ترنّحَتْ كثيراً قبلَ أن تسقطَ حبّات الرُمان من فمها على الأرض . كان يُمسِكَ بيدها فيحسُّ بنبضها الساخن و الدمُ يجري في غورها دفقات ٍ متقطّعة ، كُل واحدة ٍ يَكادُ يَسمعُها تنطقُ بإسمهِ علناً ، و في باطن ذراعها البيضاء الرَخصة انتفخَتْ شراينٌ خضراء بلونِ العشب ، فرفعَ رأسهُ و تطّلعَ إليها فوجدها تلهث بصعوبة . ساءلها بعينينِ حزينتين لعلّها تُجيب . لكنها لاذتْ بصمتٍ مُطبق ، و فاضتْ وجنتاها بحمرةٍ قانية تفشّتْ و ارتعشتْ لها الشفتان ذاتا النتوء الجلديّ الأشبه بالثؤلولة . يحتضنُها بين الحشائش و رمل الغابة ، إلا أنهُ آثر أن يفعلَ ذلك بشرف .. كأنما فارسٌ شجاع يمسُّ أرنبة أنف خصمه دونَ أن يجرحها أو يخدشها .
التي طَفرتْ لأجلها عيناهُ بالبكاء و أحسَّ من خلالها بنشوة ِ ذرف الدموع على رغم ٍ من تجهِّم طبعه و خشونة ِ ردّ أفعاله . كانت هي ، المكتنزة و الممتلئة كوردة ٍ مضمومة و المحشوّة برحيق ٍ معسول ، المُشتهاة لديهِ أبداً ، و التي لا يقدرُ على استيعابها في أحلامه ما دامَ حَضَرَ وجهها الحلو في مخيِّلته و ابتسامتها المقسَّمة على غمّازتين بالتساوي . ذاك ما يسميّه عَدل الجمال ، و أن بوسع الجمال أن يَحَكُمَ جنباً إلى جنب مع الحكمةِ و القوة . بل حدا بهِ الأمر أن يَقصِدَ بيت المختار كي يُفاتحه بما جادتْ بهِ تأملاّته الطويلة في ظلِّ شجرة الرمان ، و يَشرحَ بجملٍ قليلة مُقتصِّدة أهميّةَ الجمال في حياة الناس و مَرد تجاهلهم و إزدرائهم لهُ هو سببُ مصيبتهم و سوء طالعهِم . افلتتْ من ذراعه و قد ندّتْ عنها تأوّهة ، أخذَتْ تحبو على ركبتيْها و شعرُها يتهادى تلاعِبهُ الرياح . مدّتْ يدها إلى حبّات الرمّان المُنتثرة و التقطتْ ما تَبيّنَ بعدئذٍ سِنّها الذي فقدتهُ أثناء تزاحم الرمّان و عصيرهُ في جوف فمها . حملتهُ في باطنْ كفّها و عرّضتُهُ لأشعة الشمس فلمعَ في رأسهِ مرةً أخرى مرآها و هي تلوّح لهُ بالوداع قُبيل الظهيرة بقليل .
سبّلتْ عينيِّها بينما تشاهدُ القط الرماديّ الذكر يعبرُ على السور المهدّم ، و الذي بناهُ أبوها حول البيت الطينيّ كي يَمنع تسلل المارقين في الليل و السائحينَ في أرجاء القريةِ ، و منهم الثوّار الهاربون و اللُقطاء المشرّدون و المجانين و اللصوص و غيرهم . فيحولُ بذلك اتخاذ حديقة البيت الواسعة و المتراميّة الأطراف حتى البستان كملجىء ٍ و مَخبأ من المُطرادة ، فيأمن العواقبَ و شرور التحرّشات . لكن السور رجعَ فتهدّم ، خارتْ أحجارهُ مثلما انفرطَ سِنّها و هي تقضمُ قلبَ الرمّانة ، اليوم عند الظهر . أمسكتْ بثمرة ِ رمّان ٍ موضوعة بجوّار حبّات أُخرياتْ التقَطها لأجلها بنفسه . و قامتْ من مجلسها ضاحكة ً و رمتْ الرمّانة من الشبّاك المفتوح فدقّتْ القط في ظهره . ماءَ القط و جعلَ يُفلفِص بقدميهِ في الهواء ، مُتشبِّثاً بحافةِ السور .
قد شَهِدتْ القريّة بأهلها مجتمعين أجواءاً متوتّرة مرّتْ بها عند عصر ذلك اليوم . تواجهَ الشابّان ، و أعلنَ كلاهما أنهُ سيُمرّغ شوارب الآخر في الطين ، تطايرَ الشرر و أقبلا يشتبكان بالأيادي ليدقّا عنقَ بعضهما البعض . فرّقَ الناس بينهما ، إلا أن طلقة الرصاص التي خرجتْ من مسدّس جميل شبكة ، أبو علي ، هي التي تكفّلتْ بإنهاء الموقف و فضّ العراك . قال جميل لعصام : يا ولد ، نحن نعلم فصلك و أصلك ، و الأنسب لك بطن الوادي .. أعلمُ أن ولدي على حق ، و ليسَ لك في هذه القرية محطّ رِجل .. انصرفْ الآن و لا ترنا وجهك .
