي وذرأ منهما‏:‏ أي من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف اصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا اللّه الذي تساءلون به والأرحام‏}‏ أي واتقوا اللّه بطاعتكم إياه، قال مجاهد والحسن‏:‏ ‏{‏الذي تساءلون به‏}‏ أي كما يقال أسألك باللّه وبالرحم، وقال الضحاك‏:‏ واتقوا اللّه الذي تعاقدون وتعاهدون به واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها قاله ابن عباس وعكرمة‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏والأرحام‏}‏ بالخفض عطفاً على الضمير في به أي تساءلون باللّه وبالأرحام كما قال مجاهد وغيره‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان عليكم رقيبا‏}‏ أي هو مراقب لجميع أحوالكم وأعمالكم، كما قال‏:
{‏واللّه على كل شيء شهيد‏}‏؛ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏اعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة، ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم على ضعفائهم، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد اللّه البجلي‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر - وهم مجتابو النِّمار أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر، فقال في خطبته‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ حتى ختم الآية، ثم قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏}‏ ثم حضهم على الصدقة، فقال‏:‏ ‏(‏تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره‏)‏"‏هو جزء من حديث آخرجه مسلم وأصحاب السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة‏"‏وذكر تمام الحديث‏.‏
الآية رقم ‏(‏2 ‏:‏ 4‏)‏
‏{‏ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ‏.‏ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ‏.‏ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ‏}‏
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ قال سفيان الثوري‏:‏ لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدّر لك، وقال سعيد بن جبير‏:‏ لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول‏:‏ لا تبدلوا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا، وقال الضحاك لا تعط زيقاً وتأخذ جيداً، وقال السدي‏:‏ كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول‏:‏ شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ قال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعاً، وقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان حوباً كبيرا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي إثماً عظيماً‏.‏ وفي الحديث المروي في سنن أبو داود‏:
‏(‏اغفر لنا حوبنا وخطايانا‏)‏ وروى ابن مردويه بإسناده عن ابن عباس‏:‏ أن أبا أيوب طلق امرأته، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوبا‏(‏ قال ابن سيرين‏:‏ الحوب الإثم، وعن أنس‏:‏ أن أبا ايوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن طلاق أم أيوب لحوب‏)‏ فأمسكها والمعنى‏:‏ إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى‏}‏ أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها، فإنهن كثير ولم يضيق اللّه عليه، وقال البخاري عن عائشة‏:‏ أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا‏}‏ أحسبه قال‏:‏ كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله، ثم قال البخاري‏:‏ عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول اللّه تعالى ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏}‏ قالت‏:‏ يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقْسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب له من النساء سواهن، قال عروة‏:‏ قالت عائشة‏:‏ وإن الناس استفتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏ قالت عائشة‏:‏ وقول اللّه في الآية الأخرى‏:‏ و‏{‏ترغبون أن تنكحوهن‏}‏ رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال‏.‏
وقوله ‏{‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا، كما قال اللّه تعالى‏:‏
{‏جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع‏}
أي منهم من له جناحان، ومنه من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على اربع فمن هذه الآية كما قال ابن عباس وجمهور العلماء، لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره، قال الشافعي‏:‏ وقد دلت سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المبينة عن اللّه أنه لا يجوز لأحد غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكى عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع، وقال بعضهم‏:‏ بلا حصر وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيح، وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع، ولنذكر الأحاديث في ذلك‏.‏ قال الإمام أحمد عن سالم عن أبيه‏:‏ أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اختر منهن أربعا‏)‏، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال‏:‏ إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تلبث إلا قليلا، وأيم اللّه لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال ‏"‏رواه الترمذي وابن ماجة والدار قطني إلى قوله‏:‏ ‏{‏اختر منهن أربعاً‏}‏ والباقي من رواية أحمد‏}وعن ابن عمر‏:‏ أن ‏"‏غيلان بن سلمة‏"‏كان عنده عشر نسوة، فأسلم وأسلمن معه فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً،
هكذا أخرجه النسائي في سننه‏.‏ فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوّغ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد اسلمن، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن، دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال، فإذا كان هذا في الدوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، واللّه سبحانه أعلم بالصواب‏.‏
‏"‏حديث آخر‏"‏قال الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلي قال‏:‏ أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏اختر أربعا أيتهن شئت وفارق الأخرى‏)‏، فعمدت إلى أقدمهن صحبة، عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها، فهذه كلها شواهد لحديث غيلان كما قاله البيهقي، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ أي إن خفتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أن لا تعولو‏}‏ قال بعضهم‏:‏ ذلك أدنى أن لاتكثر عيالكم قاله زيد بن اسلم والشافعي وهو مأخوذ من قوله تعالى‏:‏{‏وإن خفتم عيلة‏} أي فقرأ{‏فسوف يغنيكم اللّه من فضله إن شاء‏}
وقال الشاعر‏:‏
فما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل‏؟‏
وتقول العرب‏:‏ عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، ولكن في هذا التفسير ههنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراي أيضاً، والصحيح قول الجمهور‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏ أي لا تجوروا يقال‏:‏ عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة‏:‏
بميزان قسط لا يخيس شعيرةً * له شاهد من نفسه غير عائل
عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏لا تجوروا‏)‏،
روي مرفوعاً والصحيح عن عائشة أنه موقوف، وروي عن ابن عباس
وعائشة ومجاهد أنهم قالوا‏:‏ لا تميلوا‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ النحلة‏:‏ المهر عن عائشة نحلة‏:‏ فريضة، وقال ابن زيد‏:‏ النحلة في كلام العرب الواجب، يقول‏:‏ لا تنكحها إلا بشي واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعيد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ومضمون كلامهم أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيباً، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيباً بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالاً طيباً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً‏}‏ وقال هشيم‏:‏ كان الرجل إذا زوج بنته أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه عن ذلك ونزل‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏‏.

قلب الزهـــور 05-05-2014 03:08 AM

الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 6‏)‏
{‏ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ‏.‏ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ‏}‏
ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال، التي جعلها اللّه للناس قياماً، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام‏:‏ فتارة يكون الحجر للصغر، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفَلس وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه، وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏ قال‏:‏ هم بَنُوكَ والنساء، وقال الضحاك‏:‏ هم النساء والصبيان، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هم اليتامى، وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ هم النساء، وقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيّمها‏)
‏"‏أخرجه ابن ابي حاتم ورواه ابن مردويه مطولاً‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا‏}‏ قال ابن عباس لا تعمد إلى مالك وما خوّلك اللّه وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنتك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم‏.‏ وقال ابن جرير عن أبي موسى قال‏:‏ ثلاثة يدعون اللّه فلا يستجيب لهم، رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً، وقد قال اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏وقولوا لهم قولا معروفا‏}‏ يعني في البر والصلة، وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة في الكساوى والأرزاق، بالكلام الطيب وتحسين الأخلاق
وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ أي اختبروهم ‏{‏حتى إذا بلغوا النكاح‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني الحلم، قال الجمهور من العلماء‏:‏ البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد،
وعن علي‏:‏ قال حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏)‏لا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صُمَات يومٍ إلى الليل‏)‏ وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحلم - أي يستكمل خمس عشرة سنة - وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق‏)‏، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحن عن ابن عمر قال‏:‏ عُرِضتُ على النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد وأنا ابن اربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني
، فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث‏:‏ إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، وقال أبو عبيد في الغريب عن عمر‏:‏ أن غلاما ابتهر جارية في شعره، فقال عمر‏:‏ انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد، قال أبو عبيدة‏:‏ ابتهرها أي قذفها، والإبتهار‏:‏ أن يقول فعلت بها وهو كاذب، فإن كان صادقاً فهو الإبتهار قال الكميت في شعره‏:‏
قبيح بمثلي نعت الفتاة * إما ابتهاراً وإما ابتيارا
وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ يعني صلاحا في دينهم وحفظاً لأموالهم كذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة، وهكذا قال الفقهاء‏:‏ إذا بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله انفك الحجر عنه، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا‏}‏ ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية ‏{‏إسرافاً وبداراً‏}‏ أي مبادرة قبل بلوغهم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف‏}‏ عنه ولا يأكل منه شيئاً، وقال الشعبي‏:‏ هو عليه كالميتة والدم، ‏{‏ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏ نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجاً أن يأكل منه‏.‏ عن عائشة قالت‏:‏ أنزلت هذه الآية في والي اليتيم ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏ بقدر قيامه عليه‏.‏ قال الفقهاء‏:‏ له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته، واختلفوا هل يرد إذا أيسر‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما لا، لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل‏.‏
روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إن عندي يتيماً عنده مال وليس لي مال، آكل من ماله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ كل بالمعروف غير مسرف‏)
‏"‏رواه ابن أبي حاتم وأبو داود والنسائي‏"‏‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال‏:‏ إن في حجري أيتاماً، وإن لهم إبلاً ولي إبل، وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل من ألبانها‏؟‏ فقال‏:‏ إن كنت تبغي ضالتها وتهنا جرباها وتلوط حوضها وتسعى عليها فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب ‏"‏أخرجه ابن جرير ورواه مالك في الموطأ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ نعم، لأن مال اليتيم على الحظر، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة، وقد قال ابن أبي الدنيا‏:‏ قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏، قال‏:‏ يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وقال عامر الشعبي‏:‏ لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف‏}‏ يعني من الأولياء ‏{‏ومن كان فقيراً‏}‏ أي منهم ‏{‏فليأكل بالمعروف‏}‏ أي بالتي هي أحسن كما قال في الآية الأخرة‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده‏}‏ أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دفعتم إليهم أموالهم‏}‏ يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ‏{‏فأشهدوا عليهم‏}‏ وهذا أمر من اللّه تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وكفى باللّه حسيباً‏}‏ أي وكفى باللّه حسيباً وشاهداً ورقيباً على الأولياء، في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم لأموالهم، هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة‏؟‏ ولهذا
ثبت في صحيح مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا ابا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي‏:‏ لا تَأَمرنَّ على اثنين، ولا تَلِينَ مال يتيم‏)‏
----------------
لا يُتْم‏:‏ بسكون التاء‏.‏ يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 10‏)
‏{‏ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ‏.‏ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ‏.‏ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ‏.‏ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ‏}‏
قال سعيد بن جبير وقتادة‏:‏ كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئاً فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ الآية‏.‏ أي الجميع فيه سواء في حكم اللّه تعالى، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض اللّه لكل منهم، بما يدلى به إلى الميت من قرابة، أو زوجيه، أو ولاء، فإنه لحمة كلحمة النسب‏.‏ وروى ابن مردويه عن جابر قال‏:‏ ‏{‏أتت أم كحة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء‏.‏ فأنزل اللّه تعالى ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة‏}‏ الآية‏.‏ قيل‏:‏ المراد‏:‏ وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث، ‏{‏واليتامى والمساكين‏}‏ فليرضخ لهم من التركة نصيب، وإن ذلك كان واجباً في ابتداء الإسلام، وقيل‏:‏ يستحب، واختلفوا هل هو منسوخ أم لا‏؟‏ على قولين، فقال البخاري عن ابن عباس‏:‏ هي محكمة وليست بمنسوخة، وقال عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى‏}‏ نسختها الآية التي بعدها{‏يوصيكم اللّه في أولادكم‏}وروى العوفي عن ابن عباس‏:‏ كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل اللّه بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سمَّى المتوفى، وقال ابن أبي حاتم عن عطاء عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين‏}‏ نسختها آية الميراث، فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر‏.‏ وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم، والمعنى‏:‏ أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه، وإذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا شيء يُعطَونه، فأمر اللّه تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم وصدقة عليهم، وإحساناً إليهم وجبراً لكسرهم، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر به عن أصحاب الجنة‏:‏ ‏{‏إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين‏}‏ أي بليل، وقال‏:‏ ‏{‏فانطلقوا وهم يتخافتون* أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين‏}‏ ف ‏{‏دمر اللّه عليهم وللكافرين أمثالها‏}
‏ فمن جحد حق اللّه عليه عاقبه في أعز ما يملكه‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليخش الذي لو تركوا من خلفهم‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر اللّه تعالى الذي يسمعه أن يتقي اللّه ويوفقه ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يجب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة؛ وهكذا قال مجاهد وغير واحد،
وثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده، قال‏:‏ يا رسول اللّه إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي، قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فالشطر‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فالثلث قال‏:‏ ‏(‏الثلث، والثلث كثير‏)‏ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس‏)‏ وفي الصحيح
عن ابن عباس قال‏:‏ لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الثلث، والثلث كثير‏)‏
قال الفقهاء‏:‏ إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث؛ وقيل‏:‏ المراد بالآية فليتقوا اللّه في مباشرة أموال اليتامى ‏{‏ولا يأكلوها إسرافاً وبداراً‏}‏ حكاه ابن جرير عن ابن عباس، وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً، أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم، ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلماً فإنما يأكل في بطنه ناراً ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً‏}‏ أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة - وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اجتنبوا السبع الموبقات‏:‏ قيل يا رسول اللّه وما هن‏؟‏ قال‏:‏ الشرك باللّه، والسحر؛ وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق؛ وأكل الربا، وأكل مال اليتيم؛ والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‏)وقال السدي‏:‏ يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم، وقال ابن مردويه عن أبي برزة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً‏)‏ قيل يا رسول اللّه من هم‏؟‏ قال‏:‏ ألم أن اللّه قال‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً‏}‏ الآية‏.‏ وعن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أُحَرِّج مال الضعيفين‏:‏ المرأة، واليتيم‏)‏"‏رواه ابن مردويه من حديث أبي هريرة‏"‏أي أوصيكم باجتناب مالهما

قلب الزهـــور 05-05-2014 03:27 AM

الآية رقم ‏(‏11‏)‏
‏{‏ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ‏}‏
هذه الآية الكريمة والتي بعدها، والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك، ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتب الأحكام واللّه المستعان‏.‏
وقد ورد
الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك؛ روى أبو داود وابن ماجة عن عبد اللّه بن عمروا مرفوعاً‏:‏ ‏(‏العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل‏:‏ آية محكمة، أو سنّة قائمة، أو فريضة عادلة‏)‏، وعن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي‏)‏ ‏"‏رواه ابن ماجة وفي إسناده ضعيف‏"‏قال ابن عيينة‏:‏ إنما سمي الفرائض نصف العلم لأنه يبتلى به الناس كلهم، وقال البخاري عند تفسيره هذه الآية‏:‏ عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ عادني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى اللّه عليه وسلم لا أعقل شيئاً، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت‏:‏ ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول اللّه فنزلت‏:‏ ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث جابر‏}‏

حديث آخرعن جابر قال‏:‏ جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أُحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال‏:‏ ‏(‏يقضي اللّه في ذلك‏)‏ فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عمهما فقال‏:‏ ‏(‏أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة‏"‏
فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ أي يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكر دون الإناث، فأمر اللّه تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة، ومعاناة التجارة والتكسب، تحمل المشاق فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه ما تأخذه الأنثى، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم‏.‏ وقال البخاري عن ابن عباس‏:‏ كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين؛ فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن الربع، وللزوج الشطر والربع‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ لما نزلت الفرائض التي فرض اللّه فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا‏:‏ تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى الإبنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم؛ ولا يحوز الغنيمة؛ اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينساه؛ أو نقول له فيغير‏!‏ فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها؛ وليست تركب الفرس؛ ولا تقاتل القوم، ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً؛ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية؛ لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم؛ ويعطونه الأكبر فالأكبر، فنزلت الآية‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك‏}‏ قال بعض الناس‏:‏ قوله ‏(‏فوق‏)‏ زائدة، وتقديره فإن كن نساء اثنتين كما في قوله‏:‏ ‏{‏فاضربوا فوق الأعناق‏}‏ وهذا غير مسلَّم لا هنا ولا هناك، فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه‏.‏ وهذا ممتنع، ثم قوله‏:‏ ‏{‏فلهن ثلثا ما ترك‏}‏ لو كان المراد ما قالوه لقال فلهما ثلثا ما ترك‏:‏ وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين‏.‏ وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بالطريق الأولى، وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين فدل الكتاب والسنة على ذلك، وأيضاً فإنه قال‏:‏ ‏{‏وإن كانت واحدة فلها النصف‏}‏، فلو كانت للبنتين النصف لنص عليه ايضاً لما حكم به للواحدة على انفرادها؛ دل على أن البنتين في حكم الثلاث واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأبويه لكل واحد منهما السدس‏}‏ إلى آخره، الأبوان لهما في الإرث أحوال‏:‏ أحدهاأن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة، فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس؛ وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب الحال الثاني‏:‏ أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم الثلث والحالة هذه أخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض؛ فيكون قد أخذ ضعفي ما حصل للأم وهو الثلثان، فلو كان معهما زوج أو زوجة ويأخذ الزوج النصف والزوجة الربع‏.‏ ثم اختلف العلماء‏:‏ ماذا تأخذ الأم بعد ذلك، على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين؛ لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما، وقد جعل اللّه لها نصف ما جعل للأب، فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب الباقي ثلثيه؛ هذا قول عمر وعثمان؛ وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء والثاني‏:‏ أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث‏}‏، فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا؛ وهو قول ابن عباس، وهو ضعيف‏.‏
والقول الثالث‏:‏ أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجةخاصة، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب، وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة‏:‏ للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان‏.‏ ويحكى هذا عن ابن سيرين، وهو مركب من القولين الأولين، وهو ضعيف أيضاً، والصحيح الأول واللّه أعلم والحال الثالث من أحوال الأبوين وهو اجتماعهما مع الأخوة، سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وراث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الأخوة عند الجمهور‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة فلأمه السدس‏}‏ أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخر الواحد عن الثلث ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقتهم عليه دون أمهم، وهذا كلام حسن‏.‏
وقوله ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏}‏ أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة،
وروى أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ إنكم تقرأون ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏}‏ وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الاعيان‏:‏ الإخوة من الأب والأم و العلات‏:‏ الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏آياؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ أي إنما فرضنا للآباء والأبناء، وساوينا بين الكل في أصل الميراث، على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه ما لا يأتيه من أبنه، وقد يكون بالعكس، ولذا قال‏:‏ ‏{‏آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ أي أن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من الآخر، فلهذا فرضنا لهذا وهذا، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث، واللّه أعلم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏فريضة من اللّه‏}‏ أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من اللّه حكم به وقضاه، واللّه عليم حكيم، والحكيم‏:‏ الذي يضع الأشياء في محالها ويعطي كلاً ما يستحقه بحسبه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان عليماً حكيماً‏}‏‏.‏
الآية رقم ‏(‏12‏)‏
{‏ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن عن غير ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد الوصية أو الدين، وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولهن الربع مما تركتم‏}‏ إلى آخره، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الإثنتان، والثلاث والأربع يشتركن فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من بعد وصية‏}‏ الخ‏.‏ الكلام عليه كما تقدم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان رجل يوث كلالة‏}‏ الكلالة‏:‏ مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن الكلالة فقال‏:‏ أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن اللّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه‏:‏ الكلالة من لا ولد له ولا والد‏.‏ فلما ولي عمر قال‏:‏ إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه، كذا رواه ابن جرير وغيره، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف وقد حكى الإجماع عليه غير واحد‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله أخ أو أخت‏}‏ أي من أم كما هو في قراءة سعد بن أبي وقاص وكذا فسرها أبو بكر الصديق‏:‏ ‏{‏فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث‏}‏ وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه‏:‏ أحدهاأنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم، والثاني أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء، والثالث لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن، الرابع أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم، قضى عمر أن ميراث الأخوة من الأم بينهم للذكر مثل حظ الأنثى، قال الزهري‏:‏ ولا أرى عمر قضى بذلك حتىعلم ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذه الآية هي التي قال اللّه تعالى فيها‏:‏ ‏{‏فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث‏}‏‏.‏
و
اختلف العلماء في المسألة المشتركة وفي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين، فعلى قول الجمهور للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولولد الأم الثلث ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو أخوة الأم، وقد وقعت هذه المسألة في زمان أمير المؤمنين عمر فأعطى الزوج النصف والأم السدس، وجعل الثلث لأولاد الأم فقال له أولاد الأبوين‏:‏ يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة‏؟‏ فشرّك بينهم وهو مذهب مالك والشافعي‏.‏ وكان علي بن أبي طالب لا يشرّك بينهم، بل يجعل الثلث لأولاد الأم، ولا شي لأولاد الأبوين، والحالة هذه لأنهم عصبة، وقال وكيع بن الجراح‏:‏ لم يُخْتلف عنه في ذلك، وهذا قول أبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري وهو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه اللّه في كتاب الإيجاز‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار‏}‏ أي لتكن وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف، بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه، أو يزيده على ما فرض اللّه له من الفريضة، فمن سعى في ذلك كان كمن ضاد اللّه في حكمه وشرعه، ولهذا قال ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الإضرار في الوصية من الكبائر‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏"‏ورواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً، قال‏:‏ والصحيح الموقوف، ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث هل هو صحيح أم لا‏؟‏ على قولين أحدهما‏:‏ لا يصح لأنه مظنة التهمة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة والقول القديم للشافعي رحمهم اللّه، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار، وهو مذهب طاوس وعطاء وهو اختيار البخاري في صحيحه، واحتج بأن رافع بن خديج أوصى أن لا تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها قال‏:‏ وقال بعض الناس‏:‏ لا يجوز إقراره لسوء الظن بالورثة، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث‏)‏، وقال اللّه تعالى‏:‏{‏إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}فلم يخص وارثاً ولا غيره، انتهى ما ذكره، فمتى كان الإقرار صحيحاً مطابقاً لما في نفس الأمر، جرى فيه هذا الخلاف، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏غير مضار وصية من اللّه، واللّه عليم حليم‏}‏‏.‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 03:36 AM

الآية رقم ‏(‏13 ‏:‏ 14‏)‏
{‏ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ‏.‏ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ‏}‏
أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها اللّه للورثة، بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود اللّه فلا تعتدوها ولا تجاوزوها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ومن يطع اللّه ورسوله‏}‏ أي فيها فلم يزد بعض الورثة، ولم ينقص بعضهم بحيلة ووسيلة بل تركهم على حكم اللّه وفريضته وقسمته‏:‏ ‏{‏يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم‏.‏ ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين‏}‏ أي لكونه غيَّر ما حكم اللّه به، وضاد اللّه في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم اللّه وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم‏. عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة‏)‏، قال، ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏تلك حدود اللّه - إلى قوله - عذاب مهين‏}‏ وقال أبو داود في باب الإضرار في الوصية عن شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعم أو المرأة بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار‏)‏ وقال‏:‏ قرأ عليَّ أبو هريرة من ههنا‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار - حتى بلغ - ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏
الآية رقم ‏(‏15 ‏:‏ 16‏)‏
‏{‏ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ‏.‏ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ‏}‏
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة، حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واللاتي يأتين الفاحشة‏}‏ يعني الزنا ‏{‏من نسائكم فاستشهدوا علين أربعة منكم؛ فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلا‏}‏ فالسبيل الذي جعله اللّه هو الناسخ لذلك، قال ابن عباس رضي اللّه عنه‏:‏ كان الحكم كذلك حتى أنزل اللّه سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم؛ وهو أمر متفق عليه، وروى مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏‏(‏ خذوا عني خذوا عني؛ قد جعل اللّه لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام؛ والثب بالثيب جلد مائة والرجم‏)‏ وقد روى الإمام أحمد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خذوا عني خذوا عني؛ قد جعل اللّه لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة؛ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم‏)‏
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد، قالوا‏:‏ لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية واليهوديين، ولم يجلدهم قبل ذلك فدل على أن الجلد ليس بحتم، بل هو منسوخ على قولهم، واللّه أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللذان يأتيانها منكم فأذوهما‏}‏ أي واللّان يفعلان الفاحشة فآذوهما، قال ابن عباس‏:‏ أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال، وكان الحكم كذلك حتى نسخة اللّه بالجلد أو الرجم، وقال مجاهد‏:‏ نزلت في الرجلين إذا فعلا اللواط وقد
روى أهل السنن عن ابن عباس مرفوعاً قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من رأيتموه يعمل علم قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏ وقوله ‏{‏فإن تابا وأصلحا‏}‏ أي أقلعا نزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت‏:‏ ‏{‏فأعرضوا عنهما‏}‏ أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان تواباً رحيما‏}‏ وقد ثبت في الصحيحين ‏(‏إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها‏)
أي لا يعريرها بما صنعت بعد الحد الذي هو كفارة لما صنعت‏.‏
الآية رقم ‏(‏17 ‏:‏ 18‏)‏
‏{‏ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ‏.‏ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ‏}

ومعناه‏:‏ إنما يقبل اللّه التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب قبل الغرغرة، قال مجاهد‏:‏ كل من عصى اللّه خطأ أو عمداً فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب، وقال قتادة، كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقولون‏:‏ كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثم يتوبون من قريب‏}‏ قال‏:‏ ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك اموت‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ما كان دون الموت فهو قريب، وقال قتادة والسدي‏:‏ ما دام في صحته، وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏ثم يتوبون من قريب‏}‏، ما لم يغرغر، ذكر الأحاديث في ذلك‏:‏ قال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏ثم يتوبون من قريب‏}‏، ما لم يغرغر، ذكر الأحاديث في ذلك قال الإمام أحمد
عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‏)‏
حديث آخر‏:‏ قال ابن مردويه عن عبد اللّه بن عمر، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل اللّه منه أدنى من ذلك؛ وقبل موته بيوم وساعة يعلم اللّه منه التوبة والأخلاص إليه إلا قبل منه‏)

