العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام الثقافية والأدبية ]:::::+ > المكتبة الأدبية
موضوع مغلق
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-02-2006, 08:30 PM   رقم المشاركة : 1
د.اسامة شمس الدين
( ود جديد )
 







د.اسامة شمس الدين غير متصل

عرض لرواية (( 1984 ))

عرض لرواية (( 1984 ))
(( لن يكون هناك أي ولاء غير الولاء للحزب، ولن يكون هناك حب غير الحب للأخ الاكبر، ان كل ما يعتبره الحزب حقيقياً هو حقيقي ، ومن المستحيل ادراك الواقع دون النظر عبر عيون الحزب ، تلك هي الحقيقة التي يتعيّن عليك ان تتعلمها يا ونستون ، انها تستلزم فعلاً انتحارياً، تصميماً واعياً ، انّ عليك ان تهزم نفسك قبل ان يصبح بامكانك ان تكون سليم العقل )) .
هذه هي صورة الحياة في العالم الذي تنبا اورويل بقيامه في المستقبل ، في روايته التي تحمل عنوان (( 1984 )) ، والتي نشرها ـ بعد سنوات من عمله في تاليفها ـ في عام 1948 ، راسما صورة بشعة للعالم كما سيكون عام 1984 ، وقد انقسم الى ثلاث قوى عظمى : اهمها واكبرها اوقيانيا او الولايات المتحدة الاميركية بعد ان ابتلعت كل ممتلكات الامبراطورية البريطانية ، واوراسيا التي هي روسيا بعد ان ضمت اليها كل اوروبا ، وقوة ثالثة اسمها اياستاسيا .. اما سكان افريقيا والشرق الاوسط والهند واندونيسيا فهم مجرد عبيد لاوقيانيا .. ثم ينتقل اورويل ـ في استعراض روائي عذب ـ الى الحديث عن اوقيانيا التي يحكمها حزب واحد ، وتضم حكومتها اربع وزارات رئيسية ، هي " وزارة الحقيقة " وتعنى بالاعلام والتعليم والفنون ، و" وزارة السلام " المتخصصة في شئون الحرب ، و" وزارة الوفرة " التي تهتم بالنواحي الاقتصادية ، و " وزارة الحب " ومهمتها تطبيق القانون وحفظ النظام !!
في اوقيانيا ، يقف على رأس الدولة والحزب رجل واحد يدعى " الاخ الاكبر " ، الذي تملأ صوره بشتى الاحجام كل مكان كما أن عيون الحزب وجواسيسه يملأون كل مكان ، حيث تتولى شرطة التفكير القاء القبض على الذين يشك في ولائهم للحزب والأخ الاكبر ، حتى اجهزة التلفزيون التي توجد في البيوت النوادي وقاعات الاجتماعات مزودة بكاميرا خفية تنقل فوراً إلى الاجهزة الامنية ما يمكن ان يصدر عن الناس ، فالشاشة تستلم وتبث في آن واحد وهي تلتقط كل صوت يتجاوز الهمس الواطيء جداً ، وترى كل ما يقع ضمن مدى رؤيتها .
اما الاطفال فقد كانوا يحولون بشكل منظم بواسطة منظمات كمنظمة « الرقباء» إلى متوحشين صغار صعبي المراس ، وكان من شأن هذه التربية ان تجرّدهم من أي ميل ـ أيا كان ـ للتمرد ضد انضباط الحزب ، بل انهم ـ وعلى العكس من ذلك تماماً ـ يتحولون إلى عبادة الحزب وكل ما يتصل به ، ان الاناشيد والمواكب والشعارات والرحلات والتدريب بالبنادق الدميوية والهتاف بالشعارات وعبادة الاخ الاكبر هي جميعاً نوع من الالعاب الرائعة بالنسبة لهم ، لقد توجهت كل ضراوتهم الطبيعية نحو الخارج : ضد اعداء النظام والاجانب ، والخونة ، ضد المخربين ومجرمي التفكير، وهكذا فان من النادر ان يمر اسبوع دون ان تخرج صحيفة التايمز بمقالة تصف كيف ان أحد صغار المتسللين ـ أو ما يُسمى عادة « بطل الاطفال » ـ قد استرق السمع لبعض التعليقات المشبوهة لوالديه وأبلغ عنها شرطة التفكير.