مشى عصام في الطرقة الترابية يجرُّ خلفهُ الحمير المريضة . كان حانقاً يَحدِجُ الوجود بسَخط ٍ مقيتْ .. نَزلَ إلى حفرة ٍ صَنعتها يدُ الطبيعة ، كانَ في نيّتهِ أن يُدخِّنَ سيجارة غيرَ أنهُ استغرقَ في النوم و قطيعُ الحمير حولهُ مربوطةٌ تَمتنِعُ عن أكلِ حَشاشِ الأرض .
بَعدَ أن تجرّأ عصام الجربوع على مقابلته أمامَ الملأ ، و حرّضَ كل القريةِ عليه ، مُنبِّهاً للخطر الذي سيؤول إليهِ مَرض الحمير ، و لا علاقة مُطلقاً لإنقصاف شجر الرمّان و عُريه من الأوراق و عَدم حَبْلهِ هذا الموسم و ما أصابَ الحمير . بل إن خطأ علي ، ابن جميل شبكة ، خَلقَ أصل الخلل و البلاء . فمنذ عام ٍ و نيّف ، استحوذَ علي ، الشاب موفور الصحة الذي يمتلكُ لحيةً ناعمة ذهبية جذبتْ إليهِ البنات المُغرمات بقوّته و سطوته و اعتدادهِ بنفسه ، على حق التصرّف بالدواب المتحركة كالخيول و الحمير ، في عموم القرية و بتفويض ٍ من المختار ، طَردَ الحمير لأنها نسلٌ وضيع و تَركَ القرية أسطبلاً كبيراً تصفِّق فيهِ خَببُ الخيول و المهوّر . اشتكى الناس ، احتجوّا .. قالوا كلاماً لا يجوز أن يُقال بحضرةِ المُختار و الشادّ على يده ، الذي في ظهرهِ و سَنده ، الآغا جميل شبكة .
استبدلَ أهلُ القرية حَميرهم و أتونَهم بالخيول الأغلى سعراً ، بشرط أن يَذهب ريعُ المحصول للسنةِ الأولى من شُغل الخيول في الأرض إلى جيب الآغا .. و الكُل مُلزَم .
حَزرَ اللُعبة ، و صَدقَ حَدسُه إزاء ما اتفقَ عليهِ الشيطانان ( المختار و الآغا ) ، الحميرُ مَريضة و سيُلقى بها إلى مزبلةِ الوادي دون اعترافٍ بماضيها المجيد في خدمة الأرض و أهل القرية . يَجب عليهِ أن يتصرّف فوراً . على باب القرية توقّف ، كانَ يضع كفّه في جيبه و يتحسس سنّها اللؤلؤ الذي احتفظَ بهِ و يخافُ أن يضيّعه وسط الخناقة مع الإبن المُدلل ، علي جميل شبكة .
أقسَمَ إلا أن يأخذها و لو خطيفة ، صمَم أن يَعقِدَ عليها بعد صلاة المغرّب . حاولَ الأب أن يقنعهُ بتأجيل الموضوع ، لكنهُ أبى ..
- أنتَ و المختار سَمنة على عسل . تعرف ما في داخله جيداً ، و سرّه في يدك مثل قشرة رمّانة . و البنتْ أخمرتْ عقليّ و تُرضيّ صبَابتي و ذوقي . فإذا لم أتزوجها اليوم فلن أتزوجَ أبداً ! .
شرّقَ بالدمع قُبالة شجرةَ رُمانٍ صغيرة لم يَنبُتْ عليها ثَمرٌ بَعدْ . شَعرَ بأنهُ محسود و مُستضَعف مغموط في حقه . كان العرس يُشعِل ليل القرية و أصوات الرقص و الطبل تصلُ إليه فتنزلقُ فوق الصخور مرددةً الصدى خلال الغابة و على مسامع الحمير الميتة و التي نَفقتْ بعد أن قَضتْ المساء تَحتضِر .
فَركَ عينيهِ مُستسلماً لقَدرٍ حَتّمَ عليهِ الإستيقاظ كي يجدَ زهرتهُ قد ٌقُطِفتْ و صارتْ في عُروة ثوبِ مَنْ لا يستحق .
حَملها على فَرسه و الناس يهنأونهُ و يغنوّن خلفه . طارَ بها في الظلام و الغُبار يُكوّن زوابِعهُ و أعراسهُ الخاصة . مضى بها و كفهُ تَمسّد مسدّسهُ في جيبه ، يَخافُ أن تقومَ جثّة َ عصام من مرقدها وسط الحمير في بطن الوادي و تُفسِدَ عليهِ ليلتَه . خَطفَ قُبلة أولى من شفتيّها الريّانتين و ألقى بجسدها المُسرّبَل في ثنايا الفُستان الأبيض على المِقعد . صبّ خمرَ رُمان ٍ مُستوّرد و أحضَرَ كأسين ..
لم تشأ أن تُخبِرهُ أن طعم الرمّان الحاذق باتَ يَلذع الفراغ الذي خلّفهُ السِنّ في موضع اللثّة . بل أسلمَتهُ قيادها .. بحكم العادةِ و الجَبروتْ ..