وحديث آخر‏:‏ قال أبو داود الطيالسي عن عبد اللّه بن عمر، يقول‏:‏ إن تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه، ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه، فقلت له‏:‏ إنما قال اللّه ‏:‏ ‏{‏إنما التوبة على اللهّ للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب‏}‏ فقال إنما أحدثك ما سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
حديث آخر‏:‏ قال أبو بكر بن مردويه‏:‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن اللّه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر‏)‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 03:54 AM

http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏19 ‏:‏ 22‏)
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ‏.‏ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ‏.‏ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ‏.‏ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ‏}‏
روى البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً‏}‏ قال‏:‏ كانوا إذا ات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً‏}‏ هكذا ذكره البخاري وأبو داود والنسائي وروي عن ابن عباس‏:‏ كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها، فنزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً‏}‏ وقال زيد بن أسلم في الآية‏:‏ كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وكان يعضلها حتى يرثها، أو يزوجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها فنهى اللّه المؤمنين عن ذلك‏.‏ وقال أبو بكر بن مردويه عن محمد ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال‏:‏ لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته وكان لهم ذلك في الجاهلية فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏لا يحل لكم أن رثوا النساء كرهاً‏}‏ وقال ابن جريرج‏:‏ نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس توفي عنها أبو قيس بن الأسلت فجنح عليها ابنه فجاءت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت يا رسول اللّه‏:‏ لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وكل ما كان فيه نوع من ذلك واللّه أعلم‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن‏}‏ أي لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك، أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضرار، وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تعضلوهن‏}‏، يقول‏:‏ ولا تقهروهن ‏{‏لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن‏}‏ يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به، وكذا قال الضحاك وقتادة وغير واحد‏.‏ واختاره ابن جرير، وقال ابن المبارك عن ابن السلاماني قال‏:‏ نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً‏}‏ في الجاهلية، ‏{‏ولا تعضلوهن‏}‏ في الإسلام، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ قال ابن مسعود، وابن عباس‏:‏ يعني بذلك الزنا، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها، وتضاجرها حتى تتركه لك وتخالعها كما قال تعالى‏:
‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافاً أن لا يقيما حدود اللّه‏}
الآية، وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك‏:‏ الفاحشة المبينة النشوز والعصيان، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان، والنشوز وبذاء اللسان، وغير ذلك، يعني أن كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها، وهذا جيد واللّه أعلم‏.‏
وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام‏:‏ وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ كان العضل في قريش بمكة‏:‏ ينكح الرجل المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا جاء الخاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلاعضلها، قال فهذا قوله‏:‏ ‏{‏ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن‏}‏ الآية‏.‏ وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آيتمون‏}‏ هو كالعضل في سورة البقرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعاشروهن بالمعروف‏}‏ أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله،
كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏
‏(‏خيركم خيركم لأهله؛وأنا خيركم لأهلي‏)‏وكان من أخلاقه صلى اللّه عليه وسلم أن جميل العشرة، دائم البشر؛ يداعب أهله؛ ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها يتودد إليها بذلك، قالت‏:‏ سابقني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقين، فقال‏:‏ ‏(‏هذه بتلك ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزر، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى اللّه عليه وسلم، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة‏}
وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام، وللّه الحمد‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللّه فيه خيراً كثيراً‏}‏، أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهة، فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عباس‏:‏ هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً، ويكون في ذلك الولد خير كثير، وفي الحديث الصحيح‏:
‏ ‏(‏لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏ أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال، وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب يقول‏:‏ ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند اللّه كان أولاكم بها النبي صلى اللّه عليه وسلم، ما أصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية‏.‏
طريق أخرى عن عمر‏:‏ قال الحافظ أبو يعلى
عن الشعبي عن مسروق قال‏:‏ ركب عمر بن الخطاب منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال‏:‏ أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء‏!‏‏!‏ وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم، فما دون ذلك‏.‏ ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللّه أو كرامة لم تسبقوهم إليها‏.‏ فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم‏.‏ قال‏:‏ ثم نزل‏.‏ فاعترضته امرأة من قريش فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين نهيت الناس عن يزيدوا في مهر النساء على اربعمائة درهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقالت أما سمعت ما أنزل اللّه في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ وأي ذلك‏؟‏ فقالت‏:‏ أما سمعت اللّه يقول‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهن قنطاراً‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر‏.‏ ثم رجع فركب المنبر فقال‏:‏ أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب‏
.‏ قال أبو يعلى‏:‏ وظنه قال‏:‏ فمن طابت نفسه فليفعل‏.‏ إسناده جيد قوي‏.‏ وفي
رواية‏:‏ امرأة أصابت ورجل أخطا، ولهذا قال منكراً‏:‏ ‏{‏وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض‏}‏ أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد افضيت إليها وافضت إليك قال ابن عباس‏:‏ يعني بذلك الجماع‏.‏ وقد
ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما‏:‏ ‏(‏اللّه يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب‏)‏ قالها ثلاثاً فقال الرجل‏:‏ يا رسول اللّه مالي - يعني ما أصدقها - قال‏:‏ ‏(‏لا مال لك، إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً‏}‏ المراد بذلك العقد، وقال سفيان الثوري في قوله‏:‏ ‏{‏وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً‏}‏ قال‏:‏ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال الربيع بن أنس في الآية‏:‏ هو قوله‏:‏(‏أخذتموهن بأمانة اللّه، وأستحللتم فروجهن بكلمة اللّه‏)
، وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع‏:‏ أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال فيها‏:‏ ‏(‏واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء‏}‏ الآية، يحرم اللّه تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم، وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده، حتى إنها لتحرم على الإبن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه‏.‏ قال ابن أبي حاتم عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال‏:‏ لما توفي أبو قيس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأته فقالت‏:‏ إنما أعدُّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت‏:‏ إن أبا قيس توفي فقال‏:‏ ‏(‏خيراً‏)‏، ثم قالت‏:‏ إن ابنه قيساً خطبني وهو من صالحي قومه، وإنما كنت أعدُّه ولداً فما ترى‏؟‏ فقال لها‏:‏ ‏(‏ارجعي إلى بيتك‏)‏ قال فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء‏}‏ الآية‏.‏ وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولاً به في الجاهلية، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إلا ما قد سلف‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف‏}‏ قال‏:‏ وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة، تزوج بامرأة أبيه فأولدها ابنه النضر بن كنانة، قال‏:‏ وقد قال صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏ ولدت من نكاح لا من سفاح‏)قال‏:‏ فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك، فأراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً؛ وعن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم اللّه إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء‏}‏، ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏، وهكذا قال عطاء وقتادة، ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر واللّه أعلم، وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة، مبشع غاية التشبع، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً‏}‏
فزاد ههنا‏:‏ ‏{‏ومقتاً‏}‏ أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الأبن اباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو كالأب، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات اللّه وسلامه عليه‏.‏
وقال عطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومقتاً‏}‏ أي يمقت اللّه عليه، ‏{‏وساء سبيلاً‏}‏ أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن
عن البراء بن عازب عن خاله أبي بردة‏:‏ أنه بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله، وقال الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال‏:‏ مر بي عمي الحارث بن عميرومعه لواء قد عقده له النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت له‏:‏ أي عم أين بعثك النبي‏؟‏ قال‏:‏ بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 04:12 AM

الآية رقم ‏(‏23 ‏:‏ 24‏)‏
‏{‏ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ‏}‏
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر، كما قال ابن عباس‏:‏ حرمت عليكم سبعُ نسباً وسبع صهراً، وقرأ‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم‏}‏ الآية‏.‏ وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه، بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبناتكم‏}‏ فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتاً شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة‏}‏ أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة‏) وفي لفظ لمسلم‏:‏ (‏يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب‏)ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية، وهذا قول مالك، ويروى عن ابن عمر، وقال آخرون‏:‏ لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تحرم المصة ولا المصتان‏)‏، وفي لفظ آخر‏:‏ (‏لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان‏)‏ وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون‏:‏ لا يحرم أقل من خمس رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان فيما أنزل من القرآن ‏(‏عشر رضعات معلومات يحرمن‏)‏ ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات، ولهذا قال الشافعي وأصحابه، ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور، وقد قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله‏:‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لم أراد أن يتم الرضاعة‏}‏‏
.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم‏}‏ أما أمُّ المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على بنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها، وأما الربيبةوهي بنت المرأة فلا تحرم حتى يدخل بأمها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز أن يتزوج بنتها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ، فإن لم تكونوا دخلتم بهنَّ فلا جناح عليكم‏}‏ في تزويجهن، فهذا خاص بالربائب وحدهن، وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب فقال‏:‏ لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها لقوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم‏}‏ وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد، قال ابن أبي حاتم‏:‏ عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يقول‏:‏ إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل لها أمها، وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً، وللّه الحمد والمنة‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم‏}‏ فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا‏:‏ وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله تعالى‏:‏
‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصنا‏}‏ وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت‏:‏ يا رسول اللّه انكح أختي بنت أبي سفيان، وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان قال‏:‏ ‏(‏أو تحبين ذلك‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم لست بك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، قال‏:‏ ‏(‏فإن ذلك لا يحل لي‏)‏ قالت‏:‏ فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال‏:‏ ‏(‏بنت أم سلمة‏)‏ قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ ‏(‏إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن‏)‏وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏إن لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي‏)
فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف، وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم وهو قول غريب جداً، وإلى هذا ذهب داود الظاهري وأصحابه، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الّه فاستشكله وتوقف في ذلك واللّه أعلم؛ وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس‏:‏ أن عمر ابن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى فقال عمر‏:‏ ما أحب أن أجيزهما جميعاً‏:‏ يريد أن أطأهما جميعاً بملك يميني، وعن طارق بن عبد الرحمن بن قيس قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ أيقع الرجل على المرأة وابنتها مملوكين له‏؟‏ فقال آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله، وقال الشيخ ابن عبد البر رحمه اللّه‏:‏ لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين لأن اللّه حرم ذلك في النكاح، قال‏:‏ ‏{‏وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم‏}‏، وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم، وروى هشام عن قتادة‏:‏ بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح إن كانت أسفل ببطون كثيرة، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي دخلتم بهن‏}‏ أي نكحتموهن قاله ابن عباس وغير واحد، وقال ابن جرير‏:‏ وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم‏}‏ أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية‏.‏ قال ابن جريرج‏:‏ سألت عطاء عن قوله‏:‏ ‏{‏وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم‏}‏ قال‏:‏ كنا نحدّث - واللّه أعلم - أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم‏}‏ ونزلت‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏، ونزلت‏:‏ ‏
{‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم‏}
‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف‏}‏ الآية، أي وحرم عليكم الجمع بن الأختين معاً في التزويج وكذا في ملك اليمين، إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه، فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى مما سلف، كما قال‏:‏ ‏{‏ولا يذوقون فيه الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً، وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً، على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان خير فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة،
قال الإمام أحمد‏:‏ عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال‏:‏ أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى اللّه عليه وسلم أن أطلق إحداهما، وفي لفظ للترمذي‏:‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اختر أيتهما شئت‏)‏ ‏"أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏"‏وعن أبي خراش الرعيني قال‏:‏ قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية فقال‏:‏ ‏(‏إذا رجعت فطلق إحداهما‏)‏
وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضاً لعموم الآية، وروي ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين فكرهه، فقال له - يعني السائل - يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏، فقال له ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه‏:‏ وبعيرك مما ملكت يمينك، وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك، وقال الإمام مالك‏:‏ سأل رجل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين هل يجع بينهما‏؟‏ فقال عثمان‏:‏ أحلتهما آية وحرمتهما آية، وما كنت لأمنع ذلك، فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فساله عن ذلك، فقال‏:‏ لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالا، وقال مالك قال ابن شهاب‏:‏ أراه علي بن أبي طالب‏.‏
وعن إياس بن عامر قال‏:‏ سألت علي بن أبي طالب فقلت‏:‏ إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولاداً ثم رغبت في الأخرى فما أصنع‏؟‏ فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى، قلت‏:‏ فإن ناساً يقولون بل تزوّجُها ثم تطأ الأخرى، فقال علي‏:‏ أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك‏؟‏ لأن تعتقها أسلم لك، ثم أخذ علي بيدي فقال لي‏:‏ إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب اللّه عزّ وجل من الحرائر إلا العدد أو قال إلا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب ‏"‏رواه ابن عبد البر في الاستذكار‏"‏ثم قال أبو عمر‏:‏ هذا الحديث لو رحل رجل ولم يصب من أقصى المغرب والمشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته‏.‏ وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال‏:‏ يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح، وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم‏}‏ إلى آخر الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، وكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين، وأمهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات ‏{‏إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الآية نزلت في ذلك، وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ أصبنا سبياً من سبي أوطاس، ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ فاستحللنا فروجهن‏.‏
وفي رواية مسلم أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصابوا سبياً يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال‏:‏ فنزلت هذه الآية في ذلك‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}
وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها أخذاً بعموم هذه الآية، وقال ابن جرير‏:‏ كان عبد اللّه يقول‏:‏ بيعها طلاقها ويتلو هذه الآية‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ وعن ابن مسعود قال‏:‏ إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها وعن ابن المسيب قوله‏:‏ ‏{‏المحصنات من النساء‏}‏، قال‏:‏ هذه ذوات الأزواج حرم اللّه نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها‏.‏
فهذا قول هؤلاء من السلف وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثا، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها، لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيّرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط واللّه أعلم، وقد قيل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء‏}‏ يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو اربعاً، حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما، وقال عمر وعبيدة‏:‏ ‏{‏والمحصنات من النساء‏}‏ ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب اللّه عليكم‏}‏ أي هذا التحريم كتاب كتبه اللّه عليكم، يعني الأربع فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه‏.‏ وقال عطاء والسدي في قوله‏:‏ ‏{‏كتاب اللّه عليكم‏}‏ يعني الأربع، وقال إبراهيم‏:‏ ‏{‏كتاب اللّه عليكم‏}‏ يعني ما حرم عليكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏ أي ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال، قاله عطاء وغيره، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏‏:‏ يعني ما ملكت أيمانكم، وهذه الآية التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال‏:‏ أحلتهما آية وحرمتهما آية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تبتغوا بأمواركم محصنين غير مسافحين‏}‏ أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى اربع، أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي، ولهذا قال‏:‏ ‏
{‏محصنين غير مسافحين‏}‏‏.‏
تابع 23
‏{‏ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهم فريضة‏}‏ أي كما تستمعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض‏}‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً‏}‏ وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك، وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح، ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ مرتين‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنما أبيح مرة ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك، وقد قيل بإباحتها لضرورة وهي رواية عن الإمام أحمد، وقال مجاهد‏:‏ نزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال‏:‏ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام، وفي صحيح مسلم
عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن اللّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً‏)
‏، وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة‏}‏ أي إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك، وقال ابن جرير‏:‏ إن رجالاً كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة فقال‏:‏ ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ولا جناج عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة‏}‏ والتراضي أن يوفيها صداقها، ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان عليما حكيما‏}‏ مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه
المحرمات‏.

قلب الزهـــور 05-05-2014 04:30 AM

الآية رقم ‏(‏25‏)‏
‏{‏ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يجد منكم طولاً‏}‏ أي سعة وقدرة ‏{‏أن ينكح المحصنات المؤمنات‏}‏ أي الحرائر العفائف المؤمنات، ‏{‏فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات‏}‏ أي فتزوجوا من الإمام المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏من فتياتكم المؤمنات‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فلينكح من إماء المؤمنين، ثم اعترض بقوله‏:‏ ‏{‏والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض‏}‏ أي هو العالم بحقائق الامور وسرائرها، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور، ثم قال‏:‏ ‏{‏فانكحوهن بإذن أهلهن‏}‏ فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر‏)‏ أي زان، فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها لما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏لا تزوج المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوهن أجورهن بالمعروف‏}‏ أي وادفعوا مهورهن بالمعروف، أي عن طيب نفس منكم، ولا تبخسوا منه شيئاً استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏محصنات‏}‏ أي عفائف عن الزنا لا يتعاطينه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏غير مسافحات‏}‏ وهن الزواني اللاتي لا يمعنعن من أرادهن بالفاحشة، وقوله تعالى ‏{‏ولا متخذات أخدان‏}‏ قال ابن عباس المسافحات هن الزواني المعلنات يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدا أرادهن بالفاحشة ومتخذات أخدان يعني أخلاء، وقال الحسن البصري‏:‏ يعني الصديق، وقال الضحاك‏:‏ ذات الخليل الواحد المقرة به، نهى اللّه عن ذلك يعني تزويجها ما دامت كذلك‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أحصن فإن أتين فاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏ اختلف القراء في ‏{‏أُحْصِنَّ‏}‏ فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد مبني لما لم يسم فاعله، وقرىء بفتح الهمزة والصاد فعل لازم، ثم قيل‏:‏ معنى القراءتين واحد، واختلفوا فيه على قولين‏:‏
أحدها أن المراد بالإحصان ههنا الإسلام روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وقيل‏:‏ المراد به ههنا التزويج وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وغيرهم، وقد روي عن مجاهد أنه قال‏:‏ إحصان الاّمَة أن ينكحها الحر، وإحصان العبد أن ينكح الحرة، وكذا روي عن ابن عباس رواهما ابن جرير في تفسيره، وقيل‏:‏ معنى القراءتين متباين، فمن قرأ ‏{‏أحصنَّ‏}‏ بضم الهمزة فمراده التزيج، ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام، اختاره أبو جعفر بن جرير في تفسيره وقرره ونصره؛ والأظهر واللّه أعلم‏:‏ أن المراد بالإحصان ههنا التزويج، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه‏:‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات‏}‏، والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فإذا أحصن‏}‏ أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره‏.‏ وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور، وذلك أنهم يقولون‏:‏ إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكراً، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد غير المحصنة من الإماء، وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا‏:‏ المنطوق مقدم على المفهوم، وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء فقدمناها على مفهوم الآية، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحة
عن علي رضي اللّه عنه أنه خطب فقال‏:‏ يا أيها الناس أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن، فإن أمةً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أحسنت اتركها حتى تتماثل‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين‏)
وعن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر‏)‏
الجواب الثاني ‏:‏ جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، وإنما تضرب تأديباً وهو المحكي عن ابن عباس رضي اللّه عنه، وإليه ذهب طاووس وسعيد بن جبير وغيرهما‏.‏ وعمدتهم مفهوم الآية، وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم عندهم وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن زنت فحدُّوها، ثم إن زنت فاجلدوها‏.‏ ثم بيعوها ولو بضفير‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وعن مسلم قال ابن شهاب‏:‏ الضفير‏:‏ الحبل‏(‏، قالوا‏:‏ فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك واللّه أعلم‏.‏ قال أبو عبد اللّه الشافعي رحمه الله‏:‏ ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، والألف واللام في المحصنات للعهد، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية‏:‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات‏}‏ والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض للتزويج بحرة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نصف ما على المحصنات من العذاب‏}
يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم، واللّه أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لمن خشي العنت منكم‏}‏ أي إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا، وشق عليه الصبر عن الجماع، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة، وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا فهو خير له، لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها، إلا أن يكون الزوج غريباً فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأن تصبروا خير لكم واللّه غفور رحيم‏}‏ ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز العلماء نكاح الإماء على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر، من خوف العنت، لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن، وخالف الجمهور أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين فقالوا‏:‏ متى لم يكن الرجل مزوجاً بحرة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضاً، سواء كان واجداً لطول حرة أم لا، وسواء خاف العنت أم لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ أي العفائف وهو يعم الحرائر والإماء، وهذه الآية عامة وهذه أيضاً ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور، واللّه أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏26 ‏:‏ 28‏)‏
‏{‏ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ‏.‏ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ‏.‏ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ‏}‏
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها، ‏{‏ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏ يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها، ‏{‏ويتوب عليكم‏}‏ أي من الإثم والمحارم، ‏{‏واللّه عليم حكيم‏}‏ أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله، ‏{‏ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيماً‏}‏ أي يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق إلى الباطل ميلاً عظيما‏.‏ ‏{‏يريد اللّه أن يخفف عنكم أي في شرائعه وأوامره ونواهي وما يقدره لكم، ولهذا أباح الإماء بشروط كما قال مجاهد وغيره، ‏{‏وخلق الإنسان ضعيفاً‏}‏ فناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته‏.‏ وقال‏:‏ طاووس‏:‏ ‏{‏وخلق الإنسان ضعيفاً‏}‏ أي في أمر النساء، وقال وكيع‏:‏ يذهب عقله عندهن، وقال موسى عليه السلام لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ليلة الإسراء‏.‏ ماذا فرض عليكم‏؟‏ فقال‏:‏ أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة، فقال له‏:‏ ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا، وإن أمتك أضعف أسماعاً وأبصاراً وقلوباً؛ فرجع فوضع عشراً، ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمساً‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 04:42 AM

الآية رقم ‏(‏29 ‏:‏ 31‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ‏.‏ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ‏.‏ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ‏}‏
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل، أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في قلب الحكم الشرعي مما يعلم اللّه أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا، حتى قال ابن جرير، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول‏:‏ إن رضيته أخذته وإلا رددت معه درهماً، قال‏:‏ هو الذي قال اللّه عزّ وجلَّ فيه‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ وعن علقمة بن عبد اللّه في الآية قال‏:‏ إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقال ابن عباس‏:‏ لما أنزل الله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ قال المسلمون‏:‏ إن اللّه قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل أموالنا، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكيف للناس‏؟‏‏!‏ فأنزل اللّه بعد ذلك‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏ الآية‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏ الاستثناء منقطع كأنه يقول‏:‏ لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها، وتسببوا بها في تحصيل الأموال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏، ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول لأنه يدل على التراضي نصاً بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا، وخالف الجمهور في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً، فصححوا بيع المعاطاة مطلقاً، ومنهم من قال‏:‏ يصح في المحقرات وفيما يعده الناس بيعاً، وهو احتياط نظر من محققي المذهب واللّه أعلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ {‏إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏}‏ بيعاً أو عطاء يعطيه أحد أحداً،
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏البيع عن تراض، والخيار بعد الصفقة، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلماً‏) ‏"‏أخرجه ابن جرير وهو حديث مرسل هذا حديث مرسل، ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا‏)‏،وفي لفظ البخاري‏:‏ ‏(‏إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا‏)
‏، وذهب إلى القول يمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف، ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة ايام، بحسب ما يتبين فيه حال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها كما هو المشهور عن مالك رحمه اللّه، وصححوا بيع المعاطاة مطلقاً وهو قول في مذهب الشافعي، ومنهم من قال‏:‏ يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعاً، وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ أي بارتكاب محارم اللّه وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل ‏{‏إن اللّه كان بكم رحيما‏}‏ أي فيما أمركم به ونهاكم عنه‏.‏
عن عمروا بن العاص رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم عام ذات السلاسل قال‏:‏ احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال‏:‏ فلما قدمنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال‏:‏ ‏(‏يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ قلت يا رسول اللّه إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فذكرت قول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً‏}‏ فتيممت ثم صليت، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يقل شيئاً ‏"‏رواه أحمد وأبو داود‏"‏وأورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها ابداً‏)‏، وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة‏)‏ وفي الصحيحين ايضاً عن جندب بن عبد الله البجلي قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكيناً نحر بها يده فما رقأ الدم حتى مات، قال اللّه عزَّ وجلّ‏:‏ عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة‏(ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً‏}‏ أي ومن يتعاطى ما نهاه اللّه عنه معتدياً فيه، ظالماً في تعاطيه، أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه ‏{‏فسوف نصليه ناراً‏}‏ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تجتنبوا كبارئر ما تهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ الآية‏.‏ أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها، كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولنخلكم مدخلاً كريماً‏}‏، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر‏.
‏ قال أبو جعفر بن جرير عن صهيب مولى الصواري، أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد يقولان‏:‏ خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده‏)‏ ثلاث مرات ثم أكب فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حمر النعم فقال‏:‏ ‏(‏ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له ادخل بسلام‏)‏"‏رواه النسائي والحاكم وابن حبان‏"‏
تفسير هذه السبع ‏:‏ وذلك بما
ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اجتنبوا السبع الموبقات‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه وما هن‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الشرك باللّه وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‏)‏فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر، لا ينفي ما عداهن إلا عند من يقول بمفهوم اللقب، وهو ضعيف عند عدم القرينة، ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع حديث آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد عن أبي أيوب قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من عبد اللّه لا يشرك به شيئاً، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وصام رمضان واجتنب الكبائر فله الجنة - أو دخل الجنة - فسأله رجل ما الكبائر‏؟‏ فقال‏:‏ الشرك باللّه وقتل نفس مسلمة، والفرار من الزحف‏)‏ وكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم وكان في الكتاب‏:‏ إن أكبر الكبائر عند اللّه يوم القيامة‏:‏ إشراك باللّه، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار في سبيل اللّه يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه‏"‏ حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور ‏:‏ عن أنس بن مالك قال‏:‏ ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال‏:‏ ‏(‏الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين‏)‏، وقال‏:‏ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏الإشراك بالله، وقول الزور - أو شهادة الزور - ‏)‏ وأخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الا أنبئكم بأكبر الكبائر‏)‏‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى، يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس، فقال‏:‏ ‏(‏الا وشهادة الزور، ألا وقول الزور‏)‏، فما زال يكررها حتى قلنا‏:‏ ليته سكت‏
.‏
حديث آخر فيه ذكر قتل الولد ‏:‏
عن عبد اللّه بن مسعود قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه أي الذنب أعظم‏؟‏ وفي رواية أكبر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل للّه نداً وهو خلقك‏)‏، قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك‏)‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تزاني حليلة جارك‏)‏، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر - إلى قوله - إلا من تاب‏}
‏"‏الحديث في الصحيحين‏"‏
حديث آخر في اليمين الغموس ‏:
قال ابن أبي حاتم، عن عبد اللّه بن أنيس الجهني عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أكبر الكبائر الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين، واليمني الغموس، وما حلف حالف باللّه يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة‏)حديث آخر في التسبب إلى شتم الوالدين‏:‏ عن عبد اللّه بن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف يلعن الرجل والديه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه‏) ‏"‏رواه البخاري ومسلم‏"‏وثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر‏)‏
حديث آخر ‏:
عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الإضرار في الوصية من الكبائر‏)‏، قال ابن أبي حاتم‏:‏ هو صحيح عن ابن عباس من قوله حديث آخر في ذلك ‏:‏ قال ابن جرير عن أبي أمامة‏:‏ أن أناساً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكىء فقالوا‏:‏ الشرك باللّه، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغلول، والسحر، وأكل الربا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فأين تجعلون الذين يشترون بعهد اللّه وايمانهم ثمناً قليلاُ‏)‏‏؟‏ إلى آخر الآية ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ في إسناده ضعف وهو حسن‏"‏
ذكر أقوال السلف في ذلك قال ابن جرير عن الحسن‏:‏ أنا ناساً سألوا عبد اللّه بن عمرو بمصر، فقالوا‏:‏ نرى أشاياء من كتاب اللّه عزَّ وجلَّ أمر أن يعمل بها لا يعمل بها، فاردنا أن نلقي أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه، فلقي عمر رضي اللّه عنه، فقال‏:‏ متىقدمت‏؟‏ منذ كذا وكذا، قال‏:‏ أبإذنٍ قدمت‏؟‏ قال‏:‏ فلا أدري كيف رد عليه‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن ناساً لقوني بمصر، فقالوا‏:‏ إنا نرى أشياء في كتبا اللّه أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها، فأحبوا أن يلقوك في ذلك‏.‏ قال فاجمعهم لي قال‏:‏ فجمعتهم له‏.‏ قال ابن عون - أظنه قال في بهو - ‏:‏ فأخذ أدناهم رجلاً فقال‏:‏ أنشدك بالله بحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فهل أحصيته في نفسك‏؟‏ فقال‏:‏ اللهم لا، قال‏:‏ ولو قال نعم لخصمه‏.‏ قال‏:‏ فهل أحصيته في بصرك‏؟‏ فهل أحصيته في لفظك‏؟‏ هل أحصيته في أثرك‏؟‏ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال‏:‏ ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله‏؟‏ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات، قال‏:‏ وتلا ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ الآية‏.‏ ثم قال‏:‏ هل علم أهل المدينة‏؟‏ أو قال‏:‏ هل علم أحد بما قدمتم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ لو علموا لوعظت بكم ‏"‏أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير‏:‏ إسناد صحيح ومتن حسن‏"‏
أقوال ابن عباس في ذلك
روى ابن جرير عن طاوس، قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس، فقال‏:‏ أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن اللّه ما هن‏؟‏ قال‏:‏ هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع، وقال عبد الرزاق قيل‏:‏ لابن عباس الكبائر سبع‏؟‏ قال‏:‏ هن إلى السبعين أقرب؛ وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير‏:‏ أن رجلاً قال النب عباس‏:‏ كم الكبائر، سبع‏؟‏ قال‏:‏ هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار‏:‏ ولا صغيرة مع إصرار‏.‏ وعن ابن عباس في قوله ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏}‏ قال‏:‏ الكبائر كل ذنب ختمه اللّه بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب‏.‏ وسئل ابن عباس عن الكبائر فقال‏:‏ كل شيء عصي اللّه به فهو كبيرة‏.‏ وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة، فمن قائل‏:‏ هي ما عليه حدّ في الشرع، ومنهم من قال‏:‏ هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنّة، وقيل غير ذلك‏.‏ قال [1]
أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في كتابه الشرح الكبير
‏:‏ ثم اختلف الصحابة رضي اللّه عنهم فمن بعدهم في الكبائر، وفي الفرق بينها وبين الصغائر، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه أحدها‏:‏ أنها المعصية الموجبة للحد، والثاني ‏:‏ أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنّة، وهذا أكثر ما يوجد لهم وإلى الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر، والثالث ‏:‏ قال إمام الحرمين‏:‏ كل جريمة تنبىء بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة، والرابع ‏:‏ ذكر القاضي أبو سعيد الهروي‏:‏ أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره‏.‏
ثم قال‏:‏ وفصَّل الروياني فقال‏:‏ الكبائر سبع‏:‏ قتل النفس بغير الحق، والزنا واللواطة، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصباً، والقذف؛ وزاد في الشامل على السبع المذكورة‏:‏ شهادة الزور، أضاف إليها صاحب العدة ‏:‏ أكل الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم اللاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمداً؛ وسب أصحابه، وكتمان الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن النكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر اللّه، ويقال الوقيعة في أهل العلم، وحملة القرآن‏.‏ ومما يعد من الكبائر‏:‏ الظهار، وأكل لحم الخنزير، والميتة إلا عن ضرورة‏.‏ قلت‏:‏ وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد اللّه الذهبي الذي بلغ نحواً من سبعين كبيرة، وإذا قيل‏:‏ إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها كما قال ابن عباس وغيره وما يتبع ذلك، اجتمع منه شيء كثير، وإذا قيل‏:‏ كل ما نهى اللّه عنه فكثير جداً‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 04:56 AM