وفي تلك الدولة الدموية ، هناك ثلاثة شعارات تطالعك في كل مكان : الحرب سلام الحرية عبودية الجهل قوّة
هذا هو ونستون بطل الرواية يجلس في زاوية غرفته وقد ادار ظهره لشاشة التلفزيون ، وأخرج من جيبه قطعة ذات خمسة وعشرين سنتاً وعليها أيضاً نقشت بحروف واضحة بالغة الصغر نفس الشعارات الثلاثة ، فيما طبع على الوجه الآخر وجه الاخ الاكبر ، حتى في العملة ، كانت العينان ، « عينا الأخ الاكبر » تلاحقك : من على النقود والطوابع ، وأغلفة الكتب، الاعلام، البوسترات، وأغلفة علب السكائر ، وفي كل مكان ، كانت « عينا الأخ الاكبر » تراقبك وصوته يطوّقك على الدوام ولا سبيل للخلاص منه ، نائماً كنت ام مستيقظاً ، تعمل أو تتناول طعامك، داخل البيوت وخارجها ، في الحمّام أو في السرير ، لا شيء يخصك باستثناء بضعة سنتيمترات مربعة داخل جمجمتك .
والنظام الحاكم اشتراكي ، ومبادؤه المقدسة هي : « تحولية الماضي » و« الكلام الحديث» و« الايمان المتناقض» .. تحولية الماضي يترجمها شعار حزبي يقول : (( من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل )) ، وعندما يقول بطل الرواية بأن الماضي موجود في السجلاّت وفي العقل وفي ذاكرة البشر، يقول له الشخص الذي يقوم بتعذيبه : (( في الذاكرة .. حسن جداً، نحن الحزب ، نسيطر على كل السجلات ، ونتحكم في الذاكرة البشرية .. اذن نحن « الحزب» نتحكّم بالماضي )) ، والتحكم بالماضي يتم من خلال " وزارة الحقيقة " التي تضم بنايتها ثلاثة آلاف غرفة ، وكان ونستون بطل الرواية احد العاملين فيها ، ووزارة الحقيقة تقوم على تغيير التاريخ ـ أي الماضي ـ باستمرار ، ففي العالم هناك دولتان اثنتان ـ اضافة الى دولة اوقيانيا ـ هما دولة اوراسيا ودولة اياستاسيا ، وحين تكون احداهما في حالة حرب مع اوقيانيا تكون الاخرى حليفة لاوقيانيا والعكس بالعكس ، إلاّ انّه لا يمضي عامان أو اربعة حتى تنعكس الامور فتصبح الحليفة عدوة والعدوة حليفة ، وهنا يقوم الحزب باستخراج كافة المطبوعات من كتب ومجلات وصحف وشعارات وقصائد وقصص ويغيّر الاسماء فيها حسب التطورات الجديدة ـ أي اعادة طبع تلك المطبوعات الموجودة في أرشيف الحزب مرة اخرى وعرضها على الجماهير بشكلها الجديد ـ يقول ونستون : (( اننا لا نعرف شيئاً تقريباً حول الثورة وسنوات ما قبل الثورة ، كل سجل قد اتلف ، وكل كتاب قد اعيدت كتابته ، وكل صورة قد اعيد رسمها ، وكل نصب أو شارع أو بناية قد اُعيدت تسميته ، وتلك عملية متواصلة يوماً بيوم ودقيقة بدقيقة ، لقد توقف التاريخ ، ولا شيء هناك غير حاضرغير متناه ، الحزب فيه على حق على الدوام ، أنا أعلم بالطبع ان الماضي مزوّر ، لكن لن يكون بوسعي أبداً أن اثبت ذلك حتى عندما أكون أنا من يقوم بهذا التزوير ، فبعد ان ينجز الامر لن يبقى ثمة دليل حوله ، الدليل الوحيد لا يوجد سوى في عقلي أنا، أنا لا أعلم بأي شكل من أشكال اليقين ان هناك انساناً آخر يشاركني ذكرياتي )) .