الآية رقم ‏(‏32‏)‏
‏{‏ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ‏}‏
عن مجاهد قال، قالت أم سلمة‏:‏ يا رسول اللّه يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض‏}"‏رواه أحمد والترميذي‏"‏وقال عبد الرزاق عن معمر قال‏:‏ نزلت هذه الآية في قول النساء ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون، ونغزو في سبيل اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية، قال‏:‏ أتت امرأة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، ونحن في العمل هكذا، إن فعلت امرأة حسنة كتب لها نصف حسنة، فأنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولا تتمنوا‏} الآية ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏قال ابن عباس‏:‏ لا يتمنى الرجل فيقول‏:‏ ليت لو أن لي مال فلان وأهله، فنهى اللّه عن ذلك، ولكن يسأل اللّه من فضله‏.‏ وهو الظاهر من الآية، ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏لا حسد إلافي اثنتين رجل آتاه اللّه مالاً فسلطه على هلكته في الحق، فيقول رجل‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الأجر سواء‏)
الحديث فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، ويقول‏:‏ ‏{‏ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض‏}‏ أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية، لحديث أم سلمة وابن عباس، وهكذا قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكنّ رجالاً فيغزون ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏
ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ أي كل له جزاء على عمله بحسبه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر‏.‏ هذا قول ابن جرير، وقيل‏:‏ المراد بذلك في الميراث أي كل يرث بحسبه، رواه الوابلي عن ابن عباس، ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم، فقال‏:‏ ‏{‏واسألوا اللّه من فضله‏}‏ ولا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، أي أن التمني لا يجدي شيئاً، ولكن سلوني من فضلي أعطكم، فإني كريم وهاب، وقد
روى الترمذي عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏سلوا اللّه من فضله فإن اللّه يحب أن يسال، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج‏)
"‏أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود‏"‏ثم قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان بكل شيء عليماً‏}‏ أي هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيّضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان بكل شيء عليماً‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏33‏)‏
‏{‏ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ‏}‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل جعلنا موالي‏}‏ أي ورثة، وعن ابن عباس في رواية‏:‏ أي عصبة، قال ابن جرر‏:‏ والعرب تسمي ابن العم مولى كما قال الفضل بن عباس‏:‏
مهلاً بني عمنا، مهلاً موالينا * لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
قال‏:‏ ويعني بقوله ‏{‏مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام‏:‏ ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم‏}‏ أي والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم، فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن اللّه شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا من عاقدوا ولا ينسوا بعد نزول هذه الآية معاقدة، قال البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ولكل جعلنا موالي‏}‏ قال ورثة، ‏{‏والذين عقدت أيمانكم‏}‏ كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخرى النبي صلى اللّه عليه وسلم بينهم، فلما نزلت‏:‏ ‏{‏ولكل جعلنا موالي‏}‏ نسخت، ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم‏}‏ من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له ‏"‏أخرجه البخاري عن ابن عباس‏"‏
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏والذين عقَدت أيمانكم‏}‏ الآية، قال‏:‏ كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهم، فلما نزلت‏:‏ ‏{‏ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ نسخت، ثم قال‏:‏ والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم‏.‏ وعن ابن عباس قال،
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا حلف في الإسلام، ولكن حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وما يسرني أن لي حمر النعم، وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة‏)
‏"‏رواه ابن جرير‏"‏‏.‏
وقال محمد بن إسحاق عن ‏"‏داود بن الحصين‏"‏قال‏:‏ كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع مع ابن ابنها موسى بن سعد وكان يتيماً في حجر أبي بكر، فقرات عليها‏:‏ والذين عاقدت أيمانكم فقالت‏:‏ لا، ولكن ‏{‏والذين عقدت أيمانكم‏}‏ قالت‏:‏ إنما نزلت في ابي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى أن يسلم فحلف أبو بكر أن لا يروثه، فلما أسلم حمل على الإسلام بالسيف، أمر اللّه أن يورثه نصيبه ‏"‏رواه ابن جرير‏"‏والصحيح الأول، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعهود والعقود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوه قبل ذلك‏.‏ وهذا نص في الرد على من ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم، كما هو مذهب أبو حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل، والصحيح قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ أي ورثة من قراباته من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون سائر الناس كما
ثبت في الصحيحين عن ابن عباس، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر‏)‏
أي أقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم اللّه في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة، وقوله‏:‏ ‏{‏والذين عقدت أيمانكم‏}‏ أي قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصبهم أي من الميراث، فأيما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير له، وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل وحكم الحلف الماضي أيضاً فلا توارث به، كما قال ابن عباس ‏{‏فآتوهم نصيبهم‏}‏ قال‏:‏ من النصرة والنصيحة والرفادة، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏فآتوهم نصيبهم‏}‏ أي من الميراث، وقد اختار ابن جرر أن المراد بقوله ‏{‏فآتوهم نصيبهم‏}‏ أي من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث حتى تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكماً ثم نسخ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا مسوخة وهذا الذي قال فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرض كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك فكيف يقولون إن هذه الآية محكمة غير منسوخة‏؟‏ واللّه أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏34‏)‏
{‏ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ‏{‏بما فضَّل اللّه بعضهم على بعض‏}‏ أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الاعظم لقوله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏لن يفلح قوم ولَّو أمرهم امرأة‏) رواه البخاري، وكذا منصب القضاء وغير ذلك ‏{‏وبما أنفقوا من أموالهم‏}‏ أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها اللّه عليهم لهن في كتابه وسنّة نبيه صلى اللّه عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيماً عليها كما قال اللّه تعالى‏:‏ {‏وللرجال عليهن درجة‏} الآية، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ يعني أمراء عليهن، أي تطيعه فيما أمرها اللّه به من طاعته، وطاعتُه أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ جاءت امرأة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم تشكو أن زوجها لطمها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏القصاص‏)‏ فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ الآية‏.‏ فرجعت بغير قصاص، وقد أسنده ابن مردويه عن علي قال‏:‏ أتى رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلٌ من الأنصار بامرأة له، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه أن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس له ذلك، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ أي في الأدب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أردت أمراً وأراد اللّه غيره‏)
أورد ذلك كله ابن جرير‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالصالحات‏}‏ أي من النساء ‏{‏قانتات‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يعني مطيعات لأزواجهن ‏{‏حافظات للغيب‏}‏ وقال السدي وغيره‏:‏ أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله، وقوله‏:‏ ‏{‏بما حفظ اللّه‏}‏ أي المحفوظ من حفظه الله‏.‏
عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك‏)‏، قال‏:‏ ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ إلى آخرها"‏رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏"‏وقال الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت‏) وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والاتي تخافون نشوزهن‏}‏ أي النساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن، والنشوز هو الإرتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، والمعرضة عنه، المبغضة له، فمتى ظهر لها منها أمارات النشوز فليعظها، وليخوفها عقاب اللّه في عصيانه، فإن اللّه قد أوجب حق الزوج عليها طاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليه من الفضل والإفضال، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لو كنت آمراً أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة‏"‏وروى البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح‏)‏ ورواه مسلم ولفظه‏:‏(‏إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن‏}‏‏
.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واهجروهن في المضاجع قال ابن عباس‏:‏ الهجر هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره، وكذا قال غير واحد وزاد آخرون في رواية‏:‏ ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ يعظها فإن هي قبلت، وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يرد نكاحها وذلك عليها شديد‏.‏ وقال مجاهد والشعبي‏:‏ الهجر هو أن لا يضاجعها‏.‏ وفي السنن والمسند
عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال‏:‏ يا رسول اللّه ما حق امرأة أحدنا عليه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت‏)‏وقوله‏:‏ ‏{‏واضربوهن‏}‏ أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبرح، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع‏:‏ ‏)‏واتقوا اللّه في النساء فإنهن عندكم عوان عوان‏:‏ أي أسيرات، شبههنّ عليه السلام بالأسيرات شفقة ورحمة ولكم عليهن أن لا يطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏)‏ وكذا قال ابن عباس وغير واحد‏:‏ ضرباً غير مبرح‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ يعني غير مؤثر، قال الفقهاء‏:‏ هو أن لا يكسر فيها عضواً ولا يؤثر فيها شيناً، وقال ابن عباس‏:‏ يهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن اللّه لك أن تضربها ضرباً غير مبرح، ولا تكسر لها عظماً فإن أقبلت، وإلا فقد أحل اللّه لك منها الفدية‏.‏ وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تضربوا إماء الله‏)‏، فجاء عمر رضي اللّه عنه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ذئرت النساء على أزواجهن، فرخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ضربهن، فأطاف بآل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم‏)
‏ ‏"‏رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا‏}‏ أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها، مما أباحه اللّه له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان علياً كبيراً‏}‏ تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن اللّه العلي الكبير وليهُنَّ، وهو ينتقم ممن ظلمهُنَّ وبغى عليهن‏.‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 05:02 AM

الآية رقم ‏(‏35‏)‏
‏{‏ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا
إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ‏}‏
ذكر الحال الأول، وهو‏:‏ إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ثم ذكر الحال الثاني‏:‏ وهو إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها‏}‏، وقال الفقهاء‏:‏ إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل، ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة، مما يريانه من التفريق أو التوفيق، وتشوَّف الشارع إلى التوفيق، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يريدا إصلاحاً يوفق اللّه بينهما‏}‏، وقال ابن عباس‏:‏ أمر اللّه عزّ وجلَّ أن يبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي عن ابن عباس قال‏:‏ بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر‏:‏ بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما‏:‏ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتمان أن تفرقا ففرقا‏.‏ وقال أنبأنا ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت‏:‏ تصبر إلى وأنفق عليك، فكان إذا دخل عليها قالت‏:‏ أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فقال‏:‏ على يسارك في النار إذا دخلت؛ فشدت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك فضحك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس‏:‏ لأفرقن بينهما فقال معاوية‏:‏ ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف، فأتياهما فوجاهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا ‏"‏أخرجه عبد الرزاق من حديث ابن عباس‏"‏وعن محمد بن سيرين عن عبيدة قال‏:‏ شهدت علياً وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام الفئام‏:‏ الجماعة لا واحد له من الناس، فأخرج هؤلاء حكماً وهؤلاء حكماً، فقال علي للحكمين‏:‏ أتدريان ما عليكما‏؟‏ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما‏.‏ فقالت المرأة رضيت بكتاب اللّه لي وعليَّ، وقال الزوج أما الفرقة فلا، فقال‏:‏ علي كذبت، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب اللّه عزّ وجلَّ لك وعليك، رواه ابن ابي حاتم‏.‏
وقد أجمع العلماء على ان الحكمين لهما الجمع والتفرقة، حتى قال إبراهيم النخعي إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا، وهو رواية عن مالك، وقال الحسن البصري‏:‏ الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة، وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود، ومأخذهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يريداً إصلاحاً يوفق اللّه بينهما‏}‏، ولم يذكر التفريق، وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خوف‏.‏ وقد اختلف الأئمة في الحكمين‏:‏ هل هما منصوبان من جهة الحاكم فيحكمان وإن لم يرض الزوجان‏؟‏ أو هما وكيلان من جهة الزوجين‏؟‏ على قولين، والجمهور على الأول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابعثوا حكمً من أهله وحكماً من أهلها‏}‏ فسماهما حكمين، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية‏.‏ والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثاني منهما لقول علي رضي اللّه عنه للزوج حين قال أما الفرقة قال‏:‏ كذبت حتى تقر بما أقرت به، قالوا‏:‏ فلو كانا حكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، واللّه أعلم‏.‏

قلب الزهـــور 05-05-2014 05:19 AM

الآية رقم ‏(‏36‏)‏
{‏ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ‏}‏
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ بن جبل‏:‏ ‏(‏أتدري ما حق اللّه على العباد‏؟‏‏)‏ قال اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏أتدري ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك‏؟‏ أن لا يعذبهم‏)‏ ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن اللّه سبحانه جعلهما سبباً لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيرا ما يقرن اللّه سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله‏:‏{‏أن اشكر لي ولوالديك‏}‏، وكقوله‏:{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏}
‏، ثم عطف على الإحسان إليهما بالإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة‏)‏ ‏"‏أخرجه النسائي حديث سلمان بن عامر‏"‏‏.‏
ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واليتامى‏}‏ وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر اللّه بالإحسان إليهم والحنو عليهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏والمساكين‏}‏ وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم، فأمر اللّه سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم، وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة، وقوله‏:‏ ‏{‏والجار ذي القربى والجار الجنب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ يعني الذي بينك وبينه قرابة ‏{‏والجار الجنب‏}‏ الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد، وقال نوف البكالي في قوله‏:‏ ‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ يعني الجار المسلم ‏{‏والجار الجنب‏}‏ يعني اليهودي والنصراني ‏"‏رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏"‏وقال مجاهد أيضاً في قوله ‏{‏والجار الجنب‏}‏ يعني ‏:‏ الرفيق في السفر، وقد وردت

الأحاديث بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وباللّه المستعان‏.
الحديث الأول قال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏
الحدث الثاني ‏:‏ عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خير الأصحاب عند اللّه خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند اللّه خيرهم لجاره‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي‏"‏
الحدث الثالث‏"‏‏:‏ قال الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏ما تقولون في الزنا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ حرام حرمه اللّه ورسوله وهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏ما تقولون في السرقة‏)‏‏؟‏ قالو‏:‏ حرمها اللّه ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة، قال‏:‏ ‏(‏لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره‏)‏ ‏"‏تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين‏"‏
الحديث الرابع ‏:‏ قال أبو بكر البزار عن جابر بن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الجيران ثلاثة، جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقاً‏.‏ جار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقاً، فأما الجار الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام، وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم‏)‏

الحديث الخامس ‏:‏روى الإمام أحمد عن عائشة‏:‏ أنها سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ إن لي جارين فإلى أيهما أهدي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إلى أقربهما منك بابا‏(‏ ورواه البخاري من حديث شعبة به‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏
{‏والصاحب بالجنب‏}‏
عن علي وابن مسعود قالا‏:‏ هي المرأة، وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هو الرفيق في السفر، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر، وأما ابن السبيل فعن ابن عباس وجماعة هو الضيف، وقال مجاهد والضحاك ومقاتل‏:‏ هو الذي يمر عليك مجتازاً في السفر، وهذا أظهر وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق فهما سواء وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة وباللّه الثقة وعليه التكلان‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏ وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة، أسير في أيدي الناس، فلهذا
ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول‏:‏ ‏(‏الصلاة الصلاة وما ملكت ايمانكم‏)‏ فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه، وقال الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زووجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة‏)
‏ ورواه النسائي وإسناده صحيح‏.‏
وعن عبد اللّه بن عمرو أنه قال لقهرمان له‏:‏ هل أعطيت الرقيق قوتهم‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فانطلق فأعطهم فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم‏)"‏رواهما مسلم‏"‏وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق‏) ‏"‏رواهما مسلم‏"‏وعنه أيضاً عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه‏)أخرجاه، ولفظه للبخاري ولمسلم‏:‏ (‏فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوها قليلا، فليضع في يده أكلة أو أكلتين‏)‏وعن أبي ذر رضي اللّه عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هم إخوانكم خولكم جعلهم اللّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم‏(‏
أخرجاه‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يحب من كان مختالاً فخوراً‏}‏ أي مختالاً في نفسه، بمعجباً متكبراً فخوراً على الناس يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند اللّه حقير، وعند الناس بغيض، قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يحب من كان مختالاً‏}‏ يعني متكبراً، ‏{‏فخوراً‏}‏ يعني‏:‏ بعدما أعطى وهو لا يشكر اللّه تعالى، يعني‏:‏ يفخر على الناس بما أعطاه اللّه من نعمه، وهو قليل الشكر للّه على ذلك، وقال ابن جرير عن أبي رجاء الهروي‏:‏ لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، وتلا‏:‏ ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏ الآية، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا‏:‏
{‏وبرا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً‏} وقال مطرف‏:‏ كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته، فقلت‏:‏ يا ابا ذر بلغني أنك تزعم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ إن اللّه يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة، قال‏:‏ أجل، قلت‏:‏ من الثلاثة الذين يبغض الله‏؟‏ قال‏:‏ المختال الفخور أوليس تجدونه عندكم في كتاب اللّه المنزل، ثم قرأ الآية‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يحب من كان مختالاً فخوراً‏}‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه أوصني قال‏:‏ ‏)‏إياك وإسبال الإزار‏.‏ فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن اللّه لا يحب المخيلة‏)‏

http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏37 ‏:‏ 39‏)

‏{‏ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ‏.‏ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ‏.‏ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ‏}‏
يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم اللّه به من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء، ولا يدفعون حق اللّه فيها ويأمرون الناس بالبخل أيضاً، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكتمون ما آتاهم اللّه من فضله‏}‏ فالبخيل جحودُ لنعمة اللّه ولا تظهر عليه، ولا تبين لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى‏:‏
{‏إن الإنسان لربه لكنود* وإنه على ذلك لشهيد‏}أي بحاله وشمائله،{‏وإنه لحب الخير لشديد‏}‏ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏ويكتمون ما آتاهم اللّه من فضله‏}‏، ولهذا توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة اللّه عليه، ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة اللّه عليه، وفي الحديث‏:‏ إن اللّه إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه‏)‏، وفي الدعاء النبوي‏:‏(‏واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها - وأتممها علينا‏) وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وكتمانهم ذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ ولا شكر أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء كذلك الآية التي بعدها، وهي قوله‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس‏}‏ فإنه ذكر الممسكين المذمومني وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه اللّه‏.‏ وفي حديث‏: ‏(‏الثلاة الذين هم أول من تسجر بهم النار، وهم‏:‏ العالم والغازي والمنفق والمراؤون بأعمالهم يقول صاحب المال ما تركت من شي تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول اللّه‏:‏ كذبت إنما أردت أن يقال جواد فقد قيل‏:‏ أي أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي اردت بفعلك، وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعدي بن حاتم‏:‏‏(‏إن أباك أراد أمراً فبلغه‏)‏ وفيحديث آخر أن رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ لا، إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر‏}‏ الآية‏.‏ أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح، وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان، فإنه سوّل لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسن لهم القبائح، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً‏}‏، ولهذا قال الشاعر‏:‏
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم اللّه‏}‏ الآية، أي واي شيء يضرهم لو آمنوا باللّه وسلكوا الطريق الحميدة، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان باللّه، رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا مما رزقهم اللّه في الوجوه التي يحبها اللّه ويرضاها‏؟‏‏!‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكان اللّه بهم عليماً‏}‏ أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي، الذي من طرد عن بابه فقد خاب، وخسر في الدنيا والآخرة عياذاً باللّه من ذلك‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 12:48 AM

الآية رقم ‏(‏40 ‏:‏42‏)
{‏ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ‏.‏ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ‏.‏ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ‏}

يخبر جلَّ ثناؤه عباده بأنه سيوفيهم أجورهم، ولا يظلم خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل، ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونضع الموازين القسط‏} الآية، وقال تعالى مخبراً عن لقمان‏:‏ أنه قال‏:‏ {‏يا بنيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها اللّه‏} الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه‏:‏ ‏(‏يقول اللّه عزَّ وجلَّ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار‏)‏؛ وفي لفظ‏:‏ أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، ‏(‏فيخرجون خلقاً كثيراً‏)‏، ثم يقول أبو سعيد‏:‏ اقرأوا إن شئتم ‏{‏إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة‏}‏ الآية وقال ابن أبي حاتم، قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ يؤتى بالعبد أو الامة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين الآخرين‏:‏ هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها، ثم قرأ‏:{‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}فيغفر اللّه من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً، فينصب للناس، فيقول ائتوا إلى الناس حقوقهم، فيقول‏:‏ يا رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم‏؟‏ فيقول‏:‏ خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر مظلمته، فإن كان ولياً للّه ففضل له مثقال ذرة ضاعفها اللّه له حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ علينا‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها‏}‏، وإن كان عبداً شقياً‏.‏ قال الملك‏:‏ رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير، فيقول‏:‏ خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صكوا له صكاً إلى النار ورواه ابن جرير ولبعض هذا الاثر شاهد في الحديث الصحيح‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وإن تك حسنة يضاعفها‏}‏ فأما المشرك فيخفف عنه الذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبداً، وقد يستدل له بالحديث الصحيح‏:‏ أن العباس قال يا رسول اللّه‏:‏ إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء‏؟‏ قال‏:‏ نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار، وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار، بدليل ما رواه أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ (‏إن اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة‏)‏"‏أخرجه مسلم من حديث أنَس‏"‏وقال الحن وقتادة‏:‏ ‏{‏ويؤت من لدنه أجراً عظيماً‏}‏ يعني الجنة، نسال اللّه رضاه والجنة وروى ابن أبي حاتم عن أبي عثمان قال، قلت‏:‏ يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن اللّه يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة‏)‏، فقال أبو هريرة‏:‏ واللّه بل سمعت نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن اللّه يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة‏)‏، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ يقول تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة، حين يجيء من كل أمة بشهيد يعني الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء‏} الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ {‏ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ روى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اقرأ عليَّ‏)‏، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه آقرا عليك وعليك أنزل‏؟‏ ‏(‏قال‏:‏ نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري‏(‏ فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏حسبك الآن‏)‏ فإذا عيناه تذرفان‏
.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله‏:‏ ‏
{‏يوم ينظر المرء ما قدمت يداه‏} الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له‏:‏ سمعت اللّه عزّ وجل يقول - يعني أخباراً عن المشركين يوم القيامة - إنهم قالوا‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، وقال في الآية الأخرى ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثا‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما قوله ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏} فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا‏:‏ تعالوا فلنجحد، فقالوا‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏} فختم اللّه على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير‏"‏وقال عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ أشياء تختلف عليَّ في القرآن، قال ما هو، أشك في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ ليس هو بالشك، ولكن اختلاف قال‏:‏ فهات ما اختلف عليك من ذلك، قال أسمع اللّه يقول‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ فقد كتموا، فقال ابن عباس‏:‏ أما قوله ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، فإنهم لما رأووا يوم القيامة أن اللّه لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركاً، جحد المشركون فقالوا‏:‏ {‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}
‏ رجاء أن يغفر لهم، فختم اللّه على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون، فعند ذلك ‏{‏يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏
وقال الضحاك‏:‏ إن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال‏:‏ يا ابن عباس قول اللّه تعالى ‏{‏يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏} فقال له ابن عباس‏:‏ إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت ألقي على ابن عباس متشابه القرآن فإذا رجعت إليهم فأخبرهم‏:‏ أن اللّه تعالى يجمع الناس يوم القياة في بقيع واحد، فيقول المشركون‏:‏ إن اللّه لا يقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحَّده، فيقولون تعالوا نجحد، فيسالهم فيقولون‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت لهم ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن الضحاك‏"‏‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 01:04 AM

http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏43‏)‏

{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ‏}

ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محالها - التي هي المساجد - للجنب إلا أن يكون مجتازاً من باب إلى باب من غير مكث؛ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى‏:‏ ‏
{‏يسالونك عن الخمر والميسر‏}الآية، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلاها على عمر فقال‏:‏ ‏(‏اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً‏)‏، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً‏)‏، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نزلت‏:‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر واليمسر والأنصاب والأزلام رجلس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏، إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنت منتهون‏}‏‏؟‏ فقال عمر‏:‏ انتهينا انتهينا
وفي رواية عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه‏:‏ فنزلت الآية التي في النساء‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ فكان منادي رسول اللّه إذا قامت الصلاة ينادي‏:‏ أن لا يقربن الصلاة سكران‏.‏
سبب آخر ‏:‏
عن علي بن ابي طالب قال‏:‏ صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا، وحضرت فقدموا فلاناً قال فقرأ‏:‏ قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏"‏رواه ابن أبي حاتم والترمذي‏"‏وقال العوفي عن ابن عباس في الآية‏:‏ إن رجالاً كانوا يأتون وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر، فقال اللّه‏:‏ ‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ الآية، رواه ابن جرير، وعن قتادة‏:‏ كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ بتحريم الخمر، وقال الضحاك‏:‏ لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ والصواب أن المراد سكر الشراب، قال‏:‏ ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خوطب بالنهي الثَّملُ الذي يفهم التكليف، وهذا حاصل ما قاله‏.‏ وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكالم دون السكران الذي لا يدري ما يقال له، فإن الفهم شرط التكليف، وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنيه عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً واللّه أعلم‏.‏ وعلى هذا فيكون كقوله تعالى‏:‏
{‏يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول، فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد عن أنَس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا نعس أحدكم وهو يصلي فينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول‏)‏"‏انفرد بإخراجه البخاري‏"‏وفي بعض ألفاظ الحديث‏:‏ ‏)فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه‏
)‏
وقوله تعالى‏:‏
{‏ولا جنبا ً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا‏}عن ابن عباس قال‏:‏ لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال تمر به مراً ولا تجلس، يروى أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا جنباً إلا عابري سبيل‏}‏، ويشهد لصحته ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر‏)‏، وهذا قاله في آخر حياته صلى اللّه عليه وسلم علماً منه أن أبا بكر رضي اللّه عنه سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي اللّه عنه، ومن روى إلا باب علي كما وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب ما ثبت في الصحيح‏.‏ ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضاً في معناه، إلا أن بعضهم قال‏:‏ يحرم مرورهما لاحتمال التلويث، ومنهم من قال‏:‏ إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور وإلا فلا، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ناوليني الخُمرة من المسجد‏)‏، فقلت‏:‏ إني حائض، فقال‏:‏ ‏(‏إن حيضتك ليست في يدك‏)‏وفيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد والنفساء في معناها واللّه أعلم‏.‏ وروى أبو داود عن عائشة قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب‏)، قال أبو مسلم الخطابي‏:‏ ضعف هذا الحديث جماعة، لكن رواه ابن ماجة عن أم سلمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك‏)
فإنه حديث ضعيف لا يثبت، فإن سالماً هذا متروك وشيخه عطية ضعيف واللّه أعلم‏.‏
وعن علي‏:‏ ‏{‏ولا جنباً إلا عابر سبيل‏}‏ قال‏:‏ لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء، ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن
عن أبي ذر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك‏)
‏"‏رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي ذر‏"‏ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين‏:‏ والأولى قول من قال ‏{‏ولا جنباً إلا عابري سبيل‏}‏ أي إلا عابري طريق فيه، وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر‏}‏ إلى آخره، فكان معلوماً بذلك أن قوله‏:‏ ‏{‏ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا‏}‏ لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر‏}‏ معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل‏.‏ قال‏:‏ والعابر السبيل المجتاز مراً وقطعاً، يقال منه‏:‏ عبرت بهذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً، ومنه يقال‏:‏ عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار‏:‏ هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار، وهذا الذي نصره هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقص مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضاً‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تغتسلوا‏}‏ دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة، وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، لما روي بسند صحيح أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك‏.‏ قال سعيد بن منصور في سننه عن عطاء بن يسار قال‏:‏ رأيت رجالاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، واللّه أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن، كنتم مرضى على على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً‏}‏ أما المرض المبيح للتيمم فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينة أو تطويل البرء، ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية، قال مجاهد‏:‏ نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل اللّه هذه الآية والسفر معروف ولا فرق فيه بين الطويل والقصير، وقوله‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ الغائط هو المكان المطمئن من الأرض، كني بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ فقرئ لمستم ولامستم، واختلف المفسرون الأئمة في معنى ذلك على قولين‏:‏ أحدهما أن ذلك كناية عن الجماع لقوله‏:‏ ‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ قال‏:‏ الجماع‏.‏ وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي‏:‏ ليس بالجماع، وقال ناس من العرب اللمس‏:‏ الجماع، قال‏:‏ فلقيت ابن عباس فقلت له‏:‏ إن ناساً من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي‏:‏ ليس بالجماع، وقالت العرب‏:‏ الجماع قال‏:‏ فمن أي الفريقين كنت‏؟‏ قلت‏:‏ كنت من الموالي، قال غلب فريق الموالي، إن اللمس والمس والمباشرة‏:‏ الجماع ولكن اللّه يكنى ما شاء بما شاء وقد صح من غير وجه عن عبد اللّه بن عباس أنه قال ذلك، وقال آخرون‏:‏ عنى اللّه تعالى بذلك كل من لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئاً من جسدها مفضياً إليه‏.‏ عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ القبلة من المس وفيها الوضوء، وروى الطبراني عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ هو الغمز، وروى مالك عن عبد اللّه بن عمر عن أبيه أنه كان يقول‏:‏ قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء، وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن عمر بن الخطاب نحو ذلك، ولكن روينا عنه من وجه آخر أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ، فالرواية عنه مختلفة، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب واللّه أعلم‏.‏ والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل، قال ناصروه‏:‏ قد قرىء في هذه الآية لامستم ولمستم، واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال تعالى‏:
‏ ‏
{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بايديهم‏}أي جسوه، وقالصلى اللّه عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا يعرّض له بالرجوع عن الإقرار‏:‏ ‏(‏لعلك قبلت أو لمست‏)‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏(‏واليد زناها اللمس‏)‏ وقالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ قلّ يوم إلا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطوف علينا فيقبل ويلمس، ومنه ما ثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة هو يرجع إلى الجس باليدعلى كلا التفسيرين، قالوا‏:‏ ويطلق في اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر‏:‏
‏(‏ولمست كفي كفه أطلب الغنى‏)‏