و« الكلام الحديث» هو اللغة التي كانت في الاصل فكرة " الاخ الاكبر " ، ثم تبناها الحزب وبدأ بطبع قاموس لها كانت طبعاته تتجدد دائما بحيث تختزل كلماته وتتناقص ، ولذا فالكلام الحديث هو اللغة الوحيدة في العالم التي تتناقص مفرداتها كل عام ، يقول احد المشرفين على الطبعة الحادية عشرة لهذا القاموس لونستون : (( نحن نضع اللغة في شكلها النهائي ، الشكل الذي ستأخذه عندما لا يتكلم احد بشيء غيره ، وعندما نكون قد انتهينا منه فإن على أناس مثلك ان يتعلموها برمتها من جديد )) ، فالهدف اذن من « الكلام الحديث » هو جعل الناس يفكرون بطريقة جديدة تتلاءم مع مقررات الحزب الحاكم، أي أن يفكروا كما يتكلمون هذا الكلام الذي صيغ من قاموس الحزب .
اما « الايمان المتناقض» فيلخّصه المؤلف بهذه الكلمات : (( أن تعلم ولا تعلم في الوقت ذاته ، وأن تكون مدركاً للمصداقية التامة فيما تعلن اكاذيباً منظمة بدقة ، وان تحتفظ في آن واحد باعتقادين باطلين وتؤمن بهما معاً ، مع علمك انهما متناقضان ، ان تستعمل المنطق ضد المنطق ، وأن تتبراً من الفضيلة فيما تدّعي لنفسك حق المطالبة بها، ان تعتقد ان الديمقراطية مستحيلة وأن الحزب هو حامي الديمقراطية ، ان تنسى كل ما يكون نسيانه ضرورياً ثم تسترجعه ثانية إلى الذاكرة في اللحظة التي تحتاجه فيها من دون ابطاء )) ، وقد ادى اسلوب « الايمان المتناقض» إلى ان يتحول اعضاء الحزب إلى مخلوقات تردد ببغائياً ما يطلب اليها في اللحظة الحاضرة ، فان طلب بعد لحظة واحدة بالهتاف بشيء متناقض بادر العضو الحزبي إلى فعل ذلك فوراً وهو في كلا الحالتين غير مؤمن بشيء .
عن الفتاة جوليا التي تربطها علاقة صداقة مع ونستون بطل الرواية وكلاهما عضو في الحزب، يقول اورويل : (( لقد صاحت مرات لا عدّ لها ـ في الاجتماعات الحزبية الحاشدة والتظاهرات العفوية ـ بأعلى صوتها ، مطالبة باعدام اُناس لم تكن قد سمعت ابداً بأسمائهم ، اُناس لم يكن لديها أدنى اعتقاد بجرائمهم المزعومة ، وأثناء المحاكمات العلنية ، كانت تحتل مكانها في مفارز عصبة الشباب التي تطوف الساحات منذ الصباح حتى المساء وهي تردد بين الحين والآخر : الموت للخونة ، وخلال برنامج « دقيقتان من الكراهية » ـ برنامج كان الحزب ينظمه لتوجيه الكراهية نحو اعدائه ـ كانت تبز الآخرين في الصياح بالاهانات نحو غولدشتاين ، بالرغم من انها لم يكن لديها إلاّ فكرة مبهمة عن من يكون غولدشتاين وأية تعاليم يمثل ، وغولدشتاين هذا الذي لا نعرف حتى نهاية الرواية هل هو انسان موجود فعلاً ام ان الحزب قد ابتكره ليجعل منه العدو الأوّل للدولة والحزب والأخ الاكبر، وليجعل كل من لا يرغب به من الناس حزبيين وغيرحزبيين متهمين بالاتصال به والتآمر معه ، غولدشتاين هذا كما يقول الحزب : (( كان يشتم الاخ الاكبر ويشجب دكتاتورية الحزب ويطالب بالسلام الفوري مع دولة اوراسيا ، ويدافع عن حرية الكلام وحرية الصحافة والاجتماع والتفكير وهو زعيم لشبكة سرية من المتآمرين للاطاحة بالحكومة تسمّى : الاخوية )) .
أمّا عن اقتصاد البلاد والخراب الذي كان يعمها حيث يعاني المواطنون من نقص في كل شيء حتى في اربطة الاحذية ، فيقول اورويل : (( لم يكن هناك ابداً ما يكفي لأن يؤكل ، لم يكن للمرء يوماً ملابس داخلية أو جوارب لا تملؤها الثقوب ، الاثاث بال متداع دائما ، القاعات قليلة التدفئة ، القطارات مكتظّة والمنازل متداعية ، الخبز مسمر اللون، والشاي شيء نادر، والقهوة رديئة المذاق، والسجائر غير كافية ، لاشيء رخيص ومتوفر باستثناء الجن الصناعي « نوع من الخمر الرديء» ، بينما كانت القهوة الجيدة والشكولاته والمساكن الفارهة والنظيفة والاحياء الراقية والتلفزيونات التي يمكن اطفاؤها ساعة يشاء المشاهد، والطعام الممتاز من امتيازات اعضاء الحزب الكبار والكادر المتقدم فيه ، ومع كل ذلك يستمر الاعلام الرسمي في الحديث عبر شاشات التلفزيون وصحيفة الحزب عن الرفاه والانجازات الهائلة على كافة الاصعدة وخاصة الاقتصادية والعسكرية التي تحققها القيادة الحكيمة للاخ الاكبر، حاكم البلاد .
وفي كل فترة كانت هناك مادة ضرورية ما تختفي وتعجز مخازن الحزب عن تجهيز الناس بها ، تارة تكون هذه المادة ازراراً وتارة اخرى صوف الرفو وثالثة اربطة الاحذية ، والآن هي شفرات الحلاقة ، رغم ان بإمكانك الحصول عليها على اية حال بالبحث عنها وبشيء من المكر في السوق الحرة .
وفي دولة اوقيانيا تدّخل الحزب في الدافع الجنسي الذي كيّفه الحزب لمصلحته ، حين عجز عن القضاء عليه ، فالدافع الجنسي ـ كما يقول اورويل ـ يمثل خطراً على الحزب ، وقد حوله الحزب لمصلحته بدلاً من ذلك ، لقد لعبوا نفس الحيلة مع غريزة الابوة ، اذ لم يكن بالامكان القضاء على العائلة ، وفي الوقت الذي كان الناس فيه يُشجعون على التولع بأبنائهم بالاسلوب العتيق، فإن الاولاد من ناحية اخرى كانوا يحرّضون بانتظام ضد اهليهم ويُلقّنون التجسس عليهم وتسجيل انحرافاتهم ، وهكذا فان العائلة اصبحت امتداداً لشرطة التفكير، واداة امكن بواسطتها جعل كل شخص محاطاً ليل نهار بالمخبرين الذين يعرفونه عن قرب .
وامعاناً في تضليل المواطنين وحجب الحقائق عنهم فقد منعوا من الاتصال مع الاجانب ، وحتى الحليف الرسمي لدولة اوقيانيا كان ينظر إليه دائما بأكثر الشكوك شراً ، وليس هناك أي احتكاك بالاجانب إلاّ ـ وعلى نطاق محدود ـ مع الاسرى والعبيد الملونين ، وإذا ما وضعنا اسرى الحرب جانباً ، فان المواطن العادي في اوقيانيا لم تقع عيناه يوماً على مواطن من اوراسيا أو إياستاسيا ـ وهما الدولتان اللتان كانت اوقيانيا تتناوب الحرب معهما ـ كما انّه ممنوع من الاطلاع على اللغات الاجنبية ، ولو اتيح له يوماً الاتصال بالاجانب فلا شك انّه سوف يكتشف انهم مخلوقات تشبهه ، وان معظم ما قيل له عنهم كان محض أكاذيب وسوف يحطّم العالم المحكم الاغلاق الذي يعيش بداخله .