وقال ابن جرير وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال‏:‏ عنى اللّه بقوله ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ، وحدَّث عروة عن عائشة‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت‏:‏ من هي إلا أنت‏؟‏ فضحكت ‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن اجة‏"‏وعن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً‏}‏ استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم لحديث عمران بن حصين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ مع القوم، فقال‏:‏ ‏(‏يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم، ألست برجل مسلم‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى يا رسول اللّه ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال‏:‏ ‏(‏عليك بالصعيد فإنه يكفيك‏)‏‏"‏رواه الإمام أحمد من حديث عمران بن حصين‏"‏ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً‏}‏ فالتيمم في اللغة‏:‏ هو القصد‏.‏ تقول العرب‏:‏ تيممك اللّه بحفظه أي قصدك، ومنه قول امرىء القيس شعراً‏:‏
ولما رأت أن المنية وردها * وأن الحصى من تحت أقدامها دامي
تيممت العين التي عند ضارج * يفيء عليها الفيء عرمضها طامي

قلب الزهـــور 06-05-2014 01:17 AM

والصعيد قيل‏:‏ هو كل ما صعد على وجه الارض، فيدخل الأرض، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والنبات وهو قول مالك، وقيل‏:‏ ما كان من جنس التراب كالرمل والزرنيخ والنورة وهذا مذهب أبي حنيفة، وقيل‏:‏ هو التراب فقط، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما واحتجوا بقوله تعالى‏:‏{‏فتصبح صعيداً زلقاً‏} أي تراباً أملس طيباً، وبما ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء‏(‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء‏) قالوا فخصص الطهورية بالتراب في مقام الإمتنانن فلو كان غيره يقوم مقام لذكره معه، والطيب ههنا‏:‏ قيل الحلال، وقيل الذي ليس بنجس‏.‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم‏}‏ التيمم بدل عن الوضوء في التطهير به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن اختلف الأئمة في

كيفية التيمم على أقوال‏:‏

أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين، لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقها على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة‏:‏ ‏{‏فاقطعوا أيديهما‏}‏، قالو‏:‏ وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية، وذكر بعضهم ما رواه الدار قطني عن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين‏) ‏"‏أخرجه الإمام أحمد والدارقطني عن ابن عمر‏"‏و

القول الثاني‏:‏ أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين،
وهو قول الشافعي في القديم، و

الثالث أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة لما
روي أن رجلاً أتى عمر فقال‏:‏ إني أجنبت فلم أجد ماء؛ فقال عمر‏:‏ لا تصل‏.‏ قال عمار‏:‏ أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك وضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه‏)"‏رواه النسائي وأحمد‏"‏‏؟‏ طريق أخرى ‏:‏ قال أحمد عن سليمان الأعمش، حدثنا شقيق قال‏:‏ كنت قاعداً مع عبد اللّه و أبي موسى فقال أبو يعلى لعبد اللّه‏:‏ لو أن رجلاً لم يجد الماء، لم يصلّ‏؟‏ فقال عبد اللّه أنت تذكر ما قال عمرا لعمر‏؟‏ ألا تذكر إذ بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإياك في إبل فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب، فلما رجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبرته، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعاً، ومسح واحدة بضربة واحدة‏)‏‏؟‏ فقال عبد اللّه‏:‏ لا جرم ما رأيت عمر قنع بذلك، قال، فقال له أبو موسى‏:‏ فيكف بهذه الآية في سورة النساء‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء فيتمموا صعيداً طيباً‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ فما درى عبد اللّه ما يقول‏.‏ وقال‏:‏ لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم‏.‏ وقال في المائدة‏:‏ ‏{‏فامسحو بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏، فقد استدل بذلك الشافعي على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج‏}‏ أي في الدين الذي شرعه لكم ‏{‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ فلهذا أباح التيمم‏.‏ إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد، والتيمم نعمة عليكم لعلكم تشكرون، ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم، كما
ثبت في الصحيحن عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان يبعث النبي إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة‏)وقال تعالى في هذه الآية الكريمة‏:
{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن اللّه كان عفواً غفوراً‏}‏
أي ومن عفوه عنكم وغفرانه ولكم أن شرع لكم التيمم، واباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء، توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحوا المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ إلا أن يكون مريضاً أو عادماً للماء، فإن اللّه عزّ وجلَّ قد أرخص في التيمم - والحالة هذه - رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، وللّه الحمد والمنة‏.‏
ذكر

سبب نزول مشروعية التيمم
وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أُحُد بيسير، في محاصرة النبي صلى اللّه عليه وسلم لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر مانزل ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هنا وباللّه الثقة‏.‏ قال البخاري عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى ابي بكر فقالوا‏:‏ ألا ترى ما صنعت عائشة‏؟‏ أقامت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال‏:‏ حبستِ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء‏!‏‏!‏ قالت عائشة‏:‏ فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللّه أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فخذي، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على غير ماء حين اصبح، فأنزل اللّه آية التيمم فتيموا، فقال أسيد بن الحضير‏:‏ ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت‏:‏ فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته‏.‏ حديث آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمار بن ياسر‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرَّس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، فأنزل اللّه على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط‏
.‏
حديث آخر ‏:‏ قال الحافظ بن مردويه عن الأسلع بن شريك، قال‏:‏ كنت أرحِّل ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء واغتسلت، ثم لحقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فقال‏:‏ ‏(‏يا أسلع مالي أرى رحلتك قد تغيرت‏)‏، قلت يا رسول اللّه‏:‏ ألم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال‏:‏ ‏(‏ولم‏؟‏ قالت‏:‏ أني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل اللّه تعالى‏:‏‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏} إلى قوله ‏{‏إن اللّه كان عفواً غفورا‏}‏ وقد روي من وجه آخر عنه‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 01:33 AM

الآية رقم ‏(‏44 ‏:‏46‏)
‏{‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ‏.‏ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ‏.‏ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ‏}‏
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل اللّه على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا ‏{‏ويريدون أن تضلوا السبيل‏}‏ أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع ‏{‏واللّه أعلم بأعدائكم‏}‏ أي‏:‏ هو أعلم بهم ويحذركم منهم، ‏{‏وكفى باللّه وليا وكفى باللّه نصيرا‏}‏ أي‏:‏ كفى به ولياً لمن لجأ إليه نصيراً لمن استنصره، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا‏}‏ من في هذا لبيان الجنس كقوله‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}
‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ أي‏:‏ يتأولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد اللّه عزَّ وجلَّ قصداً منهم وافتراء، ‏{‏ويقولون سمعنا‏}‏ أي‏:‏ سمعنا ما قلته يا محمد، ولا نطيعك فيه ‏.‏‏.‏‏.‏ هكذا فسره مجاهد وهو المراد، وهذا ابلغ في كفرهم وعنادهم، وأنهم يتولون عن كتاب اللّه بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏{‏واسمع غير مسمع‏}‏ أي‏:‏ اسمع ما نقول لا سمعت، رواه ابن عباس، وقال مجاهد والحسن‏:‏ واسمع غير مقبول منك، قال ابن جرير‏:‏ والأول أصح وهو كما قال، وهذا استهزاء منهم واستهتار، عليهم لعنة اللّه ‏{‏وراعنا ليَّا بألسنتهم وطعناً في الدين‏}‏ أي‏:‏ يوهمون أنهم يقولون راعنا سمعك بقولهم راعنا، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولا انظرنا‏}‏، ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه‏:‏ ليَّا بألسنتهم وطعناً في الدين‏}‏ يعني‏:‏ بسبهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ أي‏:‏ قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏، والمقصود أنهم لا يؤمنون إيماناً نافعاً‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏47 ‏:‏ 48‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ‏.‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ‏}

يأمر اللّه تعالى أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم من الكتاب العظيم، الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا بقوله‏:‏ ‏{‏ومن قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه من قبل أن نطمس وجوهاً، فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم، ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن نطمس وجوهاً فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار، وقال ابن عباس‏:‏ طمسها أن تعمى ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ يقول‏:‏ نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه اللّه لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله‏:‏
‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلا الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً‏}‏ الآية‏:‏ أي هذا مثل سوء ضربه اللّه لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏من قبل أن نطمس وجوهاً‏}‏ يقول عن صراط الحق ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ أي في الضلال، قال السدي‏:‏ ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ فنمنعها عن الحق، قال‏:‏ نرجعها كفاراً ونردهم قردة‏.‏ وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية‏.‏ قال ابن جرير عن عيسى بن المغيرة، قال‏:‏ تذاكرنا عند ابراهيم إسلام كعب، فقال‏:‏ أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة فخرج إليه عمر، فقال‏:‏ يا كعب أسلم فقال‏:‏ ألستم تقولون في كتابكم‏:‏ {‏مثل الذين حملوا التوراة - إلى أسفاراً‏}
‏، وأنا قد حملت التوراة، قال‏:‏ فتركه عمر، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلاً من أهلها حزيناً، وهو يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها‏}‏ الآية‏.‏ قال كعب‏:‏ يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت‏}‏ يعني‏:‏ اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الإصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير، وقوله‏:‏ ‏{‏وكان أمر اللّه مفعولاً‏}‏ أي‏:‏ إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع، ثم أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك، أي من الذنوب، لم يشاء‏:‏ أي من عباده، وقد وردت
أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر‏.‏

الحديث الأول‏:‏ عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره اللّه، وظلم يغفره اللّه، وظلم لا يترك اللّه منه شيئاً‏.‏ فأما الظلم الذي لا يغفره اللّه فالشرك، وقال‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏، وأما الظلم الذي يغفره اللّه فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان‏"‏

الحديث الثاني ‏:‏ عن أبي إدريس قال، سمعت معاوية يقول، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً‏)‏
الحديث الثالث‏:‏ عن أبي ذر أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏ما من عبد قال لا إله إلا اللّه ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة‏.‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏.‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ وإن زنى وإن سرق - ثلاثا، ثم قال في الرابعة‏:‏ على رغم أنف أبي ذر‏)‏، قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول‏:‏ وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول‏:‏ وإن رغم أنف أبي ذر ‏"‏رواه الشيخان‏"‏وعن أبي ذر قال‏:‏ كنت أمشي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد، فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر‏!‏ قلت‏:‏ لبيك يا رسول اللّه، قال‏:‏ ما أحب أن لي أحداً ذاك عندي ذهباً أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده، يعني لدين، إلا أن أقول به في عباد اللّه هكذا وهكذا فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه، قال ثم مشينا فقال‏:‏ يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا ، فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره، قال‏:‏ ثم مشينا فقال‏:‏ يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك ، قال‏:‏ فانطلق حتى تورى عني، قال‏:‏ فسمعت لغطاً، فقلت‏:‏ لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرض له، قال‏:‏ فهممت أن أتبعه، قال‏:‏ فذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك، فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال‏:‏ ذاك جبريل أتاني، فقال‏:‏ من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة‏)‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والشيخان‏"‏
الحديث الرابع ‏:‏ عن جابر، قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول اللّه ما الموجبتان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من مات لا يشرك باللّه شيئاً وجبت له الجنة ومن مات يشرك باللّه شيئاً وجبت له النار‏)‏
الحديث الخامس ‏:‏ قال الإمام أحمد، عن ضمضم بن جوش اليمامي قال، قال لي أبو هريرة‏:‏ يا يمامي‏!‏ لا تقولن لرجل لا يغفر اللّه لك، أو لا يدخلك الجنة أبداً، فقلت‏:‏ يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب، قال‏:‏ لا تقلها فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كان في بني إسرائيل رجلان أحدهما مجتهد في العبادة، وكان الآخر مسرفاً على نفسه، وكانا متآخيين، وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على الذنب فيقول‏:‏ يا هذا أقصر، فيقول‏:‏ خلِّني وربي أبعثت عليّ رقيباً‏؟‏ إلى ان رآه يوماً على ذنب استعظمه، فقال له‏:‏ ويحك أقصر، قال‏:‏ خلِّني وربي، أبعثت عليَّ رقيباً‏؟‏ فقال‏:‏ واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة أبداً، قال‏:‏ فبعث اللّه إليهما ملكاً فقبض أرواحهما واجتمعا عنده، فقال للمذنب‏:‏ اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر‏:‏ أكنت عالماً أكنت على ما في يدي قادراً‏؟‏ اذهبوا به إلى النار‏.‏ قال‏:‏ والذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته‏)

الآية رقم ‏(‏49 ‏:‏52‏)‏
‏{‏ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ‏.‏ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ‏.‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ‏.‏ أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ‏}‏
قال الحسن وقتادة نزلت هذه الآية - وهي قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ - في اليهود والنصارى حين قالوا‏:‏ نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وفي قولهم ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ وذلك أن اليهود قالوا‏:‏ إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ويشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل اللّه على محمد‏:‏ ‏{‏أم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ قالوا ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏الم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ فيهم، وقيل‏:‏ نزلت في ذم التمادح والتزكية؛ وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال‏:‏ أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نحثوا في وجوه المداحين التراب، وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن ابي بكرة عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع رجلاً يثني على رجل فقال‏:‏ ‏(‏ويحك قطعت عنق صاحبك ثم قال‏:‏ إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على اللّه أحداً‏)‏، وروى ابن مردويه عن عمر أنه قال‏:‏ إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار، وقال الإمام أحمد عن معبد الجهني قال‏:‏ كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ وكان قلما يكاد يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من يرد اللّه به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح‏)‏
وقال ابن جرير قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ إن الرجل ليغدوا بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء يلقى الرجل ليس يملك له ضرا ولا نفعا فيقول له إنك والله كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحظ من حاجته بشيء وقد أسخط الله ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ الآية ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل اللّه يزكي من يشاء‏}‏ أي المرجع في ذلك إلى اللّه عزَّ وجلَّ لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يظلمون فتيلاً‏}‏ أي ولا يترك لأحد من لأجر ما يوازن مقدار الفتيل، قال ابن عباس‏:‏ هو ما يكون في شق النواة‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على اللّه الكذب‏}‏ أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وقولهم‏:‏ ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏، وقولهم‏:‏ ‏
{‏لن تمسنا النار إلا اياماً معدودات‏}‏، واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم اللّه أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً في قوله‏:‏{‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم‏}الآية، ثم قال‏:‏ ‏{‏وكفى به إثما مبيناً‏}‏ أي وكفى بصنيعهم هذا كذباً وافتراء ظاهراً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏‏.‏ أما الجبت فقال عمر بن الخطاب‏:‏ الجبت السحر، و الطاغوت الشيطان، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد‏.‏ وعن ابن عباس وأبي العالية‏:‏ الجبت الشيطان، وعنه‏:‏ الجبت الأصنام‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ الجبت كعب بن الأشرف‏.‏ وقال الجوهري في كتاب الصحاح‏:‏ الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏الطيرة والعيافة والطرق من الجبت‏) وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏}‏ أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب اللّه الذي بأيديهم، وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال‏:‏ جاء حيي بن اخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم‏:‏ أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا، وعن محمد، فقالوا‏:‏ ما أنتم وما محمد‏؟‏ فقالوا نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو‏؟‏ فقالوا‏:‏ أنتم خير وأهدى سبيلاً، فأنزل اللّه ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً‏}‏ الآية‏.‏ وقال الإمام أحمد عن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش‏:‏ ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال‏:‏ أنتم خير، قال‏:‏ فنزلت‏:‏
{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏ ونزل‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ إلى قوله عزَّ وجلَّ ‏{‏وآتيناهم ملكاً عظيماً‏}‏، وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى اللّه شرهم، ‏{‏ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللّه المؤمنين القتال وكان اللّه قوياً عزيزاً‏}‏‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 01:48 AM

الآية رقم ‏(‏53 ‏:‏ 55‏)‏
‏{‏ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ‏.‏ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ‏.‏ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أم لهم نصيب من الملك‏}‏ وهذا استفهام إنكاري أي ليس لهم نصيب من الملك، ثم وصفهم بالبخل فقال‏:‏ ‏{‏فإذا لا يؤتون الناس نقيرا‏}‏ أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحداً من الناس ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين، وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق‏}‏ أي خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو من بخلكم وشحكم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان قتوراً‏} أي بخيلاً‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله‏}‏ يعني بذلك حسدهم النبي صلى اللّه عليه وسلم على ما رزقه اللّه من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل، ‏{‏فقد آتينا آل إبراهم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً‏}‏ أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن وهي الحكمة وجعلنا منهم الملوك، ومع هذا ‏{‏فمنهم من آمن به‏}‏ أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام ‏{‏ومنهم من صدَّ عنه‏}‏ أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل فقد اختلفوا عليهم فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل‏؟‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فمنهم من آمن به‏}‏ أي بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏ومنهم من صدّ عنه‏}‏ فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين ولهذا قال متوعداً لهم‏:‏ ‏{‏وكفى بجهنم سعيرا‏}‏ أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب اللّه ورسله‏.‏

الآية رقم ‏(‏56 ‏:‏57‏)‏
‏{‏ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ‏}

يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله، فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بآياتنا‏}‏ الآية، أي ندخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏ قال الأعمش عن ابن عمر‏:‏ إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاً أمثال القراطيس، وعن الحسن قوله‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم‏}‏ الآية قال‏:‏ تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة، ثم قيل لهم‏:‏ عودوا فعادوا، عن ابن عمر قال‏:‏ قرأ رجل عند عمر هذه الآية‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ فقال عمر‏:‏ أعدها عليَّ، فأعادها، فقال معاذ بن جبل‏:‏ عندي تفسيرها، تبدل في ساعة مائة مرة، فقال عمر‏:‏ هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏وقال الربيع بن أنس‏:‏ مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وسنّه سبعون ذراعاً، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها، وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا،
قال الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد‏)

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً‏}‏، هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لهم فيها أزواج مطهرة‏}‏ أي من الحيض، والنفاس، والأذى، والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة كما قال ابن عباس‏:‏ مطهرة من الاقذار والأذى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مطهرة من البول والحيض النخام والبزاق والمني والولد، وقال قتادة‏:‏ مطهرة من الأذى والمآثم، ولا حيض ولا كلف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وندخلهم ظلاً ظليلاُ‏}‏ أي ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها - شجرة الخلد‏)‏
‏"‏رواه ابن جرير وأخرجه الشيخان بنحوه‏"‏

الآية رقم ‏(‏58‏)‏
{‏ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ‏}

يخبر اللّه تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخنمن خانك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق اللّه عزّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات النذور وغير ذلك، ما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك مما يأتمون به من غير اطلاع بينة على ذلك فأمر اللّه عزَّ وجلَّ بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء‏)
، وقال ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة وإن كان قد قتل في سبيل اللّه فيقال‏:‏ أد أمانتك، فيقول‏:‏ فأنَّى أؤديها وقد ذهبت الدنيا‏؟‏ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الآبدين ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً‏"‏قال أبو العالية‏:‏ الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه‏.‏ وروى ابن أبي حاتم عن مسروق قال، قال أُبيّ بن كعب ‏:‏ من الأمانات أن المرأة ائتمنت على فرجها، وقال الربيع بن أنس‏:‏ هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس‏.‏ وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص‏.‏ ...و

سبب نزولها فيه
لما أخذ منه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء إلى البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها، وفوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكن له الناس في المسجد فقال‏:‏‏(‏لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، أن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميَّ هاتين، الا سدانة البيت وسقاية الحاج‏)‏ وذكر بقيِّة الحديث في خطبة النبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ إلىأن قال‏:‏ ثم جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال‏:‏ يا رسول اللّه اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى اللّه عليك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أين عثمان بن طلحة ‏؟‏ فدعي له، فقال له‏:‏ ‏)‏هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر‏)قال ابن جرير‏:‏ نزلت في عثمان بن طلحة،
قبض منه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية ‏{‏إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ الآية، فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح، وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية ‏{‏إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك‏.‏
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام، ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية‏:‏ هي للبر والفاجر، أي هي أمر لكل أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏}‏ أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس، ولهذا قال زيد بن أسلم‏:‏ إن هذه الآية‏:‏ إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس، وفي الحديث‏:
‏(‏إن اللّه مع الحاكم ما لم يجر، فإذا جار وكله إلى نفسه‏)
‏، وفي الأثر‏:‏ ‏(‏عدل يوم كعبادة أربعين سنة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه نعمَّا يعظكم به‏}‏ أي يأمركم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان سميعاً بصيراً‏}‏ سميعاً لأقوالكم، بصيراً بأفعالكم‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif

الآية رقم ‏(‏59‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ‏}

قال البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏، قال نزلت‏:‏ في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سرية، وقال الإمام أحمد عن علي قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء قال، فقال لهم‏:‏ أليس قد أمركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تطيعوني‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فاجمعوا لي حطباً - ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال‏:‏ عزمت عليكم لتدخلنها، قال، فقال لهم شاب منهم‏:‏ إنما فررتم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال‏:‏ فرجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم‏:‏ ‏(‏لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف‏)
وعن عبد اللّه بن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة‏)"‏رواه أبو داود‏"‏وعن عبادة ابن الصامت قال‏:‏ بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال‏:‏ ‏(‏إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من اللّه برهان‏)‏‏"‏رواه البخاري ومسلم‏"‏وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة‏)رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏ ‏(‏أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف‏) رواه مسلم وروى ابن جرير عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سيليكم ولاة بعدي فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلّوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم‏)‏
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون‏)‏ قالوا، يا رسول اللّه‏:‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أوفوا ببيعة الأول فالاول، وأعطوهم حقهم، فإن اللّه سائلهم عما استرعاهم‏)أخرجاه، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية‏}‏أخرجاه، وعن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من خلع يداً من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية‏)‏ رواه مسلم وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال‏:‏ دخلت المسجد فإذا عبد اللّه بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال‏:‏ كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره أصل الجشر‏:‏ الدواب ترعى في مكان وتبيت فيه اهـ إذا نادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلاة جامعة‏!‏ فاجتمعنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور ينكرونها، وتجيء فتن يُرَقِّقُ بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر، وليأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر، قال فدنوت منه فقلت‏:‏ أنشدك باللّه آنت‏؟‏‏؟‏ سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيده وقال‏:‏ سمعته أذناي، ووعاه قلبي، فقلت له‏:‏ هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ويقتل بعضاً بعضاً، واللّه تعالى يقول‏:‏ {‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن اللّه كان بكم رحيماً‏}‏ قال فسكت ساعة ثم قال‏:‏ أطعه في طاعة اللّه، واعصه في معصية اللّه
، والأحاديث في هذا كثيرة‏.‏
وقال ابن عباس ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ يعني العلماء، والظاهر - والله أعلم - أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم، وقال تعالى‏:‏
{
‏لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت‏}‏، وقال تعالى‏:{‏فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏، وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاني فقد عصا اللّه، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصا أميري فقد عصاني‏(‏، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أطيعوا اللّه‏}‏ أي اتبعوا كتابه، ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ أي خذوا بسنته، ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ أي فيما أمروكم به من طاعة اللّه لا في معصية اللّه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية اللّه كما تقدم في الحديث الصحيح‏: ‏(‏إنما الطاعة في المعروف‏)

وقال الإمام أحمد عن عمران بن حصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏‏(‏لا طاعة في معصية اللّه‏)‏ وقوله‏:‏ ‏
{‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول‏}‏قال مجاهد‏:‏ أي إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله، وهذا أمر من اللّه عزَّ وجلَّ بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنّة كما قال تعالى‏:‏
{‏وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى اللّه‏}‏، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر‏}‏ أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب اللّه وسنَّة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم ‏{‏إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر‏}‏، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنّة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً باللّه ولا باليوم الآخر، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك خير‏}‏ أي التحاكم إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير ‏{‏وأحسن تأويلاً‏}‏، أي وأحسن عاقبة ومآلاً كما قاله السدي وقال مجاهد‏:‏ وأحسن جزاء، وهو قريب‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 01:59 AM

الآية رقم ‏(‏60 ‏:‏ 63‏)‏
‏{‏ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ‏.‏ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ‏.‏ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ‏.‏ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ‏}‏
هذا إنكار من اللّه عزَّ وجلَّ على من يدعي الإيمان بما أنزل اللّه على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب اللّه وسنّة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول‏:‏ بيني وبينك محمد، وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف وقيل‏:‏ في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، ارادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنّة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت‏}‏ إلى آخرها، وقوله‏:‏ ‏{‏ويصدون عنك صدوداً‏}‏ أي يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏‏.
ثم قال تعالى في ذم المنافقين‏:‏ ‏{‏فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم‏}‏ أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك‏؟‏ ‏{‏ثم جاؤك يحلفون باللّه إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً‏}‏ أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم‏}‏، عن ابن عباس قال‏:‏ كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك - إلى قوله - إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً‏}‏ ‏"‏رواه الطبراني‏"‏‏.‏
ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم‏}‏ هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم، ‏{‏وعظهم‏}‏ أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، ‏{‏وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً‏}‏ أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم
الآية رقم ‏(‏64 ‏:‏ 65‏)‏
{‏ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ‏.‏ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع‏}‏ أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن اللّه‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي لا يطيع أحد إلى بإذني، يعني لا يطيعه إلا من وفقته لذلك، كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسونه بإذنه‏}
أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم‏}‏ الآية، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيستغفروا اللّه عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب اللّه عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لوجدوا اللّه تواباً رحيماً‏}‏ وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه ‏(‏الشامل‏)‏ الحكاية المشهورة عن العتبي قال‏:‏ كنت جالساً عند قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم فجاء أعرابي فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول اللّه، سمعت اللّه يقول‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه تواباً رحيما‏}‏ وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول‏:‏
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي، فغلبنتي عيني فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في النوم فقال‏:‏ ‏(‏يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره أن اللّه قد غفر له‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم‏}‏، يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً‏}‏ أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كلياً، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث‏:‏
‏(‏والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به‏)‏، وقال البخاري عن عروة قال‏:‏ خاصم الزبير رجلاً في شراج الحرة، فقال النبي ‏(‏اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك‏(‏ فقال الأنصاري‏:‏ يا رسول اللّه أن كان ابن عمتك‏؟‏ فتلوَّن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر ثم أرسل الماء إلى جارك‏)‏ ‏؟‏‏؟‏ النبي صلى اللّه عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى اللّه عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير‏:‏ فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهمْ الآية‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه‏:‏ خاصم الزبير رجلاً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل‏:‏ إنما قضى له لأنه ابن عمته فنزلت‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون‏}
الآية‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏66 ‏:‏ 70‏)‏
{‏ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ‏.‏ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ‏.‏ ولهديناهم صراطا مستقيما ‏.‏ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ‏.‏ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ‏}‏
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبوه من المناهي لما فعلوه، لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ الآية، قال ابن جرير ‏{‏ولو أنها كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ الآية، قال رجل‏:‏ لو أمرنا لفعلنا والحمد للّه الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواس‏)‏، وقال السدي‏:‏ افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود، فقال اليهودي‏:‏ واللّه لقد كتب اللّه علينا القتل فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت‏:‏ واللّه لو كتب علينا ‏{‏أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ لفعلنا، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به‏}‏ أي‏:‏ ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه، ‏{‏لكان خيراً لهم‏}‏ أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي ‏{‏وأشد تثيبتاً‏}‏ قال السدي‏:‏ أي وأشد تصديقاً، ‏{‏وغذا لآتيناهم من لدنا‏}‏ أي من عندنا ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ يعني الجنة، ‏{‏ولهدذناهم صراطاً مستقيماً‏}‏ أي في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً‏}‏ أي من عمل بما أمره اللّه به ورسوله وترك ما نهاه اللّه عنه ورسوله، فإن اللّه عزّ وجلَّ يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذي صلحت سرائرهم وعلانيتهم، ثم أثنى عليهم تعالى، فقال‏:‏ ‏{‏حسن أولئك رفيقاً‏}‏ وقال البخاري عن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من نبي يمرض إلا خيِّر بين الدنيا والآخرة‏)‏، وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول‏:‏ ‏{‏مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبييّن والصدّيقين والشهداء والصالحين‏}‏ فعلمت أنه خُيِّر‏.‏ وهذا معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏اللهم الرفيق الأعلى‏)‏ ثلاثاً ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 02:14 AM

ذكر ... سبب نزول هذه الآية الكريمة
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء رجل من الأنصار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا فلان مالي أراك محزوناً‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا نبي اللّه شيء فكرت فيه، فقال ما هو‏؟‏ قال‏:‏ نحن نغدوا ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين‏}‏ الآية، فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم فبشره وعن عائشة، قالت‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إنك لأحب إليَّ من نفسي، واحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتّ الجنة رفعتَ مع النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى نزلت عليه ‏{‏ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً‏}
‏‏.‏
وثبت في صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال‏:‏ كنت أبيت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي‏:‏ سل فقلت‏:‏ يا رسول اللّه أسألك مرافقتك في الجنة، فقال‏:‏ ‏(‏أو غير ذلك‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ هو ذاك، قال‏:‏ ‏(‏فأعني على نفسك بكثرة السجود‏)‏ وقال الإمام أحمد عن عمروا بن مرة الجهني، قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه شهدت أن لا إله إلا اللّه، وأنك رسول اللّه؛ وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعقَّ والديه‏)‏
تفرد به أحمد‏.‏ وروى الترمذي عن أبي سعيد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء‏)‏وقد
ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متوترة عن جماعة من الصحابة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏ قال أنس‏:‏ فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث، وفي رواية عن أنس أنه قال‏:‏ إني لأحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وأرجوا أن اللّه يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم‏.‏ قال الإمام مالك بن أنس عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال‏:‏ ‏(‏بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم‏"‏قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الفضل من اللّه‏}‏ أي من عند اللّه برحمته، وهو الذي أهّلهم لذلك لا بأعمالهم، ‏{‏وكفى باللّه عليماً‏}‏ أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق‏.‏

الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 74‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ‏.‏ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ‏.‏ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ‏.‏ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ‏}‏
يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعُدَدْ وتكثير العدد بالنفير في سبيل اللّه، ‏{‏ثباتٍ‏}‏ أي جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، والثبات‏:‏ جمع ثبة وقد تجمع الثبة على ثبين، قال ابن عباس‏:‏ يعني سرايا متفرقين ‏{‏أو انفروا جميعاً‏}‏ يعني كلكم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏}‏ قال مجاهد نزلت في المنافقين ليبطئن أي ليتخلفن عن الجهاد، ويحتمل أن يكون المراد أن يتباطأ هو في نفسه، ويبطىء غيره عن الجهاد، كما كان عبد اللّه بن أبي بن سلول قبحه اللّه يفعل، يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن الخروج فيه، وهذا قول ابن جريج وابن جرير، ولهذا قال تعالى إخباراً عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد ‏{‏فإن أصابتكم مصيبة‏}‏ أي قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما للّه في ذلك من الحكمة ‏{‏قال قد أنعم اللّه عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً‏}‏ أي إذا لم أحضر معهم وقعة القتال، يعد ذلك من نعم اللّه عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل، ‏{‏ولئن أصابكم فضل من اللّه‏}‏ أي نصر وظفر وغنيمة ‏{‏ليقولن كأن لم تكن بينك وبينه مودة‏}‏ أي كأنه ليس من أهل دينكم ‏{‏يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً‏}‏ أي بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه، وهو أكبر قصده وغاية مراده، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فليقاتل‏}‏ أي المؤمن النافر ‏{‏في سبيل اللّه الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ أي بيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم‏.‏
ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقاتل في سبيل اللّه فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ أي كل من قاتل في سبيل اللّه سواء قتل أو غلب فله عند اللّه مثوبة عظيمة وأجر عظيم، كما ثبت في الصحيحين وتكفل اللّه للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة‏.‏

الآية رقم ‏(‏75 ‏:‏ 76‏)‏
‏{‏ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ‏.‏ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ‏}‏
يحرّض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية‏}‏ يعني مكة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك‏}
‏ ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا‏}‏ أي سخر لنا من عندك ولياً وناصراً‏.‏ قال البخاري عن عبيد اللّه، قال، سمعت ابن عباس قال‏:‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا يقاتلون في سبيل اللّه والذي كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif

الآية رقم ‏(‏77 ‏:‏ 79‏)‏
‏{‏ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ‏.‏ أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ‏.‏ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ‏}‏
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذا ذاك مناسباً لأسباب كثيرة‏:‏ منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار منعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه، جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفاً شديداً‏:‏ ‏{‏وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏}‏ أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأَيَّمَ النساء، وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال‏}‏ الآيات‏.‏ عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة فقالوا يا نبي اللّه‏:‏ كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلة قال‏:‏ ‏(‏إني أمرت بالعفوا فلا تقاتلوا القوم‏)‏ فلما حوله اللّه إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا ايديكم‏}
"‏رواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم‏"‏الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا اللّه أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال ‏{‏إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية اللّه أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏}‏ وهو الموت، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى‏}‏ أي آخرة المتقي خير من دنياه ‏{‏ولا تظلمون فتيلاً‏}‏ أي من أعمالكم، بل توفونها أتم الجزاء، وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الآخرة وتحريض لهم على الجهاد، وقال ابن أبي حاتم عن هشام قال‏:‏ قرأ الحسن ‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏}‏ قال‏:‏ رحم اللّه عبداً صحبها على حسب ذلك وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه‏.‏ وقال ابن معين‏:‏ كان أبو مصهر ينشد‏:‏
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له * من اللّه في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها * متاع قليل والزوال قريب
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجوا منه أحد منكم كما قال تعالى‏:‏ {‏كل من عليها فان‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏، وقال تعالى‏:‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد‏}
والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلاً محتوماً، ومقاماً مقسوماً، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه‏:‏ لقد شهدت كذا وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنه أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ أي حصينة منيعة عالية رفيعة، أي لا يغني حذر وتحصن من الموت كما قال زهير بن أبي سلمى‏:‏
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أسباب السماء بسُلَّم
ثم قيل‏:‏ المُشَيَّدة هي المُشَيَّدة كما قال وقصر مشيد وقيل‏:‏ بل بينهما فرق وهو أن المشيّدة بالتشديد هي المطولة، وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم حسنة‏}‏ أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك، وهذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي ‏{‏يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيئة‏}‏ أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك ‏{‏يقولوا هذه من عندك‏}‏ أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك، كما قال تعالى عن قوم فرعون‏:‏ {‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏} وكما قال تعالى‏:‏
{‏ومن الناس من يعبد اللّه على حرف‏}
‏ الآية‏.‏ وهكذا قال هؤلاء المنافقون، الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كارهون له في نفس الأمر، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى أتباعهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال السدي ‏{‏وإن تصبهم حسنة‏}‏ قال، والحسنة‏:‏ الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان، قالوا‏:‏ ‏{‏هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيئة‏}‏ والسيئة‏:‏ الجدب والضرر في أموالهم تشاءموا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وقالوا‏:‏ ‏{‏هذه من عندك‏}‏ يقولون بتركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏قل كل من عند اللّه‏}‏ فقوله‏:‏ قل كل من عند اللّه أي الجميع بقضاء اللّه وقدره، وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏قل كل من عند اللّه‏}‏ أي الحسنة والسيئة وكذا قال الحسن البصري‏.‏ ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب، وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم ‏{‏فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏‏؟‏
ثم قال تعالى مخاطباً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن اللّه‏}‏ أي من فضل اللّه ومنِّه ولطفه ورحمته، ‏{‏وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ أي فمن قبلك، ومن عملك أنت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‏}‏ قال السدي‏:‏ ‏{‏فمن نفسك‏}‏ أي بذنبك، وقال قتادة في الآية‏:‏ ‏{‏فمن نفسك‏}‏ عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك، قال‏:‏ وذكر لنا
أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو اللّه أكثر‏)‏، وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلاً في الصحيح،(‏والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن، ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر اللّه عنه بها من خطاياه‏(‏، وقال أبو صالح ‏{‏وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك وراه ابن جرير‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناك للناس رسولاً‏}‏ أي تبلغهم شرائع اللّه وما يحبه اللّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه ‏{‏وكفى باللّه شهيداً‏}‏ أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضاً بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفراً وعناداً‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 02:30 AM

الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 81‏)‏
{‏ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ‏.‏ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ‏}‏
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع اللّه، ومن عصاه فقد عصى اللّه، وما ذاك إلا لأنه{‏ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى‏}
قال ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاني فقد عصى اللّه ؛ ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني‏)‏"‏الحديث ثابت في الصحيحين‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏ أي ما عليك منه، إن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء كما جاء في الحديث‏:‏ ‏
(‏من يطع اللّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ اللّه ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون طاعة‏}‏ يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة ‏{‏فإذا برزوا من عندك‏}‏ أي خرجوا وتواروا عنك ‏{‏بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول‏}‏ أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يكتب ما يبيّتون‏}‏ أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولن آمنا باللّه وبالرسول وأطعنا‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضاً، ‏{‏وتوكل على اللّه وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي كفى به ولياً وناصراً ومعيناً لمن توكل عليه وأناب إليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏82 ‏:‏ 83‏)‏
{‏ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ‏.‏ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ‏}‏
يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن ناهياً لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبراً لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى‏:‏{‏أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولو كان من عند غير اللّه‏}‏ أي لو كان مفتعلاً مختلقاً، كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافاً، أي اضطراباً وتضاداً كثيراً، وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند اللّه، كما قال تعالى مخبراً عن الراسخين في العلم حيث قالوا‏:‏ ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏} أي محكمة ومتشابهه حق، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا، ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين‏.‏ قال الإمام أحمد عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال لهم‏:‏ ‏(‏ما لكم تضربون كتاب اللّه بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم‏)،وعن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ هجّرت إلى رسول اللّه يوماً، فإنّا لجلوس إذا اختلف اثنان في آية فارتفعت أصواتهما فقال‏:‏ ‏(‏إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب‏)
‏"‏رواه مسلم والنسائي‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏}‏ إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه
عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع‏)‏ وفي الصحيح‏:‏(‏من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين‏)ولنذكر ههنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى اللّه عليه وسلم فاستفهمه، أطلقت نساءك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ فقلت‏:‏ اللّه أكبر وذكر الحديث بطوله‏.‏ وعن مسلم فقلت‏:‏ أطلقتهن فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي‏:‏ لم يطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏، فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه، يقال‏:‏ استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها، وقوله‏:‏ ‏{‏لاتبعتم الشيطان إلا قليلا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني المؤمنين، وقال قتادة ‏{‏لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏ يعني‏:‏ كلكم واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح في مدح يزيد بن المهلب‏:‏
أشم، نديّ، كثير النوادي * قليل المثالب، والقادحة
يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif

الآية رقم ‏(‏84 ‏:‏ 87‏)‏
‏{‏ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ‏.‏ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا ‏.‏ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ‏.‏ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ‏}‏
يأمر تعالى عبده ورسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فلا عليه منه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا تكلف إلا نفسك‏} عن أبي إسحاق قال، قلت للبراء‏:‏ الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة‏؟‏ قال‏:‏ لا إن اللّه بعث برسوله صلى اللّه عليه وسلم قولا‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل اللّه لا تكلف إلا نفسك‏}‏ إنما فذلك في النفقة
‏"‏رواه أحمد وابن أبي حاتم‏"‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏حرض المؤمنين‏}‏ أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه، كما قال لهم صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف‏:
‏(‏قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض‏)‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏من آمن باللّه ورسوله، وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان، كان حقاً على اللّه أن يدخله الجنة هاجر في سبيل اللّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه أفلا نبشر الناس بذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه بين كل درجتين كما بين السماء والأرض؛ فإذا سألتم اللّه فاسأوله الفردوس فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة؛ وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى اللّه أن يكف بأس الذين كفروا‏}‏ أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه أشد بأساً وأشد تنكيلاً‏}‏ أي هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{‏ذلك ولو يشاء اللّه لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض‏} الآية، وقوله ‏{‏من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها‏}‏ أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك، ‏{‏ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفر منها‏}‏ أي يكون علي وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اشفعوا تؤجروا؛ ويقضي اللّه على لسان نبيه ما شاء‏)
وقال مجاهد بن جبر‏:‏ نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض وقول‏:‏ ‏{‏وكان اللّه على كل شيء مقيتاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي حفيظاً، وقال مجاهد‏:‏ شهيداً، وفي رواية عنه حسيباً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ المقيت الرزاق، وعن عبد اللّه بن رواحة‏:‏ وسأله رجل عن قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وكان اللّه على كل شيء مقيتاً‏}‏ قال‏:‏ مقيت لكل إنسان بقدر عمله‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة،
قال ابن جرير عن سلمان الفارسي، قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول اللّه، فقال‏:‏ ‏(‏وعليك السلام ورحمة اللّه ‏)‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه ؛ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته‏)‏، ثم جاء آخر فقال‏:‏السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركات، فقال له‏:‏ ‏(‏وعليك‏)‏ فقال له الرجل‏:‏ يا نبي اللّه بأبي أنت وأمي‏:‏ أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهم أكثر مما رددت علي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنك لم تدع لنا شيئاً، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ فرددناها عليك‏)‏
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، إذا لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال الإمام أحمد عن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم يا رسول اللّه فرد عليه ثم جلس، فقال‏:‏ ‏(‏عشر‏)‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة اللّه يا رسول اللّه فرد عليه ثم جلس فقال ‏(‏عشرون‏)‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فرد عليه، ثم جلس فقال‏:‏ ‏(‏ثلاثون‏)‏ وقال ابن ابي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ من سلّم عليك من خلق اللّه فاردد عليه، وإن كان مجوسياً ذلك بأن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ وقال فأما أهل الذمة فلا يُبدأون بالسلام ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليكم فقل وعليك‏)وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه‏)‏، وقال الحسن البصري‏:‏ السلام تطوع والرد فريضة، وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة أن الرد واجب على من سلم عليه فيأثم إن لم يفعل، لأنه خالف أمر اللّه في قوله‏:‏ ‏{‏فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ وقد
جاء في الحديث الذي رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم‏؟‏ أفشوا السلام بينكم‏)‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو‏}‏ إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسماً لقوله‏:‏ ‏{‏ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏}‏ هذه الام موطئة للقسم فقوله تالله لا غله إلا هو خير وقسم أنه يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من اللّه حديثاً‏}‏ أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif

الآية رقم ‏(‏88 ‏:‏ 91‏)‏
‏{‏ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ‏.‏ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ‏.‏ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ‏.‏ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ‏}‏
يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمدعن زيد بن ثابت‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول‏:‏ نقتلهم، وفرقة تقول‏:‏ لا، هم المؤمنون فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏فما لهم في المنافقين فئتين‏}‏، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد‏)‏
"‏رواه الشيخان‏"‏وقد ذكر محمد بن إسحاق في وقعة أُحد‏:‏ أن عبد اللّه بن ابي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلثمائة وبقي النبي صلى اللّه عليه وسلم في سبعمائة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه أركسهم بما كسبوا‏}‏ أي ردهم وأوقعهم في الخطا، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أركسهم‏}‏ أي أوقعهم، وقال قتادة‏:‏ أهلكهم، وقال السدي‏:‏ أضلهم، وقوله‏:‏ ‏{‏بما كسبوا‏}‏ أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل ‏{‏أتريدون أن تهدوا من أضل اللّه ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً‏}‏ أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه، وقوله‏:‏ ‏{‏دوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء‏}‏ أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل اللّه فإن تولوا‏}‏ أي تركوا الهجرة قاله ابن عباس، وقال السدي‏:‏ أظهروا كفرهم ‏{‏فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيرا‏}‏، أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء اللّه ما داموا كذلك ثم استثنى اللّه من هؤلاء فقال‏:‏ ‏{‏إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم، وهذا قول السدي وابن جرير‏.‏
وقد روى ابن أبي حاتم
عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي قال‏:‏ لما ظهر النبي صلى اللّه عليه وسلم على أهل بدر وأُحد وأسلم من حولهم، قال سراقة بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته، فقلت‏:‏ أنشدك النعمة، فقالوا صه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏دعوه، ما تريد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال‏:‏ ‏(‏اذهب معه فافعل ما يريد‏)‏، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء‏}‏ وقد روي عن ابن عباس أنه قال نسخها قوله‏:‏ {‏فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏أو جاؤوكم حصرت صدورهم‏}‏ هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصرة صدورهم أي ضيقة صدورهم، مبغضين أن يقاتلوكم ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم ‏{‏ولو شاء اللّه لسلطهم عليكم فلقاتلوكم‏}‏ أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم ‏{‏فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقو إليكم السلم‏}‏ أي المسالمة ‏{‏فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلاً‏}‏ أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم‏}‏ الآية، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون، يظهرون للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم‏}‏ الآية، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏كلما رُدّوا إلى الفتنة أركسوا فيها‏}‏ أي انهمكوا فيها، وقال السدي‏:‏ الفتنة ههنا الشرك، وحكى ابن جرير عن مجاهد‏:‏ أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم‏}‏ المهادنة والصلح ‏{‏ويكفوا أيديهم‏}‏ أي عن القتال ‏{‏فخذوهم‏}‏ أسراء ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ أي أين لقيتموهم ‏{‏وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً‏}‏ أي بيناً واضحاً‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 02:45 AM

الآية رقم ‏(‏92 ‏:‏ 93‏)‏
‏{‏ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ‏.‏ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه، وأني رسول اللّه، إلا بأحدى ثلاث‏:‏ النفس بالنفس، والثب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)
‏، ثم إذا وقع شي من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا خطا‏}‏ قالوا‏:‏ هو استثناء منقطع كقول الشاعر‏:‏
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ * على الأرض إلا ريط بردٍ مرحّل
واختلف في

سبب نزول هذه، فقال مجاهد‏:‏ نزلت في عياش بن أبي ربيعة وذلك أنه قتل رجلاً يعذبه مع أخيه على الإسلام، وهو الحارث بن يزيد الغامدي فأسلم ذلك الرجل وهاجر، وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ قال ابن اسلم‏:‏ نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلاُ وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه، فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ إنما قالها متعوذاً، فقال له‏:‏ هل شققت عن قلبه‏؟‏وهذه القصة في الصحيح لغير أبو الدرداء‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏، هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما‏:‏ الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطا، ومن شروطها أن تكون عتق ‏{‏رقبة مؤمنة‏}‏ فلا تجزىء الكافرة، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد
عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم‏:‏ أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏أين اللّه ‏)‏ قالت‏:‏ في السماء، قال‏:‏ ‏(‏من أنا‏)‏ قالت‏:‏ رسول اللّه قال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏) وقوله‏:‏ ‏{‏ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم، وهذه الدية إنما تجب أخماساً كما رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود، قال‏:‏ قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دية الخطا عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة وإنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله، قال الشافعي رحمه اللّه ‏:‏ لم أعلم مخالفاً أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهو أكثر من حديث الخاصة، وهذا الذي اشار إليه رحمه اللّه قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت أحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها‏)وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطا المحض في وجوب الدية، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثاً لشبهة العمد‏.‏
وفي صحيح البخاري
عن عبد اللّه بن عمر، قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون‏:‏ صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرفع يديه، وقال‏:‏ ‏(‏اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد‏)‏ وبعث عليا فودى قتلاهم، وما أتلف من أمولاهم حتى مليغة الكلب، وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطا الإمام أو نائبه يكون في بيت المال، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يصدقوا‏}‏ أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ أي إذا كان القتيل مؤمناً، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير‏.‏
وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ الآية أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمناً فيدة كاملة وكذا إن كان كافراُ أيضاً عند طائفة من العلماء، وقيل‏:‏ يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل‏:‏ ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام، ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة، ‏{‏فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏}‏ أي لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف، واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين، وقول‏:‏ ‏{‏توبة من اللّه وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ أي هذه توبة القاتل خطا إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام، هل يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ نعم، كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر ههنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص، والقول الثاني‏:‏ لا يعدل إلى الطعام لأنه لو كان واجباً لما أخر بيانه عن وقت الحاجة ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ قد تقدم تفسيره غير مرة، ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بينا حكم القتل العمد، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ الآية، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك باللّه في غير ما آية في كتاب اللّه، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان‏:‏
{‏والذين لا يدعون من اللّه إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا‏}
الآية‏.‏
والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً فمن ذلك ما
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء‏)‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏لزوال الدنيا أهون عند اللّه من قتل رجل مسلم‏)‏، وفي الحديث الآخر‏: ‏(‏لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم اللّه في النار‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه ‏)‏، وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً، وقال البخاري عن المغيرة بن النعمان قال‏:‏ سمعت بان جبير قال‏:‏ اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسالته عنها فقال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏}‏ هي آخر ما نزل وما نسخها شيء‏.‏ وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر‏}‏ إلى آخرها قال‏:‏ نزلت في أهل الشرك‏.‏ وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏}‏ قال‏:‏ إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم لا توبة له فذكرت ذلك لمجاهد فقال‏:‏ إلا من ندم،وروى سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ كنا عند ابن عباس بعدما كُفَّ بصره فأتاه رجل فناداه‏:‏ يا عبد اللّه بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً‏؟‏ فقال‏:‏ جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، قال‏:‏ افرأيت إن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى‏؟‏ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً، جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول‏:‏ يا رب سل هذا فيم قتلني‏(‏، وإيم الذي نفس عبد اللّه بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى اللّه عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان
‏"‏أخرجه ابن جرير عن سالم بن أبي الجعد‏"‏
وعن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذاً راسه بيده الأخرى، فيقول‏:‏ يا رب سل هذا فيم قتلني‏؟‏ قال، فيقول‏:‏ قتلته لتكون العزة لك، فيقول‏:‏ فإنها لي، قال‏:‏ ويجيء آخر متعلقاً بقاتله، فيقول‏:‏ رب سل هذا فيم قتلني‏؟‏ قال، فيقول‏:‏ قتلته لتكون العزة لفلان قال‏:‏ فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال فيهوي في النار سبعين خريفاً‏)‏ ‏
"‏رواه أحمد والنسائي‏.‏ ومعنى بؤ أي ارجع بإثمه‏"‏
حديث آخر ‏:‏
قال الإمام أحمد عن أبي إدريس، قال‏:‏ سمعت معاوية رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمداً‏)والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها‏:‏ أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب، وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوَّض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله أله آخر - إلى قوله ‏:‏ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً
‏}‏ الآية وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه‏}‏ الآية، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب تاب اللّه عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء واللّه أعلم‏.‏ وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالماً هل لي من توبة فقال‏:‏ ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏ ثم أرشده إلى بلد يعبد اللّه فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة‏.‏ وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الامة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن اللّه وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة، فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف، هذا جزاؤه إن جازاه، وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي اصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، واللّه أعلم بالصواب‏.‏ وبتقدير دخول القاتل في النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها أبداً، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏
‏(‏أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان‏)
‏، وأما حديث معاوية‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمداً‏)‏ فعسى للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لانتفى وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل، لما ذكرنا من الأدلة‏.‏
وأما من مات كافرا فالنص أن اللّه لا يغفر له البتة، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض اللّه المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها نحو ذلك واللّه أعلم‏.‏
ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة، فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا‏}
الآية، ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة - أثلاثاً - ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، كما هو مقرر في كتاب الأحكام، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ على قولين‏:‏ فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون‏:‏ نعم يجب عليه، لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمن الغموس، وقال أصحاب الإمام أحمد وآخرون‏:‏ قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس، وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد
عن واثلة بن الأسقع قال‏:‏ أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا‏:‏ إن صاحباً لنا قد أوجب، قال‏:‏ ‏(‏فليعتق رقبة يفدي اللّه بكل عضو منها عضواً منه من النار‏)‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏94‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏
روى أحمد عن ابن عباس قال‏:‏ مر رجل من بني سليم بنفر من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا‏:‏ لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، واتو بغنمه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ إلى آخرها"‏رواه أحمد والترمذي والحاكم‏"‏وقال البخاري عن عطاء عن ابن عباس ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا‏}‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل اللّه في ذلك‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناْ قال ابن عباس‏:‏ عرض الدنيا تلك الغنيمة وقرأ ابن عباس السلام، وقال الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية فيه المقداد بن الاسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير ولم يبرح فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه وأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه‏:‏ أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا اللّه ‏؟‏ واللّه لأذكرن ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا رسول اللّه إن رجلاً شهد أن لا إله إلا اللّه فقتله المقداد فقال‏:‏ ‏(‏ادعوا لي المقداد، يا مقداد أقتلت رجلاً يقول لا إله إلا اللّه ‏؟‏ فكيف لك بلا إله إلا اللّه غداً‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند اللّه مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن اللّه عليكم فتبينوا‏}‏، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمقداد‏:‏ ‏(‏كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل‏)‏
‏"‏أخرجه الحافظ البزار من حديث ابن عباس‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه مغانم كثيرة‏}‏ أي خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فما عند اللّه من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا‏.‏
وقوله تعالى ‏{‏كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم‏}‏ أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض‏}‏ الآية‏.‏ عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ لم تكونوا مؤمنين، ‏{‏فمنَّ اللّه عليكم‏}‏ أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول لا إله إلا اللّه بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه، وقوله ‏{‏فتبينوا‏}‏ تأكيد لما تقدم، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ هذا تهديد ووعيد‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 03:03 AM

الآية رقم ‏(‏95 ‏:‏96‏)‏
{‏ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ‏.‏ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما‏}‏
قال البخاري عن البراء قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل اللّه ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وقال البخاري أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي‏:‏ أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد قال‏:‏ فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أملي عليَّ‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه‏}‏، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ قال‏:‏ يا رسول اللّه ‏:‏ والله لو استطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل اللّه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي ثم سري عنه فأنزل اللّه ‏:‏ ‏
{‏غير أولي الضرر‏}‏
وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نزلت غزوة بدر قال عبد اللّه بن جحش وابن أم مكتوم‏:‏ إنا أعميان يا رسول اللّه فهل لنا رخصة‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر ‏{‏وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه‏}‏ على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر
‏.‏ فقوله ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ كان مطلقاً فلما نزل بوحي سريع ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرض عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم‏.‏
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري
عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير وقال قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا‏:‏ وهم بالمدينة يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ نعم حبسهم العذر‏)‏ وفي رواية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف يكونون معنا فيه يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم حبسهم العذر‏)‏
قال الشاعر في هذا المعنى‏:‏
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد * سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر * ومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلاً وعد اللّه الحسنى‏}‏ أي الجنة والجزاء الجزيل، وفيه دلالة على ان الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً‏}‏ ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنات العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات، إحساناً منه وتكريماً ولهذا قال‏:‏ ‏{‏درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اللّه غفوراً رحيماً‏}‏‏.
وقد ثبت في الصحيحين
عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض‏)‏

الآية رقم ‏(‏97 ‏:‏ 100‏)
‏{‏ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ‏.‏ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ‏.‏ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ‏.‏ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ‏}‏
عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏} ‏"‏رواه البخاري‏"‏وقال ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، قال المسلمون‏:‏ كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ الآية، قال‏:‏ فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم‏.‏ قال‏:‏ فخرجوا فلقيهم المشركون فأعطوهم التقية فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا باللّه‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏الآية، قال الضحاك‏:‏ نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ أي بترك الهجرة ‏{‏قالوا فيم كنتم‏}‏ أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة‏؟‏ ‏{‏قالوا كنا مستضعفين في الأرض‏}‏ أي لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض ‏{‏قالوا ألم تكن أرض اللّه واسعة‏}‏ الآية، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله‏)‏
"‏أخرجه أبو داود في السنن‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين‏}‏ إلى آخر الآية، هذا عذر من اللّه لهؤلاء في ترك الهجرة وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني طريقاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم‏}‏ أي يتجاوز اللّه عنهم بترك الهجرة، و عسى من اللّه موجبة ‏{‏وكان اللّه عفواً غفوراً‏}‏
قال البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال‏:‏ سمع اللّه لمن حمده؛ ثم قال قبل أن يسجد‏:‏ ‏(‏اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف‏}‏، وقال البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين‏}‏ قال‏:‏
كنت أنا وأمي ممن عذر اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏ وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، والمراغم مصدر تقول العرب‏:‏ راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة، قال النابغة ابن جعدة‏:‏
كطود يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس‏:‏ المراغم التحول من أرض إلى أرض، وقال مجاهد ‏{‏مراغماً كثيراً‏}‏ يعني‏:‏ متزحزحاً عما يكره، والظاهر واللّه أعلم أنه المنع الذي يتخلص به ويراغم به الأعداء، قوله‏:‏ ‏{‏وسعة‏}‏ يعني الرزق قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال في قوله ‏{‏يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏ أي من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه‏}‏ أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند اللّه ثواب من هاجر كما
ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال، ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعا وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً هل له من توبة، فقال له‏:‏ ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد اللّه فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء‏:‏ إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فأمر اللّه هذه أن تقترب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة‏
.‏
قال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عتيك قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من خرج من بيته مجاهداً في سبيل اللّه، فخرَّ عن دابته فقد وقع أجره على اللّه، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على اللّه، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على اللّه ‏)‏
وقال ابن ابي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال‏:‏ خرج ضمرة بن جندب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية، وقال الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل اللّه فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة‏)


الآية رقم ‏(‏101‏)
‏{‏ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض‏}‏ أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلوا بها على

قصر الصلاة في السفرعلى اختلافهم في ذلك فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة‏:‏ من جهاد، أو حج أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة، أو غير ذلك‏.‏
ومن قائل لا يشترط سفر القربة، بل لا بد أن كون مباحاً لقوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم‏}‏ الآية، كما أباح له تناول الميتة مع الإضطرار بشرط أن لا يكون عاصياً بسفره، وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة، ومن قائل‏:‏ يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزل هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى‏:‏
{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً‏}وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم‏}‏‏.‏ وقال الإمام أحمد عن يعلى بن أُمية قال‏:‏ سألت عمر بن الخطاب قلت له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ وقد أمن الناس، فقال لي عمر رضي اللّه عنه‏:‏ عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول اللّه عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته‏)وعن أبي حنظلة الحذاء قال‏:‏ سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال‏:‏ ركعتان، فقلت أين قوله‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ ونحن آمنون، فقال‏:‏ سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم"‏أخرجه ابن أبي شيبة‏"‏وقال ابن مردويه عن أبي الوداك قال‏:‏ سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال‏:‏ هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوهما‏.‏ وقال أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال‏:‏ صلينا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنوا لا نخاف بينهم ركعتين ركعتين‏.‏ وقال البخاري عن أنس يقول خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت‏:‏ أقمتم بمكة شيئاً قال‏:‏ أقمنا بها عشراً‏.‏ وقال البخاري عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين وابي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته ثم أتمها،وحدثنا إبراهيم قال‏:‏ سمعت عبد اللّه بن يزيد يقول‏:‏ صلى بنا عثمان بن عفان رضي اللّه عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه فاسترجع، ثم قال‏:‏ صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ابن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان
"‏أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري‏"‏‏.‏
فهذه الأحاديث دالة صريحاً على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضاً بما رواه الإمام مالك عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت‏:‏ فرضت ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر؛ وزيد في صلاة الحضر، قالوا‏:‏ فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد عن عمر رضي اللّه عنه قال‏:‏ صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم، زاد مسلم والنسائي عن عبد اللّه بن عابس قال‏:‏ فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى اللّه عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر‏.‏ فهذا ثابت عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي اللّه عنها لأنها أخبرت أن اصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر، فلما استقر ذلك صح أن يقال‏:‏ إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس واللّه أعلم لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي اللّه عنه، وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ قصر الكيفية كما في صلاة الخوف، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ الآية، ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ الآية، فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدَّره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الارض فليس علكيم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ يوم كان النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم، وسجودهم، وقيامهم معاً جميعاً، فهمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم واثقالهم‏.‏
وقال ابن جرير عن أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد قال لعبد اللّه بن عمر‏:‏ إنا نجد في كتاب اللّه قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبد اللّه‏:‏ إنا وجدنا نبينا صلى اللّه عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة بفعل الشارع لا بنص القرآن، واصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضاً عن سماك الحنفي قال‏:‏ سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال‏:‏ ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت‏:‏ وما صلاة المخافة‏؟‏ فقال‏:‏ يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلي بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 03:50 AM

آية رقم ‏(‏102‏)‏
{‏ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ‏}‏
صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثة كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة غير مستقبليها ورجالاً وركباناً، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم وبه قال أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدى تومىء بها إيماء‏.‏ فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر اللّه‏.‏ ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة كما أخر النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بين قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون‏:‏ لم يرد منا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا تعجيل المسير ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحداً من الفريقين‏.‏ وأما الجمهور فقالوا‏:‏ هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك‏.‏ فقوله تعالى‏:‏
‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ أي إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعتة - كما دل عليه الحديث - فرادى ورجالا وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الإجتماع والائتمام بإمام واحد وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ فبعده تفوت هذه الصفة فإنه استدلال ضعيف، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ قالوا‏:‏ فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى اللّه عليه وسلم إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيديدنا معلى من نراه، ولا ندفعها إلى إلى صلاته أي دعاؤه سكن لنا، ومع هذا رد عليهم الصحابة وابوا عليهم هذا الاستدلال وأجبروهم على أداء الزكاة وقاتلوا من منعها منهم‏.‏
ولنذكر سبب نزل هذه الآية الكريمة
أولاً قبل ذكر صفتها قال ابن جرير عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ سال قوم من بني النجار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي‏؟‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ثم انقطع الوحي، فلما كان كذلك بحول غزا النبي صلى اللّه عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاَّ شددتم عليهم‏؟‏ فقال قائل منهم‏:‏ إن لهم أخرى مثلها في أثرها قال‏:‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ بين الصلاتين ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ الآيتين فنزلت صلاة الخوف‏.وعن أبي عياش الزرقي قال‏:‏ منا مع رسول الله
ّ صلى اللّه عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر فقالوا‏:‏ لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا‏:‏ يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال‏:‏ فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر العصر ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ قال‏:‏ فحضرت فأمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذوا السلاح قال‏:‏ فصفنا خلفه صفين قال‏:‏ ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعاً ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف قال‏:‏ فصلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم
‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"
وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد اللّه قال‏ :‏ قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محارب خصفة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسيف فقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الله‏)‏ فسقط السيف من يده فأخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ومن يمنعك مني‏)‏ قال‏:‏ كن خير آخذ قال‏:‏ ‏(‏أتشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ لا، وكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله، فقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس، فلما حضرت الصلاة صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف فكان الناس طائفتين، طائفة بإزاء العدو‏.‏ وطائفة صلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين فكان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين ‏"‏تفرد به الإمام أحمد‏"‏وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعو أسلحتكم وخذوا حذركم‏}‏ أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة ‏{‏إن اللّه أعد للكافرين عذاباً مهينا‏}‏‏.
‏ الآية رقم ‏(‏103 ‏:‏104‏)‏ ‏
{‏ فإذا قضي تم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ‏.‏ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ‏}‏
يأمر اللّه تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخ وف وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بعد غيرها ولكن ها هنا آكد، لما وقع فيها من التخفيف في اركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى في الأشهر الحرام‏:‏ ‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ وإن كان منهياًعنه في غيرها، ولكن فيه آكد لشدة حرمتها وعظمها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏}‏ أي في سائر أحوالكم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فإذا أمنتم وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركعوعها، وسجودها، وجميع شؤونها وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي مفروضاً، وقال ابن مسعود‏:‏ إن للصلاة وقتاً كوقت الحج، وقال زيد بن أسلم‏:‏ منجماً كلما مضى نجم جاء نجم، يعني كلما مضى وقت جاء وقت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم‏}‏ أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدّوا فيهم، وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد ‏{‏إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون‏}‏ أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وترجون من اللّه ما لا يرجون‏}‏ أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من اللّه المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة اللّه وإعلائها ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيما‏}‏ أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال‏.‏
الآية رقم ‏(‏105 ‏:‏ 109‏)‏ ‏
{‏ إنا أنزل نا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ‏.‏ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ‏.‏ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ‏.‏ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ‏}
يقول تعالى مخاطباً لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ أي هو حق من اللّه وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، وقوله‏:‏ ‏{‏لتحكم بين الناس بما اراك اللّه‏}‏ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى اللّه عليه وسلم له أن يحكم بالإجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال‏:‏ ‏(‏ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها‏)‏ وقال الإمام أحمد عن أم سلمة قالت‏:‏ جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بيِّنه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة‏)‏ فبكى الرجلان وقال كل منهما‏:‏ حقي لأخي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه‏) وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ أن نفراً
من الأنصار غزوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته‏:‏ إني غيَّبتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلاً فقالوا‏:‏ يا نبي اللّه إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى للذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه‏}‏ يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب، ثم قال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏ يعني السارق والذين جادلوا عن السارق‏.
وقد روى هذه القصة الترمذي وابن جرير عن قتادة
بن النعمان رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان أهل بيت منا يقال لهم بنوا أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم يمحله لبعض العرب، ثم يقول‏:‏ قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك الشعر قالوا‏:‏ واللّه ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث - أو كما قال الرجل - وقالوا‏:‏ ابن الأبيرق قالها، قالوا‏:‏ وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة المكارون الذين ينقلون التجارة من بلد إلى بلد من الشام من الدرمك الدقيق الابيض ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح‏.‏ فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنان فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا‏:‏ قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال‏:‏ وكان بنوا أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - واللّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه، وقال‏:‏ أنا أسرق‏!‏‏؟‏ واللّه ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينُنَّ هذه السرقة، قالو‏:‏ إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي‏:‏ يا ابن أخي لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت‏:‏ إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، أخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏ سآمر في ذلك‏)‏ فلما سمع بذلك بنوا ابيرق أتو رجلاً منها يقال له اسيد بن عروة فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينه ولا ثبت، قال قتادة‏:‏ فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فلكلمته فقال‏:‏ ‏(‏عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة‏)‏، قال‏:‏ فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ اللّه المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ يعني بين أبيرق ‏{‏واستغفر اللّه‏}‏ أي مما قلت لقتادة ‏{‏إن اللّه كان غفوراً رحيماً، ولا تجادل الذين يختانون أنفسهم - إلى قوله - رحيماً‏}‏ أي لو استغفروا اللّه لغفر لهم ‏{‏ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه - إلى قوله - إثماً مبيناً‏}‏ قوله للبيد‏:‏ ‏{‏ولولا فضل اللّه عليك ورحمته - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ فلما نزل القرآن أتى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة‏:‏ لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عمي أو عشي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح قال‏:‏ يا ابن أخي هي في سبيل اللّه فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً، إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت‏:‏ أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير
‏"‏رواه الترمذي وابن جرير من حديث قتادة بن النعمان‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه‏}‏ الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون اللّه بها مع أنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطاً‏}‏ تهديد لهم ووعيد، ثم قال تعالى‏:‏ وها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي اللّه تعالى الذي يعلم السر وأخفى‏؟‏ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم‏؟‏ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أم من يكون عليهم وكيلاً‏}

قلب الزهـــور 06-05-2014 04:18 AM

.‏ الآية رقم ‏(‏110 ‏:‏ 113‏)‏
‏{‏ ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ‏.‏ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ‏.‏ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ‏.‏ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما‏}
‏ يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه تاب عليه من أي ذنب كان ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أخبر اللّه عباده بعفوه وحلمه وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ‏{‏ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال ‏"‏أخرجه ابن جري عن ابن عباس‏"‏وقال ابن جرير قال عبد اللّه‏:‏ كان بنوا إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول منه شيئا قرضه بالمقراض، فقال رجل‏:‏ لقد آتى اللّه بني إسرائيل خيراً، فقال عبد اللّه رضي اللّه عنه‏:‏ ما آتاكم اللّه خير مما آتاهم جعل الماء لكم طهوراً، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ وقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئاً نفعني اللّه فيه بما شاء أن ينفعني منه، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر اللّه لذلك الذنب إلاغفر له ‏)‏وقرأ هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية، ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم‏}‏ ‏
"‏رواه أحمد‏"‏الآية‏.
‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ الآية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزرو وازرة وزر أخرى‏}‏ الآية، يعني أنه لا يغني أحد عن أحد، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ أي من علمه وحكمته، وعدله ورحمته كان ذلك، ثم قال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً‏}‏ الآية يعني كما اتهم بنو أبيرق‏:‏ بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون وقد كان بريئاً وهم الظلمة الخونة كما أطلع اللّه على ذلك رسوله صلى اللّه عليه وسلم ؛ ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل اللّه عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏ وقال الإمام ابن أبي حاتم عن قتادة بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏ يعني أسيد بن عروة وأصحابه يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا أنزل اللّه فصل القضية وجلاءها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال؛ وعصمته له؛ وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة؛ وهي السنة ‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ أي قبل نزول ذلك عليك كقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب‏}‏ إلى آخر السورة؛ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك‏}‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وكان فضل اللّه عليك عظيماً‏}‏‏.‏
الآية رقم ‏(‏114 ‏:‏ 115‏)‏
‏{‏ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ‏.‏ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم ‏}‏
يعني كلام الناس‏ ‏{‏إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏ } أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه عن أم حبيبة قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر اللّه عزَّ وجلَّ؛ أو أمر بمعروف؛ أو نهي عن منكر‏)‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً؛ أو يقول خيراً‏)‏، وقال الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة‏)‏ قالوا بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ ‏(‏إصلاح ذات البين‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏وفساد ذات البين هي الحالقة‏)‏ ورواه أبو داود والترمذي،
‏{‏ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات اللّه‏}‏ أي مخلصاً في ذلك محتسباً ثواب ذلك عند اللّه عزّ وجلَّ ‏{‏فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏
{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى‏}‏ أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم فصار في شق، والشرع في شق وذلك عن عمد منه، بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له، وقوله‏:‏ ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك‏.‏ ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي رحمه اللّه في الإحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقول‏:‏ ‏{‏نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً‏}‏ أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه علىذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏ الآية وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً‏}‏‏.‏
الآية رقم ‏(‏116 ‏:‏ 122‏)‏
{‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ‏.‏ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ‏.‏ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ‏.‏ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ‏.‏ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ‏.‏ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ‏}‏
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة وهي قوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك‏}‏ الآية، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة وقد روي الترمذي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالا بعيداً‏}‏ أي فقد سلك غير الطريق الحق وضل عن الهدى وبعد عن الصواب وأهلك نفسه، وخسرها في الدنيا والآخرة، فاتته سعادة الدنيا والآخرة وقوله‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏}‏، عن عائشة قالت‏:‏ أوثاناً، وقال ابن جرير عن الضحاك في الآية قال المشركون للملائكة‏:‏ بنات اللّه، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى، قال‏:‏ فاتخذوهن أبابا وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا، وقالوا‏:‏ هؤلاء يشبهن بنات اللّه الذي نعبده يعنون الملائكة وهذا التفسير شبيه بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ وقال ابن عباس ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثا‏}‏ قال‏:‏ عني موتى، وقال الحسن‏:‏ الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة، وإما حجر يابس، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً‏}‏ أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفسه الأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أعهد إليك يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان‏}‏ الآية، وقال تعالى إخباراً عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركني الذي ادعوا عبادتهم في الدنيا ‏{‏بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ وقول‏:‏
‏{‏لعنه اللّه‏}‏ أي طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره وقال‏:‏ ‏{‏لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً‏}‏ أي معيناً مقدراً معلوماً، قال قتادة من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ أي عن الحق ‏{‏ولأمنينهم‏}‏ أي أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فلّيبتكنَّ آذان الأنعام‏}‏ قال قتادة يعني تشقيقها وجعلها سمة، وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بذللك خصي الدواب، وقال الحسن البصري‏:‏ يعني بذلك الوشم، وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه، وفي لفظ، لعن اللّه من فعل ذلك‏.‏ وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لعن اللّه الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات النامصات‏:‏ ناتفات الزغب والشعر من الوجه، والمتنمصات‏:‏ اللواتي ينتف الشعر من وجوههن والمتفلجات المتفلجات‏:‏ اللواتي يبردن أطراف أسنانهن للتجميل للحسن المغيرات خلق اللّه عزَّ وجلَّ، ثم قال ألا ألعن من لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ يعني قوله‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد والضحاك
في قوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق اللّه‏}‏ يعني دين اللّه عزَّ وجلَّ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه‏}‏ على قول من جعل ذلك أمراً أي لا تبدلوا فطرة اللّه ودعوا النا على فطرتهم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء‏)‏‏؟‏ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قال اللّه عزّ وجلَّ‏:‏ إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم صرفتهم عن الهدى عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم‏)‏ ثم قال تعالى‏:‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ أي فقد خسر الدنيا والآخرة وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏ وهذا إخبار عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك، ولهذا قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلاغروراً‏}‏، كما قال تعالى مخبراً عن إبليس يوم المعاد‏:‏ ‏{‏وقال الشيطان لما قضي الأمر إن اللّه وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان - إلى قوله - وإن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي المستحسنون له فيما وعدهم ومنَّاهم ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة ‏{‏ولا يجدون عنها محيصاً‏}‏ أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهو عنها من المنكرات ‏{‏سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ أي بلا زوال ولا انتقال ‏{‏وعد اللّه حقاً‏}‏ أي هذا وعد من اللّه ووعد اللّه معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر وهو قوله ‏{‏حقاً‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من اللّه قيلاً‏}‏‏؟‏ أي لا أحد أصدق منه قولاً أي خبراً لا إله إلا هو ولا رب سواه وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏إن أصدق الحديث كلام اللّه، وخير الهدي هديُ محمد صلى اللّه عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، كل ضلالة في النار‏)
‏ الآية رقم ‏(‏123 ‏:‏ 126‏)‏ ‏
{‏ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ‏.‏ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ‏.‏ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب‏:‏ نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى باللّه منكم، وقال المسلمون‏:‏ نحن أولى باللّه منكم ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجْزّ بِهِ‏}‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه وهو محسن‏}
الآية، ثم أفلج اللّه حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان‏.‏ وكذا روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ في هذه الآية تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة‏:‏ كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل‏:‏ مثل ذلك، وقال أهل الإسلام‏:‏ لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب؛ ونبينا خاتم النبيين، وأمرتهم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى اللّه بينهم وقال‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ الآية؛ وخيِّر بين الأديان فقال‏:‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه وهو محسن‏}‏ إلى قوله‏:‏{‏واتخذ اللّه إبراهيم خليلاً‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ قالت العرب لن نُبعث ولن نُعذب؛ وقالت اليهود والنصارى‏:‏ {‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات‏}والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما قر في القلوب وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من اللّه برهان؛ ولهذا قال تعالى‏:‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني‏؟‏ بل العبرة بطاعة اللّه سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره؛ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏‏.‏ وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير
من الصحابة، قال الإمام أحمد بسنده أخبرت أن أبا بكر رضي اللّه عنه قال‏:‏ يا رسول اللّه كيف الفلاح بعد هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزبه‏}‏ فكل سوء عملناه جُزيناه به‏!‏ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏غفر اللّه لك يا ابا بكر ألست تمرض‏؟‏ ألست تنصب‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏فهو مما تجزون به‏)
وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الصديق قال‏:‏ كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيراً‏}‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏يا ابا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ‏)‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مالك يا أبا بكر‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، وأينا لم يعلم السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما أنت يا أبا بكر واصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة‏)‏ وقال ابن جرير‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر‏:‏ جاءت قاصمة الظهر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنما هي المصيبات في الدنيا‏)‏ حديث آخر قال سعيد بن منصور عن عائشة‏:‏ أن رجلا تلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقال‏:‏ إنا لنجزي بكل ما عملناه هلكنا إذاً فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه‏)‏ طريق أخرى قال ابن أبي حاتم عن عائشة قالت،

قلب الزهـــور 06-05-2014 04:43 AM


قلت يا رسول اللّه إني لأعلم أشد آية في القرآن فقال‏:‏ ‏(‏ما هي يا عائشة‏؟‏ قتل‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقال‏:‏ ‏(‏هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها‏)‏ وعن علي بن زيد عن ابنته أنها سألت عائشة عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏من يعلم سوءاً يجز به‏}‏ فقالت‏:‏ ما سألني أحد عن هذه الآية منه سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة هذه مبايعة اللّه للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة فيضعها في كمه فيفزع لها فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود والطيالسي‏"‏ حديث آخر ‏:‏ قال سعد بن منصور عن محمد بن قيس بن مخرمة‏:‏
أن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال لما نزلت{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها‏)‏ وهكذا رواه أحمد ورواه ابن جرير عن عبد اللّه بن إبراهيم سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ بكينا وحزنا وقلنا يا رسول اللّه ‏:‏ ما أبقت هذه الآمة من شيء قال‏:‏ ‏(‏أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر اللّه بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه‏)‏ حديث آخر ‏:‏ روى ابن مردويه عن ابن عباس
قال ‏:‏ قيل يا رسول اللّه ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشراً‏)‏ فهلك من غلب واحدته عشراته‏.‏ وقال ابن جرير عن الحسن {‏من يعمل سوءاً يجزبه‏}‏ قال‏:‏ الكافر ثم قرأ‏:‏{‏وهل نجازي إلا الكفور‏}‏، وقوله ‏{‏ولا يجد له من دون اللّه ولياً ولا نصيراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إلا أن يتوب فيتوب اللّه عليه رواه ابن ابي حاتم‏.‏ والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا اختيار ابن جرير واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‏}‏ الآية، لما ذكر الجزاء على السيئات ولأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو أجود له، وإما في الآخرة والعياذ باللّه من ذلك؛ ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصلاحة من عباده، ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير وهما في نواة التمرة والقطمير وهو اللفاقة التي على نوات التمرة، والثلاثة في القرآن‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وم أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للّه‏}‏‏؟‏ ايأخلص العمل لربه عز وجلَّ فعمل إيماناً واحتسابًا ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي اتبع في عمله ما شرعه اللّه له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لّه، والصواب أن يكون متابعاً للشرعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمن فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراؤون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين ‏{‏الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم‏}‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ والحنيف هو المائل عن الشرك قصداً أي تاركاً له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏
‏{‏واتخذ اللّه إبراهم خليلا ً‏}‏ وهذا من باب الترغيب في اتباعه، لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه كما وصفه به في قوله‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفَّى‏}‏ قال كثير من علماء السلف‏:‏ أي قام بجميع ما أمر به، وفّى كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُه بكلمات فأتمهن‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أبراهيم كان أمة قانتاً للّه حنيفاً ولم يك من المشركين‏}‏ الآية، وقال البخاري عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ‏:‏ ‏{‏وأتخذ اللّه إبراهيم خليلاً‏}‏ فقال رجل من القوم‏:‏ لقد قرت عين أم إبراهيم، وإنما سمي خليل اللّه لشدة محبته لربه عزّض وجلَّ لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها، ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال‏:‏ ‏(‏أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً ولكن صاحبكم خليل اللّه ‏)‏ وروى أبو بكر بن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ جلس ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول‏:‏ عجب إن اللّه اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله، وقال آخر‏:‏ ماذا بأعجب من أن اللّه كلم موسى تكليماً، وقال آخر‏:‏ فعيسى روح اللّه وكلمته، وقال آخر‏:‏ آدم اصطفاه اللّه، فخرج عليهم فسلم وقال‏:‏ ‏(‏قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل اللّه وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه اللّه، وهو كذلك، وكذلك محمد صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ألا وإني حبيب اللّه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح اللّه ويدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر‏)‏ وهذا حديث غريب ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها وعن إسحاق بن يسار قال‏:‏ لما اتخذ ابراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء، وهكذا جاء في صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسال عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته وقوله‏:‏ ‏{‏وكان اللّه بكل شيء محيطاً‏}‏ أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا اصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏127‏)‏ ‏
{‏ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ‏}‏
روى البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ ‏{‏ ويستفتونك في النساء قل اللّه يفتيكم فيهن - إلى قوله - وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ قالت عائشة‏:‏ هو الرجل تكون عنده اليتيمه هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية، وقال ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة‏:‏ ثم إن الناس استفتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية فيهن، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء قل اللّه يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب‏}‏ الآية، قالت‏:‏ والذي ذكر اللّه أنه يتلى عليه في الكتاب، الآية الأولى التي قال اللّه ‏:‏ ‏{‏وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ماطاب لكم من النساء‏}‏ وبهذا الإسناد عن عائشة قالت‏:‏ وقول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن‏.‏ والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره اللّه أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، إن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء فقد وسع اللّه عزَّ وجلَّ، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الأمر فنهاه اللّه عزَّ وجلَّ أن يعضلها عن الأزواج، خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن ابي طلحة عن ابن عباس في الآية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏في يتامى النساء‏}‏ كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم اللّه ذلك ونهى عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏لا تؤتونهنَّ ما كتب لهن‏}‏ فنهى اللّه عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه فقال‏:‏ ‏{‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ صغيراً أو كبيراً، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏ كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها وستأثر بها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير فإن اللّه كان به عليماً‏}‏ تهييجاً على فعل الخيرات وامتثالاً للأوامر، وأن اللّه عزَّ وجلَّ عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه‏.
الآية رقم ‏(‏128 ‏:‏ 130‏)‏ ‏
{‏ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏.‏ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ‏}‏
يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، فالحالة الأولى‏:‏ ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ أي من الفراق، وقوله‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏ أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق، ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها أبقاها على ذلك ذكر الرواية بذلك‏:‏ عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ خشيت سودة أن يطلقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه‏:‏ لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ‏"‏أخرجه الطيالسي والترمذي وقال‏:‏ حسن غريب‏"‏وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة‏.‏ وعن عروة عن عائشة، أنها قالت لها يا ابن أختي‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفضل بعضاً على بعض في مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا رسول اللّه يومي هذا لعائشة، فقبل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت عائشة، ففي ذلك أنزل اللّه ‏{‏وإن امراة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ‏"‏ورواه الحاكم وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏"‏ وروى ابن جرير عن عائشة‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ قالت‏:‏ هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ويكون لها صحبة فتقول‏:‏ لا تطلقني وأنت في حل من شأني، وفي رواية أخرى عن عائشة‏:‏ هو الرجل لها المرأتان إحداهما قد كبرت والآخرى دميمة وهو لا يستكثر منها فتقول‏:‏ لا تطلقني وأنت في حل من شأني‏.‏ وعن ابن سيرين قال‏:‏ جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة، فسأله آخر عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ثم قال مثل هذا فاسألوا، ثم قال‏:‏ هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال‏:‏ جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قوله اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها شوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما‏}‏ قال علي‏:‏ يكون الرجل عنده المرأة فتنبوا عيناه عنها من دمامته، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البيهقي عن الزهري أخبر

قلب الزهـــور 06-05-2014 05:11 AM

ني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار‏:‏ أن السنّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر اللّه فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه، صلح له ذلك وكان صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيب و سليمان الصلحَ الذي قاله اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق، فقال لها‏:‏ ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الاثرة وإن شئت فارقتك، فقالت‏:‏ لا بل استقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها
"‏أخرجه البهيقي وابن أبي حاتم‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏} قال ابن عباس‏:‏ يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية‏:‏ أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى اللّه عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي اللّه عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام، ولما كان الوفاق أحب إلى اللّه من الفراق قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏، بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة
عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ابغض الحلال إلى الله الطلاق‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك‏.‏ وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عبد اللّه بن يزيد عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏، يعني القلب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تميلوا كل الميل‏}‏ أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في اميل بالكلية ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ أي فتبقى هذه الأخرى معلقة، قال ابن عباس وآخرون‏:‏ معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان فمال إلى أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا فإن اللّه كان غفوراً رحيماً‏}‏ أي وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، وأتقيتم اللّه في جميع الأحوال غفر اللّه لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن اللّه كلاً من سعته وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ وهذه هي الحالة الثالثة‏:‏ وهي حالة الفراق‏:‏ وقد أخبر اللّه تعالى أنهما إذا تفرقا فإن اللّه يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه اللّه من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه، ‏{‏وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه‏.‏
الآية رقم ‏(‏131 ‏:‏ 134‏)‏ ‏
{‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ‏.‏ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ‏.‏ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ‏}‏
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم‏}‏ أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى اللّه عزّض وجلَّ بعبادته وحده لا شريك له، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فكفروا وتولوا واستغنى اللّه واللّه غني حميد‏}‏ أي غني عن عباده، ‏{‏حميد أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه، وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض الأرض وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء، وقوله‏:‏ ‏{‏إن يشا يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان اللّه على ذلك قديراً‏}‏ أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ ما أهون العباد على اللّه إذا أضاعوا أمره‏!‏‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على اللّه بعزيز‏}‏ أي وما هو عليه بممتنع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا فعند اللّه ثواب الدينا والآخرة‏}‏ أي يا من ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند اللّه ثواب الدنيا والآخرة وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة‏}‏ ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة، أي بيده هذا وهذا، فلا يقتصران قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو اللّه الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا، ولهذا قال‏:‏
‏{‏وكان اللّه سميعاً بصيراً‏}‏
الآية رقم ‏(‏135‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شهداء للّه‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وأقيموا الشهادة للّه‏}‏ أي أدوها ابتغاء وجه اللّه، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ أي أشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه لو عادت مضرته عليك، فإن اللّه سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏أو الوالدين والأقربين‏}‏ أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد الحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يكن غنياً أو فقيراً فاللّه أولى بهما‏}‏ أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، اللّه يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ومن هذا قول عبد اللّه بن رواحة لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهمم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال‏:‏ والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا‏:‏ بهذا قامت السموات والأرض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تلووا أو تعرضوا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ تلووا أن تحرفوا الشهادة وتغيروها، واللّي‏:‏ هو التحريف وتعمد الكذب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب‏}‏ الآية، والإعراض‏:‏ هو كتمان الشهادة وتركها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ون يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها‏)‏، ولهذا توعدهم اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أي وسيجازيكم بذلك‏.‏ 136 ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ‏}‏ يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة ‏{‏إهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي بصّرنا وزدنا هدى، وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي نزل على رسوله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن ‏{‏نزّل‏}‏ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، لهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر فقد ضل صلالاً بعيداً‏}‏ أي فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد‏.
الآية رقم ‏(‏137 ‏:‏ 140‏)‏ ‏
{‏ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ‏.‏ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ‏.‏ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ‏.‏ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ‏}
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع واستمر على ضلالة وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر اللّه له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ قال‏:‏ تمادوا على كفرهم حتى ماتوا‏.‏ وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ يستتاب المرتد ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً‏}‏ يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا، فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم ‏{‏إنما نحن معكم إنما نحن مستهزءون‏}‏ أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة، قال اللّه تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين ‏{‏أيبتغون عندهم العزة‏}‏ ثم أخبر اللّه تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب اللّه، والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم‏}‏، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات اللّه ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم في فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏ في المأثم كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر‏)‏ والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك، هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ الآية‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نَسَختْ هذه الآية التي في سورة الأنعام، يعني نسخ قوله‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏، لقوله‏:‏ ‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً‏}‏، أي كما أشركوهم في الكفر، كذلك يشارك اللّه بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً، ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين‏.‏
الآية رقم ‏(‏141‏)‏
‏{‏ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم وذهاب ملتهم، ‏{‏فإن كان لكم فتح من اللّه‏}‏ أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة‏:‏ ‏{‏قالوا ألم نكن معكم‏}‏‏؟‏ أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة، ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏‏:‏ أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أُحد، فإن الرسل تبتلي ثم يكون لها العاقبة، ‏{‏قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين‏}‏‏؟‏ أي ساعدناكم في الباطن وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم، وقال السدي‏:‏ نستحوذ عليكم‏:‏ نغلب عليكم، كقوله‏:‏ ‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ وهذا أيضاً تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاًؤ جاء رجل إلى علي بن ابي طالب فقال‏:‏ كيف هذه الآية ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏‏؟‏ فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ ادنه ادنه ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ قال ذاك يوم القيامة، وكذا روى السدي‏:‏ يعني يوم القيامة، وقال السدي ‏{‏سبيلاً‏}‏ أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً أي في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم - إلى قوله - نادمين‏}‏، وقد استدل كثير من العلاماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافرين لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}

قلب الزهـــور 06-05-2014 05:14 AM

ني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار‏:‏ أن السنّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر اللّه فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه، صلح له ذلك وكان صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيب و سليمان الصلحَ الذي قاله اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق، فقال لها‏:‏ ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الاثرة وإن شئت فارقتك، فقالت‏:‏ لا بل استقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها
"‏أخرجه البهيقي وابن أبي حاتم‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏} قال ابن عباس‏:‏ يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية‏:‏ أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى اللّه عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي اللّه عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام، ولما كان الوفاق أحب إلى اللّه من الفراق قال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏، بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة
عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ابغض الحلال إلى الله الطلاق‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك‏.‏ وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عبد اللّه بن يزيد عن عائشة، قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏)‏، يعني القلب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تميلوا كل الميل‏}‏ أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في اميل بالكلية ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ أي فتبقى هذه الأخرى معلقة، قال ابن عباس وآخرون‏:‏ معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان فمال إلى أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا فإن اللّه كان غفوراً رحيماً‏}‏ أي وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، وأتقيتم اللّه في جميع الأحوال غفر اللّه لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن اللّه كلاً من سعته وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ وهذه هي الحالة الثالثة‏:‏ وهي حالة الفراق‏:‏ وقد أخبر اللّه تعالى أنهما إذا تفرقا فإن اللّه يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه اللّه من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه، ‏{‏وكان اللّه واسعاً حكيما‏}‏ أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه‏.‏
الآية رقم ‏(‏131 ‏:‏ 134‏)‏ ‏
{‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ‏.‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ‏.‏ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ‏.‏ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ‏}‏
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم‏}‏ أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى اللّه عزّض وجلَّ بعبادته وحده لا شريك له، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات وما في الأرض‏}‏ الآية، كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فكفروا وتولوا واستغنى اللّه واللّه غني حميد‏}‏ أي غني عن عباده، ‏{‏حميد أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه، وقوله‏:‏ ‏{‏وللّه ما في السموات وما في الأرض الأرض وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء، وقوله‏:‏ ‏{‏إن يشا يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان اللّه على ذلك قديراً‏}‏ أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ قال بعض السلف‏:‏ ما أهون العباد على اللّه إذا أضاعوا أمره‏!‏‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على اللّه بعزيز‏}‏ أي وما هو عليه بممتنع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا فعند اللّه ثواب الدينا والآخرة‏}‏ أي يا من ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند اللّه ثواب الدنيا والآخرة وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة‏}‏ ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة، أي بيده هذا وهذا، فلا يقتصران قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو اللّه الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا، ولهذا قال‏:‏
‏{‏وكان اللّه سميعاً بصيراً‏}‏
الآية رقم ‏(‏135‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في اللّه لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شهداء للّه‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وأقيموا الشهادة للّه‏}‏ أي أدوها ابتغاء وجه اللّه، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ أي أشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه لو عادت مضرته عليك، فإن اللّه سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله‏:‏ ‏{‏أو الوالدين والأقربين‏}‏ أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد الحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يكن غنياً أو فقيراً فاللّه أولى بهما‏}‏ أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، اللّه يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ومن هذا قول عبد اللّه بن رواحة لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهمم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال‏:‏ والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا‏:‏ بهذا قامت السموات والأرض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تلووا أو تعرضوا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ تلووا أن تحرفوا الشهادة وتغيروها، واللّي‏:‏ هو التحريف وتعمد الكذب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب‏}‏ الآية، والإعراض‏:‏ هو كتمان الشهادة وتركها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ون يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها‏)‏، ولهذا توعدهم اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ أي وسيجازيكم بذلك‏.‏ 136 ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ‏}‏ يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة ‏{‏إهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي بصّرنا وزدنا هدى، وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي نزل على رسوله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن ‏{‏نزّل‏}‏ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، لهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر فقد ضل صلالاً بعيداً‏}‏ أي فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد‏.
الآية رقم ‏(‏137 ‏:‏ 140‏)‏ ‏
{‏ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ‏.‏ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ‏.‏ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ‏.‏ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ‏}
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع واستمر على ضلالة وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر اللّه له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ قال‏:‏ تمادوا على كفرهم حتى ماتوا‏.‏ وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ يستتاب المرتد ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً‏}‏ يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا، فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم ‏{‏إنما نحن معكم إنما نحن مستهزءون‏}‏ أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة، قال اللّه تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين ‏{‏أيبتغون عندهم العزة‏}‏ ثم أخبر اللّه تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب اللّه، والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم‏}‏، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات اللّه ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم في فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏ في المأثم كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر‏)‏ والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك، هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ الآية‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نَسَختْ هذه الآية التي في سورة الأنعام، يعني نسخ قوله‏:‏ ‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏، لقوله‏:‏ ‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً‏}‏، أي كما أشركوهم في الكفر، كذلك يشارك اللّه بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً، ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين‏.‏
الآية رقم ‏(‏141‏)‏
‏{‏ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم وذهاب ملتهم، ‏{‏فإن كان لكم فتح من اللّه‏}‏ أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة‏:‏ ‏{‏قالوا ألم نكن معكم‏}‏‏؟‏ أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة، ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏‏:‏ أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أُحد، فإن الرسل تبتلي ثم يكون لها العاقبة، ‏{‏قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين‏}‏‏؟‏ أي ساعدناكم في الباطن وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم، وقال السدي‏:‏ نستحوذ عليكم‏:‏ نغلب عليكم، كقوله‏:‏ ‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ وهذا أيضاً تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاًؤ جاء رجل إلى علي بن ابي طالب فقال‏:‏ كيف هذه الآية ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏‏؟‏ فقال علي رضي اللّه عنه‏:‏ ادنه ادنه ‏{‏فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ قال ذاك يوم القيامة، وكذا روى السدي‏:‏ يعني يوم القيامة، وقال السدي ‏{‏سبيلاً‏}‏ أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً أي في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ الآية، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم - إلى قوله - نادمين‏}‏، وقد استدل كثير من العلاماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافرين لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}

قلب الزهـــور 06-05-2014 05:24 AM

‏ الآية رقم ‏(‏142 ‏:‏ 143‏)‏
‏{‏ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ‏.‏ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ‏}‏
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى‏:‏{‏يخادعون اللّه والذين آمنوا‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏إن المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم‏}‏ ولا شك أن اللّه لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم - كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً - فكذلك يكون حكمهم عند اللّه يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يبعثهم اللّه جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وهو خادعهم‏}‏ أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا، وكذلك يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم - إلى قوله - وبئس المصير‏}‏، وقد ورد في الحديث‏:‏ ‏(‏من سمَّع سمع اللّه به، ومن رايا رايا اللّه به‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إن اللّه يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار‏)‏ عياذاً باللّه من ذلك‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ الآية، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة شديد الفرح، فإنه يناجي اللّه، وإن اللّه تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ هذه صفة ظواهرهم كما قال‏:‏ ‏{‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏، ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال‏:‏ ‏{‏يراءون الناس‏}‏ أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع اللّه، بل إنما يشهدون الناس تقيَّة لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً ك صلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس‏.‏ كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لو علم أحدهم أنه يجد عِرْقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد الصلاة، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار‏)‏ وقال الحافظ أبو يعلى عن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، واساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عزَّ وجلَّ‏)‏؛ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يذكرون اللّه إلا قليلاً‏}‏ أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون‏.‏ وقد روى الإمام مالك عن أنس بن مالك عن أنس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تلكَ صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق‏:‏ يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر اللّه فيها إلا قليلاً‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك، ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏، وقال مجاهد ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء‏}‏ يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، ‏{‏ولا إلى هؤلاء‏}‏ يعني اليهود، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏
‏(‏مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين‏)‏
‏"‏رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً‏"‏ وقال ابن جرير عن قتادة
‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ يقول‏:‏ ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك قال‏:‏ وذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر‏:‏ أن هلم إليّ فإني أخشى عليك، وناداه المؤمنين‏:‏ أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحصي له ما عنده، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك، قال‏:‏ وذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنماً على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف، ثم رأت غنماً على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً‏}‏ أي ومن صرفه عن طريق الهدى ‏{‏فلن تجد له ولياً مرشداً‏}‏، فإنه ‏{‏من يضلل اللّه فلا هادي له‏}‏، والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم، ولا منقذ لهم مما هم فيه، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 05:38 AM

الآية رقم ‏(‏144 ‏:‏ 147‏)‏
‏{‏- يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ‏.‏ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ‏.‏ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ‏.‏ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما‏}‏
ينهى اللّه تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً‏}‏‏؟‏ أي حجة عليكم في عقوبته إياكم، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏سلطاناً مبيناً‏}‏ قال‏:‏ كل سلطان في القرآن حجة، وهذا إسناد صحيح، ثم أخبر تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ، قال ابن عباس‏:‏ أي في أسفل النار، وقال غيره النار دركات كما أن الجنة درجات وقال سفيان الثوري ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ قال‏:‏ في توابيت تُرْتَج عليهم‏.‏ و
عن أبي هريرة قال ‏{‏الدرك الأسفل‏}‏‏:‏ بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد عليهم من تحتهم ومن فوقهم، قال ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ قال‏:‏ في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة، ‏{‏ولن تجد لهم نصيراً‏}‏ أي ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب، ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا أصلحوا واعتصموا باللّه وأخلصوا دينهم للّه‏}‏ أي بدلوا الرياء بالإخلاص، فينفعهم العمل الصالح وإن قل‏.‏ قال ابن ابي حاتم عن معاذ بن جبل‏:‏ ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أخلص دينك يكفك القليل من العمل‏)‏{‏فأولئك مع المؤمنين‏}‏ أي في زمرتهم يوم القيامة ‏{‏وسوف يؤت اللّه المؤمنين أجراً عظيماً‏}‏، ثم قال تعالى مخبراً عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم ‏{‏ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‏}‏‏؟‏ أي أصلحتم العمل وآمنتم باللّه ورسوله، ‏{‏وكان اللّه شاكراً عليماً‏}‏ أي من شكر شكر له، ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏148 ‏:‏ 149‏)‏
{‏ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ‏.‏ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ‏}‏
قال ابن عباس في الآية يقول‏:‏ لا يحب اللّه أن يدعوا أحدا على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له يدعوا على من ظلمه، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏إلا من ظلم‏}‏، وإن صبر فهو خير له، وقال الحسن البصري‏:‏ لا يدعُ عليه، وليقل‏:‏ اللهم أعني عليه واستخرج حقي منه، وفي رواية عنه قال‏:‏ قد ارخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه، وقال عبد الكريم الجزري في هذه الآية‏:‏ هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه لقوله‏:‏ ‏{‏ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل‏}‏، وقال أبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المستبان ما قالا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم وعن مجاهد ‏{‏لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏}‏ قال، قال‏:‏ هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول‏:‏ أساء ضيافتي ولم يحسن‏.‏ وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر قال، قلنا‏:‏ يا رسول اللّه إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا، فما ترى في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ إذا نزلت بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أيما مسلم ضاف قوماً فاصبح الضيف محروماً فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله‏)‏
تفرد به أحمد‏.‏
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة، أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إن لي جاراً يؤذيني، فقال له‏:‏ ‏(‏أخرج متاعك فضعه على الطريق‏)‏، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال‏:‏ مالك‏؟‏ قال جاري يؤذيني، فيقول‏:‏ اللهم العنه، اللهم أخزه قال، فقال الرجل ارجع إلى منزلك واللّه لا أوذيك أبداً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن اللّه كان عفواً قديراً‏}‏، أي إن أظهرتم أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند اللّه ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فإن اللّه كان عفواً قديرا‏}‏، ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون اللّه فيقول بعضهم‏:‏ سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم‏:‏ سبحانك على عفوك بعد قدرتك وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما نقص مال من صدقة، ولا زاد اللّه عبداً بعفوا إلا عزاً، ومن تواضع للّه رفعه‏)‏ ‏"‏الحديث رواه مسلم ومالك والترمذي، وقد رواه الحافظ ابن كثير بلفظ ومن تواضع للّه رفعه ولفظه عندهم ولا تواضع عبدٌ للّه إلا رفعه الله
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏150 ‏:‏ 152‏)‏
‏{‏ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ‏.‏ أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ‏.‏ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ‏}‏
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى، حيث فرقوا بين اللّه ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود عليهم لعائن اللّه آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم واشرفهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمقصود أن من كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبيب بعثه اللّه إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبيه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون باللّه ورسله‏}‏ فوسمهم بأنهم كفار باللّه ورسله ‏{‏ويريدون أن يفرقوا بين اللّه ورسله‏}‏ أي في الإيمان، ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا‏}‏ أي طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم فقال‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكافرون حقاً‏}‏ أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به لأنه ليس شرعياً، إذا لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول اللّه لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ أي كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من اللّه وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة إلي، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه اللّه من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط اللّه عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي، ‏{‏ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه‏}‏ في الدنيا والآخرة، وقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا باللّه ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم‏}‏ يعني بذلك أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله اللّه بكل نبيّ بعثه الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنيون كل آمن بالله‏}‏ الآية، ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال‏:‏ ‏{‏أولئك سوف يؤتيهم أجورهم‏}‏ على ما آمنوا باللّه ورسله، ‏{‏وكان اللّه غفوراً رحيماً‏}‏ أي لذنوبهم، أي إن كان لبعضهم ذنوب‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏153 ‏:‏ 154‏)‏
‏{‏ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ‏.‏ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ‏}‏
قال السدي وقتادة‏:‏ سأل اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة وقال ابن جريج‏:‏ سألوه أن ينزل عليهم صحفاً من اللّه مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به، وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة الإسراء‏:‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ الآيات، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا‏:‏ ارنا اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم‏}‏، أي بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ أي من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم، فما جاوزوه إلا يسيراً حتى أتوا على قوم يعكفون على اصنام لهم فقالوا لموسى‏:‏ ‏{‏اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة‏}‏‏.‏
ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف وفي سورة طه بعد ذهاب موسى إلى مناجاة اللّه عزَّ وجلَّ، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل اللّه توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده فجعل يقتل بعضهم بعضاً، ثم أحياهم اللّه عزَّ وجلَّ، وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم‏}‏، وذلك حين امتنعوا من الإلتزام باحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام رفع اللّه على رؤوسهم جبالً، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذن نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ الآية، ‏{‏وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً‏}‏ أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس سجداً وهم يقولون حطة، أي ‏(‏اللهم حط عنا ذنوبنا‏)‏ في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون حنطة في شعرة ‏{‏وقلنا لهم لا تعدوا في السبت‏}‏ أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم اللّه عليهم ما دام مشروعاً لهم، ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً‏}‏ أي شديداً فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم اللّه عزَّ وجلَّ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله‏:‏ ‏{‏اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر‏}‏ الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أتينا موسى تسع آيات بينات‏}‏ وفيه‏(‏وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت‏)‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 05:48 PM

الآية رقم ‏(‏155 ‏:‏ 159‏)‏
{‏ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ‏.‏ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ‏.‏ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ‏.‏ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ‏.‏ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ‏}‏
وهذا من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم ورطدهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم ‏{‏وكفرهم بآيات اللّه‏}‏ أي حججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام، قوله‏:‏ ‏{‏وقتلهم الأنبياء بغير حق‏}‏ وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء اللّه، فإنهم قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء عليهم السلام ‏{‏وقولهم قلوبنا غلف‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي في غطاء، وهذا كقول المشركين‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ الآية، وقيل‏:‏ معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏بل طبع اللّه عليها بكفرهم‏}‏، فعلى القول الاول‏:‏ كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول لأنها في غلف وفي أكنة، قال اللّه بل هي مطبوع عليها بكفرهم، وعلى القول الثاني‏:‏ عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة‏.‏ ‏{‏فلا يؤمنون إلا قليلا‏}‏ أي تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان، وقلة الإيمان ‏{‏وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أنهم رموها بالزنا‏.‏ قال السدي‏:‏ والظاهر من الآية أنهم رموها وابنها بالعظائم، فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك‏.‏ زاد بعضهم وهي حائض، فعليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، وقوله‏:‏ ‏{‏إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه‏}‏ أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء كقول المشركين‏:‏ ‏{‏يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏‏.

وكان من خبر اليهود عليهم لعائن اللّه وسخطه وغضبه وعقابه، أنه لما بعث اللّه عيسى بن مريم بالبينات والهدى، حسدوه على ما آتاه اللّه تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرىء بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائراً ثم ينفخ فيه فيكون طائراً يشاهد طيرانه بإذن اللّه عزَّ وجلَّ إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه اللّه بها أجراها على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه، وسعوا في اذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي اللّه عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلده، بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان رجلاً مشركاً من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو طائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفراً - وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت - فحصروه هنالك، فلما أحس بهم وأنه لامحالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم - قال لأصحابه‏:‏ أيكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة‏؟‏ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال‏:‏ أنت هو ‏!‏ وألقى اللّه عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت واخذت عيسى عليه السلام سَنَةً من النوم فرفع إلى السماء وهو كذلك كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال اللّه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي‏}‏ الآية، فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك، لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا - كما ظن اليهود - أن المصلوب هو المسيح بن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال إنه خاطبها واللّه أعلم، وهذا كله من امتحان اللّه عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح اللّه الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد المعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم‏}‏ أي رأوا شهبه فظنوه إياه ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن‏}‏ يعني ذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلّمه إليهم من جهال النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وما قتلوه يقيناً‏}‏ أي وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين ‏{‏بل رفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزاً‏}‏ أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه، ‏{‏حكيماً‏}‏ أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة الحجة الدامغة والسلطان العظيم‏.‏

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ لما أراد اللّه أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على اصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فخرج عليهم ورأسه يقطر ماء، فقال‏:‏ إن منكم من يكفر بي اثني عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال، ثم قال‏:‏ أيكم يُلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي‏؟‏ فقام شاب من أحدثم سناً، فقال له‏:‏ اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال‏:‏ اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال‏:‏ أنا، فقال‏:‏ هو أنت ذاك، فأُلقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال‏:‏ وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة‏:‏ كان اللّه فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة‏:‏ كان فينا ابن اللّه ما شاء ثم رفعه اللّه إليه، وهؤلاء النسطورية وقالت فرقة‏:‏ كان فينا عبد اللّه ورسوله ما شاء اللّه ثم رفعه اللّه إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى يبعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏قال الحافظ ابن كثير‏:‏ هذا إسناد صحيح إلى ابن عباس‏"‏

وروى ابن جرير عن ابن إسحاق، قال‏:‏ كان أسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلاً منهم يقال له داود ، فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد اللّه بالموت - فيما ذكر لي - فظعه، ولم يجزع منه جزعه ولم يدع في صرفه عنه دعاءه، حتى إنه ليقول فيما يزعمون‏:‏ اللهم إن كنت صارفاً هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني، وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دماً، فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه السلام، فلما ايقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين - وكانوا اثني عشر رجلاً سوى عيسى عليه السلام جحدته النصارى، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من
الخبر‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني رجل كان نصرانياً فأسلم، أن عيسى حين جاءه من اللّه إني رافعك إليّ، قال‏:‏ يا معشر الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني‏؟‏ فقال سرجس ‏:‏ أنا يا روح اللّه، قال‏:‏ فاجلس في مجلسي فجلس فيه، ورفع عيسى عليه السلام، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم فأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليهم ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وفقدوا رجلاً من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى جعلوا ل ليودس ركريا يوطا ثلاثين درهماً على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه، فقال لهم‏:‏ إذا دخلتم عليه فإني سأقبله، وهو الذي أقبِّل فخذوه، فلما دخلوا وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى فلم يشك أنه هو، فأكب عليه فقبله، فأخذوه فصلبوه، ثم أن ليودس ركريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه، وبعض النصارى يزعم أنه ليودس ركريا يوطا وهو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول‏:‏ إني لست بصاحبكم، أنا الذي دللتكم عليه واللّه أعلم أي ذلك كان‏.‏ وقال ابن جرير عن مجاهد‏:‏ صلبوا رجلاً شبه بعيسى ورفع اللّه عزَّ وجلَّ عيسى إلى السماء حياً، واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم معنى ذلك‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ يعني قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام‏.‏ عن ابن عباس ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال‏:‏ قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام، وقال أبو مالك في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال‏:‏ ذلك عند نزول عيسى وقبل موت عيسى بن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به وقال‏:‏ الحسن‏:‏ قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عند اللّه ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون‏.‏ قال ابن جرير وقال آخرون يعني بذلك ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به‏}‏ بعيسى قبل موت صاحب الكتاب لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه‏.‏ قال ابن عباس في الآية‏:‏ لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى وعن مجاهد‏:‏ كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته؛ قبل موت صاحب الكتاب‏.‏

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال‏:‏ هي في قراءة أبيّ قبل موتهم ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس‏:‏ أرأيت إن خر من فوق بيت‏؟‏ قال‏:‏ يتكلم به في الهويّ قيل‏:‏ أرأيت إن ضربت عنق أحدهم قال‏:‏ يلجلج بها لسانه، فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وكذا صح عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين وبه يقول الضحاك وقال السدي وحكاه عن ابن عباس، ونقل قراءة أبيّ بن كعب قبل موتهم‏.‏ قال ابن جرير، وقال آخرون معنى ذلك‏:‏ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل موت الكتاب‏.‏ قال عكرمة‏:‏ لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 05:59 PM

ثم قال ابن جرير‏:‏ وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام‏.‏ ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأختبر اللّه أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنودرها إن شاء اللّه قريباً فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب‏.‏ ‏{‏ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً‏}‏ أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض، فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره، ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة‏:‏ ‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا باللّه وحده وكفرنا بما كنا به مشركين* فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا‏}‏ الآية‏.‏
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان

تابع 155 ‏{‏ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏
قال البخاري رحمه اللّه في كتاب ذكر الأنبياء عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيراً له من الدنيا وما فيها‏)‏، ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً‏}‏ ‏"‏أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري‏"‏وقال أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ينزل عيسى بن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما‏)‏ قال وتلا أبو هريرة‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ الآية، فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال‏:‏ يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة‏.‏

طريق أخرى ‏:‏ قال البخاري عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد‏"‏

طريق أخرى‏:‏ قال الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن نبي بيني وبينه وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصَّران مصبوغان بالمِصْر وهو تراب أحمر كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويدعوا الناس إلى الإسلام، ويهلك اللّه في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك اللّه في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون‏)‏ وقد روى البخاري عن أبي هريرة، قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏انا أولى الناس بعيسى بن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد‏)‏

حديث آخر ‏:‏
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم‏:‏ خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون‏:‏ لا واللّه لا نخلي بينكم وبين أخواننا، فيقاتلوهم فيهزم ثلث لا يتوب اللّه عليهم أبداً يقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند اللّه، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان‏:‏ إن المسيح قد خلفَكم خلفكم في أهليكم‏:‏ أي طرق أهلهم وهم غائبون عنهم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذا أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فيؤمهم، فإذا رآه عدو اللّه ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله اللّه بيده فيريهم دمه في حربته‏)‏

حديث آخر ‏:
‏ روى ابن ماجة في سننه عن أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه فكان من قوله أن قال‏:‏ ‏(‏لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ اللّه ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال وإن اللّه لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، وإن اللّه خليفتي على كل مسلم، وإنه يخرج من خَلَّة بين الشام والعراق، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً، ألا يا عباد اللّه‏:‏ أيها الناس فاثبتوا وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي‏:‏ إنه يبدأ فيقول‏:‏ أنا نبي فلا نبي بعدي، ثم يثني فيقول‏:‏ أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا‏.‏ وإنه أعور وإن ربكم عزَّ وجل ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً فناره جنة وجنته نار فمن ابتلي بناره فليستغث باللّه، وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم وإن من فتنته أن يقول للأعرابي‏:‏ أرايت إن بعثت لك أمك وأباك أتشهد أني ربك‏؟‏ فيقول نعم، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه، فيقولان‏:‏ يا بَنُيَّ اتبعه فإنه ربك، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقتين، ثم يقول انظر إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له رباً غيري، فيبعثه اللّه فيقول له الخبيث من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي اللّه، وأنت عدو اللّه الدجال، واللّه ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم‏)‏

وإن من فتنته‏:‏ أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك اسمن ما كانت وأعظمه، وأمده خواصر وأدره ضروعاً، وأنه لا يبقى شئ من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة و المدينة فإنه لا يأتيهم من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتةً حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فينفى الخبث منها كما ينفى الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص فقالت أم شريك بنت أبي العكر‏:‏ يا رسول اللّه فأين العرب يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليه عيسى بن مريم عليه السلام، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول‏:‏ تقدم فصل فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى‏:‏ افتحوا الباب فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، فيقول عيسى إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند باب لُدّ الشرقي فيقتله، ويهزم اللّه اليهود فلا يبقى شيء مما خلق اللّه تعالى يتوارى به يهودي إلا أنطق اللّه ذلك الشيء - لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة، إلا الفرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال يا عبد اللّه المسلم‏:‏ هذا يهودي فتعال اقتله‏.‏

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏وإن ايامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي‏)‏، فقيل له‏:‏ كيف نصلي يا نبي اللّه في تلك الأيام القصار‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تقدرون الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم صلوا‏)‏، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترتفع الشحناء والتباغض، وتنزح حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتفر الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الأناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا اللّه، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض لها نور الفضة، وتنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال ويكون الفرس بالدريهمات قيل يا رسول اللّه ومايرخص الفرس‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا تركب لحرب أبداً‏)‏، قيل له فما يغلي الثور‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يحرث الأرض كلها، وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، ويأمر اللّه السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر اللّه السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر اللّه عزَّ وجلّ السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله‏(‏ قيل‏:‏ فما يعيش الناس في ذلك الزمان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن ماجة، قال الحافظ ابن كثير‏:‏ غريب جداً من هذا الوجه ولبعضه شواهد من أحاديث أُخر‏"‏

حديث آخر ‏:‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر‏:‏ يا مسلم يا عبد اللّه هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله - إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود‏)‏ ‏"‏رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏‏.‏

حديث آخر ‏:‏ وقال مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان قال‏:‏ ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فقال‏:‏ ‏(‏ما شأنكم‏)‏‏؟‏ قلنا‏:‏ يا رسول اللّه ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، قال‏:‏ ‏(‏غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، واللّه خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج من خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد اللّه فاثبتوا‏(‏ قلنا‏:‏ يا رسول اللّه فما لبثه في الأرض‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم‏)‏ قلنا يا رسول اللّه وذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم‏؟‏ قا‏:‏ ‏(‏لا، اقدروا له قدره‏)‏، قلنا يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى أسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليهم قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها‏:‏ أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل يعاسيب النحل‏:‏ ذكروها ، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل وتهلل وجهه ويضحك‏.‏ فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذار رفعه تحَّر منه كجمان اللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد، فيقتله، ثم يأتي عيسى عليه السلام قوماً قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذا أوحى اللّه عزَّ وجلَّ إلى عيسى‏:‏ إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 06:13 PM

ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون‏:‏ لقد كان بهذا مرة ماء، ويحضر نبي اللّه عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه فيرسل اللّه عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرْسى أي‏:‏ قتلى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي اللّه عيسى واصحابه إلى الارض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم رائحتهم النتنة المتغيرة ونتنهم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللّه، ثم يرسل اللّه مطراً لا يُكُنُّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلفة الزلفة بالتحريك‏:‏ المرآة ‏.‏

ثم يقال للأرض أخرجي ثمرك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك اللّه في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام الرسل بالتحريك‏:‏ القطيع الجمع أرسال، واللقحة - بالكسر وبالفتح لغة - هي ذات اللبن، والفئام الجماعة من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فيقبض اللّه روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة‏)‏ ‏
"‏أخرجه مسلم ورواه أحمد وأهل السنن‏"‏

يتبع‏.‏‏.‏‏.‏
‏ تابع 155
‏{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏
حديث آخر‏:‏ قال مسلم في صحيحه عن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول، سمعت عبد اللّه ابن عمرو - وجاءه رجل - فقال‏:‏ ما هذا الحديث الذي تحدث به‏؟‏ تقول‏:‏ إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا، فقال‏:‏ سبحان اللّه أو لا إله إلا اللّه أو كلمة نحوهما، لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً، إنما قلت‏:‏ إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً‏:‏ يحرق البيت ويكون ويكون، ثم قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يخرج الدجال في أُمتي فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً، فيبعث اللّه تعالى عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل اللّه ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان - إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه‏)‏

قال‏:‏ سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏بيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول‏:‏ لا تستجيبون‏؟‏ فيقولون‏:‏ فما تأمرنا‏؟‏ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم، حسُ عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، قال‏:‏ وأول من سمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناسن ثم يرسل اللّه - أو قال ينزل اللّه - مطراً كأنه الطل - أو قال الظل - نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‏.‏ ثم يقال‏:‏ أيها الناس هلموا إلى ربكم ‏{‏وقفوهم إنهم مسؤولون‏}‏، ثم يقال‏:‏ أخرجوا بعث الناس، فيقال من كم‏؟‏ فيقال‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال فذلك ‏{‏يوماً يجعل الولدان شيبا‏}‏ وذلك ‏{‏يوم يكشف عن ساق‏}‏
"‏أخرجه مسلم والنسائي‏"‏

حديث آخر قال الإمام
أحمد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عبد اللّه بن عبيد اللّه ابن ثعلبة الأنصاري، عن عبد اللّه بن زيد الأنصاري، عن مجمع بن جارية، قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد - أو إلى جانب لد - ‏)‏ ورواه أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي، ثلاثتهم عن الزهري عن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن ثعلبة، عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقتل ابن مريم الدجال بباب لد‏)‏ وكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الليث به، وقال‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏ قال‏:‏ وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عيينة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة، وكيسان، وعثمان بن أبي العاص، وجابر وأبي أمامة، وابن مسعود، وعبد اللّه بن عمرو، وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان، وعمرو بن عوف، وحذيفة بن اليمان رضي اللّه عنهم‏.‏ ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال، وقتل عيسى بن مريم عليه السلام له‏.‏

حديث آخر ‏:‏
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات‏:‏ طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف‏:‏ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو تحشر - الناس، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا‏)‏ ‏"‏رواه أحمد ومسلم واصحاب السنن‏"‏وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى بن مريم من تاريخه عن بعض السلف‏:‏ أنه يدفن مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في حجرته، فاللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً‏}
قال قتادة‏:‏ يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من اللّه، وأقر بعبودية اللّه عزَّ وجلَّ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة‏:‏ ‏{‏وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس - إلى قوله - العزيز الحكيم‏}‏‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏160 ‏:‏ 162‏)‏
‏{‏ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ‏.‏ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ‏.‏ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ‏}‏

يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم، كما قال ابن أبي حاتم عن عمرو، قال قرأ ابن عباس‏:‏ طيبات كانت أحلت لهم وهذا التحريم قد يكون قدرياً بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالاً لهم، فحرموها على أنفسهم تشديداً منهم على أنفسهم وتضييقاً وتنطعاً، ويحتمل أن يكون شرعياً بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة‏}‏ وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد أن الجميع من الاطعمة كانت حلالاً لهم، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها‏.‏ ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون‏}‏ أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم، ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل اللّه كثيرا‏}‏، أي صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقاً من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمداً صلوات اللّه وسلامه عليهما‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخذهم الربا وقد نهوا عنه‏}‏، ‏{‏أي أن اللّه قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون في العلم منهم‏}‏ أي الثابتون في الدين، لهم قدم راسخة في العلم النافع، ‏{‏والمؤمنون‏}‏ عطف على الرسخين، وخبره ‏{‏يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أنزلت في عبد اللّه بن سلام وثعلبة بن سعيه في نسخة الأميرية‏:‏ تحريف في هذه الأسماء واعتمد في تصحيحها على ما في الإصابة وغيرها، وسعيه بفتح السين المهملة وسكون الياء التحتانية وأسد بن سعيه وأسد بن عبيد الذين دخلوا في الإسلام صدقوا بما أرسل اللّه به محمداً صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ هكذا، هو في جميع مصاحف الأئمة وكذا هو في مصحف أبي بن كعب ، وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود ‏{‏والمقيمون الصلاة‏}‏، قال‏:‏ والصحيح قراءة الجميع، رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب، ثم ذكر اختلاف الناس، فقال بعضهم‏:‏ هو منصوب على المدح، كما جاء في قوله‏:‏ ‏{‏والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس‏}‏، قال وهذا سائغ في كلام العرب كما قال الشاعر‏:‏
لا يبعدن قومي الذن همو * أسد العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك * والطيبون معاقد الأزر
وقال آخرون‏:‏ هو مخفوض عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك‏}‏ يعني وبالمقيمين الصلاة، وكأنه يقول‏:‏ وبإقامة الصلاة التي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والمؤتون الزكاة‏}‏ يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال، ويحتمل زكاة النفوس، ويحتمل الأمرين واللّه أعلم، ‏{‏والمؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ أي يصدقون بأنه لا إله إلا اللّه ويؤمنون بالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها، وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ هو الخبر عما تقدم، ‏{‏سنؤتيهم أجراً عظيماً‏}‏ يعني الجنة‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏163 ‏:‏ 165‏)‏
‏{‏ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ‏.‏ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ‏.‏ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ‏}‏

قال ابن عباس، قال سكن وعدي بن زيد‏:‏ يا محمد ما نعلم أن اللّه أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل اللّه في ذلك من قولهما‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده‏}‏ إلى آخر الآيات‏.‏ ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه وما هم عليه الآن من الكذب والإفتراء، ثم ذكر تعالى أنه أوحي إلى عبده ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم كما أوحى إلي غيره من الأنبياء المتقدمين، فقال‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا داود زبوراً‏}‏ والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه اللّه إلى داود عليه السلام، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من اللّه أفضل الصلاة والسلام عند قصصهم من سورة الأنبياء إن شاء اللّه وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏، أي من قبل هذه الآية، يعني في السور المكية وغيرها وهذه تسمية الأنبياء الذين نص اللّه على أسمائهم في القرآن وهم‏:‏ آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهرون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل، عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلى اللّه عليه وسلم وقوله‏:‏ ‏{‏ورسلاً لمن نقصصهم عليك‏}‏ أي خلقاً آخرين لم يذكروا في القرآن، وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث ابي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه اللّه في تفسيره عن أبي ذر قال، قلت‏:‏ ‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه نبي مرسل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم خلقه اللّه بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قبيلاً‏)يا رسول اللّه كم الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه كم الرسل منهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه من كان أولهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏آدم‏)‏ وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر، فقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة، قال، قلت‏:‏ يا نبي اللّه كم الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر، جماً غفيراً‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلم اللّه موسى تكليماً‏}‏، وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة، ولهذا يقال له الكليم، وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه‏:‏ جاء رجل إلى ابي بكر بن عياش، فقال‏:‏ سمعت رجلاً يقرأ ‏{‏وكلم اللّهَ موسى قرأ هذا الرجل لفظ الجلالة بالنصب وموسى بالرفع تكليما‏}‏، فقال أبو بكر‏:‏ ما قرأ هذا إلا كافر‏.‏ قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏وكلم اللّهُ موسى تكليماً‏}‏، وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه اللّه على من قرأ كذلك، لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون اللّه كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحداً من خلقه كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ ‏{‏وكلم اللّه موسى تكليما‏}‏، فقال له‏:‏ يا ابن اللخناء‏!‏ كيف تصنع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه‏}‏‏؟‏ يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل‏.‏ وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه عن ابن مسعود قال،
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف؛ ونعلان من جلد حمار غير ذكي‏)‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 06:29 PM

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رسلاً مبشرين ومنذرين‏} أي يبشرون من أطاع اللّه، واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب، وقوله‏: ‏{‏لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل وكان اللّه عزيزاً حكيماً‏}‏، أي أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه، لئلا يبقى لمعتذر عذر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى‏}‏، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم‏}‏ الآية، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا أحد أغير من اللّه، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من اللّه عزَّ وجلَّ، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من اللّه، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين‏)‏، وفي لفظ آخر‏:‏ ‏(‏من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه‏)‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏166 ‏:‏ 170‏)‏
‏{‏ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ‏.‏ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ‏.‏ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ‏.‏ إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ‏.‏ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ‏}‏
لما تضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك‏}‏ إلى آخر السياق إثبات نبوته صلى اللّه عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك‏}‏ أي وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك، فاللّه يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم الذي‏:‏ ‏{‏لا يأتيه الباطل من بيه يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏، أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه اللّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه اللّه به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون به علماً‏}‏‏.‏
وقال ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال‏:‏ أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال‏:‏ قد أخذت علم اللّه، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ قوله‏:‏ ‏{‏أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى باللّه شهيداً‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏والملائكة يشهدون‏}‏ أي بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك مع شهادة اللّه تعالى بذلك، ‏{‏وكفى باللّه شهيداً‏}‏ قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال‏:‏ دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة من اليهود، فقال لهم‏:‏ ‏(‏إني لأعلم واللّه إنكم لتعلمون أني رسول اللّه‏)‏، فقالوا‏:‏ ما نعلم ذلك، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه‏}‏ الآية‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفورا وصدوا عن سبيل اللّه قد ضلوا ضلالاً بعيداً‏}‏ أي كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق، وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه وبعدوا منه بعداً عظيماً شاسعاً، ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله، وارتكاب مآثمه، وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم ‏{‏ولا يهديهم طريقاً‏}‏ أي سبيلاً إلى الخير ‏{‏إلا طريق جهنم‏}‏، وهذا استثناء منقطع ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ الآية‏.‏
ثم قال تعالى ‏{‏يا ايها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم‏}‏، أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من اللّه عزَّ وجلَّ، فآمنوا بما جاءكم به وابتعوه يكن خيراً لكم، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات والأرض‏}‏ أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏وكان اللّه عليماً‏}‏ أي بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبم يستحق الغواية فيغويه ‏{‏حكيماً‏}‏ أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره‏.‏ http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏171‏)‏
‏{‏ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ‏}‏
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه اللّه إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون اللّه يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أبتاعه واشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوا سواء كان حقاً أو باطلاً، أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً، ولهذا قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه‏}‏ الآية، وقال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد اللّه ورسوله‏)‏ وهكذا رواه البخاري عن الزهري به ولفظه‏:‏ ‏(‏فإنما أنا عبد فقولوا عبد اللّه ورسوله‏)‏، وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك‏:‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان‏:‏ أنا محمد بن عبد اللّه، عبد اللّه ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏ تفرد به من هذا الوجه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا على اللّه إلا الحق‏}‏ أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً، تعالى اللّه عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته، فلا إله إلا هو ولا رب سواه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إنما المسيح ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه‏}‏ أي إنما هو عبد من عباد اللّه وخلق من خلقه، قال له كن فكان، ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عزَّ وجلَّ، فكان عيسى بإذنه عزَّ وجلَّ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت - حتى ولجت فرجها - بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق للّه عزَّ وجلَّ، ولهذا قيل لعيسى‏:‏ إنه كلمة اللّه وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل‏.‏
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ وقال تعالى إخباراً عن المسيح‏:‏ ‏{‏إن هو إلا عبد أنعمنا عليه‏}‏ الآية، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه‏}‏ هو كقوله‏:‏‏{‏كن فيكون‏}‏‏.‏ وقال ابن ابي حاتم، حدثنا أحمد بن سنان الوسطي قال‏:‏ سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول اللّه‏:‏ ‏{‏وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه‏}‏ قال‏:‏ ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى، وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله‏.‏ ‏{‏ألقاها إلى مريم‏}‏ أي أعلمها بها كما زعمه في قوله‏:‏ ‏{‏إذا قالت الملائكة يا مريم إن اللّه يبشرك بكلمة منه‏}‏ أي يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك‏}‏، بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها بإذن اللّه فكان عيسى عليه السلام، وقال البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وإن الجنة حق والنار حق، أدخله اللّه الجنة على ما كان من العمل‏)‏ وقوله في الآية والحديث‏:‏ ‏(‏وروح منه‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه‏}‏ أي من خلقه ومن عنده وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن اللّه المتتابعة بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى، وقد قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وروح منه‏}‏ أي ورسول منه، وقال غيره‏:‏ ومحبة منه، والأظهر الأول، وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة، واضيفت الروح إلى اللّه على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى اللّه في قوله‏:‏ ‏{‏هذه ناقة اللّه‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وطهر بيتي للطائفين‏}‏، وكما روي في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏فأدخل على ربي في داره‏)‏، أضافها إليه إضافة تشريف وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا باللّه ورسله‏}‏ أي فصدقوا بأن اللّه واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد اللّه ورسوله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع اللّه شريكين، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، وهذه الآية والتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد‏}‏ وكما قال في آخر السورة المذكورة‏:‏ ‏{‏وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني‏}‏ الآية‏.‏ وقال في أولها‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم‏}‏ الآية، والنصارى عليهم لعائن اللّه من جهلهم ليس لهم ضابط، ولا لكفرهم حد، بل أقوالهم وضلالهم منتشر، فمنهم من يعتقده إلهاً، ومنهم من يعتقده شريكاً، ومنهم من يعتقده ولداً، وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة، وأقوال غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال‏:‏ لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً‏.‏

ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم - وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة - وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة، وأنه اختلفوا عليه اختلافاً لا ينضبط ولا ينحصر، فكانوا أزيد من ألفين أسقفاً، فكانوا أحزاباً كثيرة كل خمسين منهم على مقالة، وعشرون على مقالة، ومائة على مقالة، وسبعون على مقالة وأزيد من ذلك وأنقص، فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر وقد توافقوا على مقالة، فأخذها الملك ونصرها وأيدها، وكان فيلسوفاً داهية، ومحق ما عداها من الأقوال وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر وبنيت لهم الكنائس، ووضعوا لهم كتباً وقوانين وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم الملكانية ، ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانياً فحدث فيهم اليعقوبية ، ثم مجمعاً ثالثاً فحدث فيهم النسطورية وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم، هل اتحدوا أو ما اتحدوا، أو امتزجا أو حل فيه‏؟‏ على ثلاث مقالات، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى، ونحن نكفر الثلاثة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏انتهوا خيراً لكم‏}‏ أي يكن خيراً لكم، ‏{‏إنما اللّه إله واحد سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ أي تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض وكفى باللّه وكيلاً‏}‏ أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداً‏}‏ الآيات‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 06:41 PM

الآية رقم ‏(‏172 ‏:‏ 173‏)‏
‏{‏ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ‏.‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ‏}‏

قال عطاء عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏لن يستنكف‏}‏ لن يستكبر، وقال قتادة‏:‏ لن يحتشم ‏{‏المسيح أن يكون عبداً للّه ولا الملائكة المقربون‏}‏ وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال‏:‏ ‏{‏ولا الملائكة المقربون‏}‏ وليس له في ذلك دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، لأن الاستنكاف هو الإمتناع، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا الملائكة المقربون‏}‏، ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الإمتناع أن يكونوا أفضل، وقيل‏:‏ إنما ذكروا لأنهم اتخذوا آلهة مع اللّه كما اتخذ المسيح، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ الآيات، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشهرم إليه جميعاً‏}‏ أي فيجمعهم إليه يوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل، الذي لا يجور فيه ولا يحيف، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله‏}‏، أي فيعطيهم من الثواب على قد أعمالهم الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه‏.‏

وقد روى ابن مردويه عن عبد اللّه مرفوعاً قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله‏}‏، أجورهم، قال‏:‏ ‏(‏أدخلهم الجنة‏)‏ ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم‏)‏، وهذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد، ‏{‏وأما الذين استنكفوا واستكبروا‏}‏ أي امتنعوا عن طاعة اللّه وعبادته واستكبروا عن ذلك{‏فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون اللّه ولياً لا نصيراً‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين‏}‏ أي صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏174 ‏:‏ 175‏)‏
‏{‏ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ‏.‏ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ‏}‏
يقول تعالى مخاطباً جميع الناس ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏ أي ضياء واضحاً على الحق، قال ابن جريج وغيره‏:‏ وهو القرآن ‏{‏فأما الذين آمنوا باللّه واعتصموا به‏}‏ أي جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على اللّه في جميع أمورهم، وقال ابن جريج‏:‏ آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن ‏{‏فسيدخلهم في رحمة منه وفضل‏}‏ أي يرحمهم فيدخلهم الجنة، ويزيدهم ثواباً مضاعفة ورفعاً في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم، ‏{‏ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏ أي طريقاً واضحاً قصداً قواماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات العمليات وفي الآخرة على صراط اللّه المستقيم المفضي إلى روضات الجنات، وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏القرآن صراط اللّه المستقيم، وحبل اللّه المتين‏)‏، وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير، وللّه الحمد والمنة‏.‏
http://up.3dlat.com/uploads/13618229316.gif
الآية رقم ‏(‏176‏)‏
‏{‏ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ‏}‏
قال البخاري عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء، قال آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت يستفتونك وقال الإمام أحمد عن محمد بن المنكدر، قال سمعت جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ دخل عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، قال فتوضأ ثم صب عليّ - أو قال صبوا عليه - فعقلت فقلت‏:‏ إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث‏؟‏ فأنزل اللّه آية الفرائض‏.‏ وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث ‏{‏يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة‏}‏ الآية ‏"‏أخرجه الشيخان‏"‏وكأن معنى الكلام واللّه أعلم‏:‏ يستفتونك عن الكلالة ‏{‏قل اللّه يفتيكم‏}‏ فيها، فدل المذكور على المتروك وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحدي بالرأس من جوانبه، ولهذا فسرها أكثر العلماء‏:‏ بمن يموت وليس له ولد ولا والد‏.‏ ومن الناس من يقول‏:‏ الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن امرؤ هلك ليس له ولد‏}‏، وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ثلاث وددت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه‏:‏ الجد، والكلالة، وباب من أبواب الربا يعني ما نزل آخر سورة البقرة من آيات الربا وقد نزلت بعد آية آل عمران ‏{‏لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة‏}‏ فهل الربا فيهما واحد على القاعدة، أم هو في الأخيرة أعم‏؟‏ استشكل عمر رضي اللّه عنه والجمهور على الثاني واستشكاله في إرث الجد والكلالة أشهر وأظهر عن عمر قال سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكلالة فقال‏:‏ ‏(‏يكفيك آية الصيف‏)‏ فقال‏:‏ لأن أكون سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعاً‏"‏وكأن المراد بآية الصيف أنها نزلت في فصل الصيف والله أعلم، ولما أرشده النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى تفهمها فإن فيها كفاية، نسي أن يسال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن معناها، ولهذا قال‏:‏ فلأن أكون سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم‏.‏
وقال ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ سأل عمر بن الخطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الكلالة، فقال‏:‏ ‏(‏أليس قد بين اللّه ذلك‏)‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏يستفتونك‏}‏ الآية‏.‏ قال قتادة‏:‏ وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته‏:‏ ألا إن الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها اللّه في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والأخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه مما جرت الرحم من العصبة‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 06:43 PM

قوله تعالى‏: ‏{‏إن امرؤ هلك‏}‏ أي مات، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كل شي هالك إلا وجهه‏}كل شي يفنى ولا يبقى إلا اللّه عز وجل، كما قال‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ وقوله‏:‏{‏ليس له ولد‏}تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتقاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه، ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور، وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد‏.‏ ويدل على ذلك قوله‏:‏ {‏وله أخت فلها نصف ما ترك‏}ولو كان معها أب لم ترث شيئاً لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص عند التأمر أيضاً، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية‏.‏
وقال الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك، فقال‏:‏ حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بذلك‏.‏ وقد روي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتاً وأختاً إنه لا شيء للأخت لقوله‏:‏
{‏إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك‏}
‏ قال فإذا ترك بنتاً فقد ترك ولداً فلا شي للأخت، خالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وهذه الآية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة، وأما وراثتها بالتعصيب، فلما رواه البخاري عن الأسود، قال‏:‏ قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النصف للبنت والنصف للأخت‏.‏

وفي صحيح البخاري أيضاً عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال‏:‏ للإبنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسال ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى فقال‏:‏ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى اللّه عليه وسلم النصف للبنت ولبنت الأبن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتيا فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال‏:‏ لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو يرثها إن لم يكن لها ولد‏}‏ أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد أي ولا والد، لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئاً فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ لما ثت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك‏}‏، أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله‏:‏ ‏{‏فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والأخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبين اللّه لكم‏}‏ أي يفرض لكم فرائضه، ويحد لكم حدوده، ويوضح لكم شرائعه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن تضلوا‏}‏ أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان، ‏{‏واللّه بكل شيء عليم‏}‏ أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده وما يستحقه كل واد من القرابات بحسب قربه من المتوفى‏.‏ وقال ابن جرير عن سعيد ابن المسيب‏:‏ أن عمر كتب في الجد والكلالة كتاباً فمكث يستخير اللّه يقول‏:‏ اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه، حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحى ولم يدر أحد ما كتب فيه، فقال‏:‏ إني كتبت كتاباً في الجد والكلالة، وكنت أتسخير اللّه فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه‏.‏ قال ابن جرير وقد روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ إني لاستحي أن أخالف فيه ابا بكر، وكان أبو بكر رضي اللّه عنه يقول‏:‏ هو ما عدا الولد والوالد، وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن كما أرشد اللّه أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله ‏{‏يبين اللّه لكم أن تضلوا واللّه بكل شيء عليم‏}‏ واللّه أعلم‏.‏

قلب الزهـــور 06-05-2014 06:46 PM





http://www.anaqamaghribia.com/Galler...es/ne/0015.gif
اللهم لاتؤاخذني ان نسيت او اخطأت


شمس القوايل 08-05-2014 03:22 AM

بارك الله فيج وجزاج الله الخير

وجعله في ميزان حسناتج

قلب الزهـــور 08-05-2014 03:28 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شمس القوايل (المشاركة 5606034)
بارك الله فيج وجزاج الله الخير

وجعله في ميزان حسناتج

●●●
هلااااااااااوغلاااااااااااا

يسعدلي قلبك ويسلمووو وربي على الحضور الرائع بصفحتي
وجزاك الله كووول خير ويعطيك الصحة والسعادة يارب
تقبلي شكري وتقديري واحترامي
مع تحياتي : قلب الزهـــور ..بباي
http://www.sheekh-3arb.net/3atter/di...s/image366.gif



الساعة الآن 05:55 PM.