ان اوقيانيا دولة تقوم حضارتها على البغض ، هكذا يقول المحقق الحزبي لونستون ـ بعد القاء القبض عيه واخضاعه لعمليات غسيل دماغ وتعذيب ـ ويواصل قوله : لن تكون هناك ـ في عالمنا ـ أية انفعالات غير الخوف والغيظ والابتهاج بالنصر واذلال الذات ، سوف ندمر كل ما عداها ، اننا بصدد تحطيم كل عادات التفكير التي تعود إلى فترة ما قبل الثورة ، اننا نحطم الاواصر التي تربط الطفل بأبويه والرجل بالمرأة ، لم يعد أحد يجرؤ على ان يأتمن زوجة أو ابناً أو صديقاً .
ومن أجل منع اي تمرد جماهيري أو حزبي ، فقد قام الحزب بإلهاء الجماهير العريضة بتوافه الامور التي يقف على رأسها الادب الخليع من اشعار ومجلات وأفلام يعدّها حزبيون وحزبيات شغلهم الشاغل انتاج هذا النوع من الادب وتوزيعه بين افراد الشغيلة ، وتقوم بهذه المهمة " وزارة الحقيقة " فهناك سلسلة من الاقسام المنفصلة التي تتعامل مع الادب والموسيقى والدراما وعموم التسلية الموجهة إلى الشغيلة ، ففي هذا المكان يجري اصدار صحف هرائية لا شيء فيها تقريباً سوى الرياضة وأخبار الاجرام وعلم التنجيم والروايات المثيرة القصيرة ذات الخمسة سنتات ، وأفلام تنضح بالجنس وأغان عاطفية .
وابطال الحزب مزيفون ، وعندما يريد الحزب تقديم بطل الى الشعب ، يقوم بطل الرواية الصحفي ونستون ، العامل في صحيفة الحزب الحاكم بصناعة بطل وهمي اسمه اوكليفي ، ويكتب له حياة وهمية ، ويختمها بموته البطولي لتنشر في الصحيفة وسائر وسائل الاعلام بوصفها واقعاً معاشاً : « حقيقة انّه لم يكن هناك شخص اسمه اوكليفي ، الا ان بضعة اسطر من صحيفة وزوج من الصور الفوتوغرافية المزيفة كان من شأنها ان تجعله موجوداً في الحال .. فكر ونستون للحظة ثم سحب نحوه « كاتبة الكلام » وبدأ في املاء الاسلوب المألوف للأخ الاكبر : (( في سن الثالثة كان اوكليفي قد رفض كل الالعاب باستثناء الطبل ورشاشة دميوية ونموذج لهليوكوبتر، وفي السادسة ارتبط بالرقباء مع تساهل خاص للقواعد المعمول بها ، في التاسعة اصبح قائدا لفرقة كشافة ، وفي الحادية عشرة ابلغ عن خاله إلى شرطة التفكير بعد ان استرق السمع لحديث ظهر ان له ميولاً اجرامية ، وفي السابعة عشرة من عمره اصبح منظماً منطقياً لعصبة الفتيان المعادية للجنس ، وبعد ذلك بسنتين قام بتصميم قنبلة يدوية تبنتها " وزارة السلام " وتسببت في مقتل واحد وثلاثين اسيراً اوراسياً في انفجار واحد ، وفي الثالثة والعشرين لقي حتفه في المعركة ، فقد لاحقته طائرة نفاثة معادية عندما كان يحلّق فوق المحيط الهندي وبحوزته وثائق رسمية هامة ، عندها راز جسمه مع رشاشته وقفز من الهيلوكوبتر إلى مياه المحيط الهندي مع الرسائل وكل شيء ، في نهاية من المستحيل كما قال الأخ الاكبر» .
أما أعضاء الحزب، فكل فرد منهم يعيش من الولادة حتى الممات وهو تحت أعين شرطة التفكير ، فهو عندما يكون لوحده لا يمكن اطلاقا ان يكون واثقا من انّه لوحده حقاً ، انّه ـ وأينما كان نائما أو مستيقظا، مشتغلا أو في عطلة ، في حمّامه أو سريره ـ يمكن ان يكون مراقباً دون أي تحذير ودون ان يعرف انّه مراقب ، وليس هناك ما هو غير مهم بين ما يقوم به ، ان علاقات صداقته ، سلوكه ازاء زوجته وأولاده ، سيما وجهه عندما يكون لوحده ، الكلمات التي يدمدم بها وهو نائم ، وحتى الحركات المميزة لجسمه ، هي جميعاً موضع تفحص بالغ اليقظة ، والقاء القبض ـ على من يتهم بجريمة التفكير ـ يحدث دائماً اثناء الليل ، والاعتقالات لا تجري إلاّ ليلا ، حيث الهزة المفاجئة التي تخرجك من نومك والايدي القاسية ترج اكتافك، والاضواء تسطع في عينيك وحلقة الوجوه الخشنة تطوق سريرك .
لم تكن هناك في الغالبية العظمى من الحالات محاكمات ولا تصاريح اعتقال ، فالناس كانوا يختفون بكل بساطة ، وأثناء الليل في الغالب، ان اسمك يرفع من السجلات ويمحى نهائياً كل سجل لأي شيء فعلته في أي وقت مضى ، بل ينكر ثم ينسى ، حتى وجودك في فترة من الماضي يمحى ، ان وجودك كله يزول ويتبخر ـ كما يقال عادة ـ .
في وزارة الحب حيث يتم الاعتقال والتعذيب الفظيع الذي يجبر فيه المعتقلون على الاعتراف حتى بأشياء لم يرتكبوها بل لم يفكروا بها ، ندرك على لسان الجلاد الحزبي المكلف بتعذيب بطل الرواية ونستون ، الهدف من عمليات التعذيب بهذا الشكل السري الطويل جداً ودون علم من أحد ولا محاكمة ولا شهود ، انهم لا يريدون ان يصبح الضحايا شهداء يحظون بأدنى تعاطف من أي احد أو ان يكتب التاريخ عنهم فيما بعد لينظر اليهم بوصفهم شهداء ، يقول المحقق أثناء استجوابه لونستون في أحد اقبية وزارة الحب : (( الامر الاول الذي عليك ان تدركه هو انّه لا وجود في هذا المكان للاستشهاد ، لقد قرأت عن الاضطهادات الدينية في الماضي ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى لكن ذلك كان افلاساً، فقد أرادت محاكم التفتيش ان تجتث الهرطقة لكنها انتهت بتخليدها ، ومقابل كل منشق احرقته محكمة التفتيش فوق خازوق بُعث الآلاف ، لماذا كان ذلك ؟ .. لانّ محكمة التفتيش قتلت اعداءها علناً، وقتلتهم وهم لا يزالون غير تائبين ، وفي الحقيقة انها قتلتهم لانهم كانوا غير تائبين ، كان الرجال يموتون لانهم لم يتنازلوا عن معتقداتهم الحقيقية ، ومن الطبيعي بعد ذلك ان يكون كل التمجيد من حصة الضحية فيما يلحق كل الخزي بالمحقق الذي احرقها ، وفي القرن العشرين كانت هناك انظمة سمّيت بالاستبدادية ، وقد اضطهدت الهرطقة على نحو اكثر قسوة مما فعلت محاكم التفتيش تلك ، وتصوّر سدنتها انهم قد تعلّموا من اخطاء الماضي ، وتعلموا ـ على أية حال ـ ان على المرء ان لا يخلق شهداء، لقد كانوا ـ وقبل ان يقدّموا ضحاياهم إلى محكمة علنية ـ يهيئون انفسهم بترو لتحطيم شرفهم ، وكانوا يرهقونهم بالتعذيب والعزلة حتى يصبحوا حقراء تعساء اذلاّء يعترفون بكل ما يوضع في افواهم ، يتبادلون التهم ويحتمون بعضهم ببعض ، وينشجون طلباً للرحمة ، ومع ذلك فان الامر نفسه حدث من جديد بعد بضع سنوات فقط ، فقد اصبح الموتى شهداء ، واصبح خزيهم منسياً ، ومرة اخرى، لماذا كان ذلك ؟ .. في المقام الاول ، لان الاعترافات التي ادلوا بها كانت منتزعة وغير صادقة على نحو جلي ، اننا لا نرتكب أخطاء مثل هذه ، ان كل الاعترافات التي تلفظ هنا حقيقية ، نحن نجعلها حقيقية ، كما اننا وقبل كل شيء لا ندع الميت يبعث ضدنا .. ان عليك ان تكف عن تصور ان الاجيال القادمة سوف تبرؤك يا ونستون ، الاجيال القادمة لن تسمع بك اطلاقاً ، ولن يكون هناك أي وجود لك ، سوف نحولك إلى غاز ونصبك في الفضاء، لا شيء سيبقى منك ، لا اسم في سجل ولا ذكر في دماغ حي ، انك ستكون ملغياً في الماضي ـ كما في المستقبل ـ انك لن تكون موجوداً أبداً )) .. وحين يتساءل ونستون وهو يعقب على كلام المحقق اعلاه : (( لماذا يزعجون انفسهم اذن بتعذيبي ؟ يأتيه الجواب من جلاده : (( ألم اقل لك اننا نختلف عمن سبقنا من المضطهدين؟ اننا لا نكتفي بالاذعان السلبي والاستسلام الاكثر اذلالاً ، عندما تستسلم لنا في النهاية ، فان ذلك لابد ان يكون بمحض ارادتك الحرة ، نحن لا نحطّم المنشق لانه يعارضنا ، وسوف لن نحطمه طالما ظل يعارضنا ، نحن نهديه ، ننتزع عقله الباطني ونعيد تكييفه من جديد، اننا نجعله واحداً منا قبل ان نقتله ، لقد كان المنشق في الازمنة السالفة يسير إلى الخازوق وهو لا يزال منشقاً وينادي بهرطقته ، مبتهجاً ابتهاجاً شديداً بها ، وقد قفل جمجمته على أفكاره المتمردة التي يتشرب بها ، اما نحن فاننا نجعل الدماغ « مثالياً» قبل ان نفجّره… لم يقف بوجوهنا ابداً احدا ممن اتينا بهم إلى هذا المكان، اننا نمحوه تماماً، حتى هؤلاء الخونة الثلاثة البائسون ـ الذين اعتقدت ذات مرة انهم ابرياء ـ جونز وأبارونسون ورذرفورد « هذه اسماء اشهر ثلاثة من الذين اتهمهم الحزب الحاكم بالتآمر ضده وأعدمهم بعد ذلك » وسحقناهم في النهاية ، لقد شاركت شخصياً في استجوابهم، وقد رأيتهم وهم ينهارون تدريجياً ، ينشجون وينحبون ويذرفون الدموع لا من الالم أو الخوف بل من الندم لا غير، ومع انتهائنا منهم لم يتبق منهم سوى هياكل لرجال ، ولم يتبق منهم شيء سوى الأسى مما كانوا قد ارتكبوه ، والحب للأخ الأكبر، حباً يفوق التصور، لقد توسلوا ان يعدموا بسرعة كي يتسنى لهم ان يموتوا وعقولهم طاهرة )) .
والان ، بعد اكثر من نصف قرن على صدور رواية (( 1984 )) .. الى اين وصل العالم ؟ واين هي الحرية الانسانية ؟ وكم نموذج من « الأخ الاكبر » مر في تاريخ البشرية الطويل الدامي ؟ وهل يكون هذا العذاب هو قدر البشرية المحتوم على كوكبنا ؟ هل ننتقل من « أخ أكبر » الى « أخ أكبر » جيلا بعد جيل ؟ ام اننا سنرى يوما ما اخا حقيقيا وليس اخا اكبر ؟







التوقيع :
الدكتور اسامة الحاتم

قديم 13-02-2006, 04:42 PM   رقم المشاركة : 2
دامبيش
Band
 
الصورة الرمزية دامبيش
 







دامبيش غير متصل

مشكور على هذه الرواية







قديم 13-02-2006, 04:43 PM   رقم المشاركة : 3
دامبيش
Band
 
الصورة الرمزية دامبيش
 







دامبيش غير متصل

مشكور على هذه الرواية







موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:35 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية