طريق الهلاك.. والضياع قصير.. بل قصير جدا تبدأ بهفوة وتنتهي بكبوة, كثيرون يغويهم الشيطان.. منهم من يستعيذ بالله ويقاوم ومنهم من ينهار ويستسلم والقوي هو الذي يصمد امام رياح الضياع.. والانفلات.
(ع) شاب في ريعان الشباب, في التاسعة والعشرين من عمره.. اكمل المرحلة المتوسطة ولم يواصل تعليمه.. لظروف ومسببات يعلمها هو.. حالته الاجتماعية مطلق.
استيقظ الشيطان
في لحظة غاب فيها عقله واستيقظت شياطينه.. فقد السيطرة على نفسه.. وعلى مشاعره.. وعلى كل الضوابط والقيم التي تحكمه.. واعتدى على نفس بريئة..
الحادث الاليم وقع في شقة مفروشة على طريق المدينة في قلب جدة.. القتيلة في الثلاثين من عمرها حامل وام لاطفال صغار كانوا ينتظرون الحضن الدافئ والحنان المتدفق من امهم الراحلة التي ودعت الدنيا.. معذورة..
الطفل عمره 7 سنوات والطفلة 5 سنوات استيقظا وهرعا كعادتهما كل صباح للارتماء في حضن الام.. التي كانت مستلقية على الارض مغمضة العينين ظنا انها نائمة..
اصحي يا ماما
الام المغدورة لا تسمع لانها ببساطة كانت قد رحلت عن الدنيا بعد ان اعتدى عليها مجرم بالضرب.. حتى فاضت روحها..
صراخ.. وعويل
امام مشهد الام المستلقية على الارض وسط بركة الدماء استجمع الصغيران انفاسهما وبدأت صرخاتهما التي تقطع نياط القلب.. ترتفع.. رويدا.. رويدا من يسمعهما.. فباب الغرفة في الشقة المفروشة مغلق.
كانت (س) على موعد مع مصيرها المحتوم في هذه الشقة فارقت الحياة على عجل قبل ان تودع صغارها.
سر الغرفة رقم (15)
الشاب (ع) توجه في ذلك اليوم الى احدى الشقق المفروشة في حي البوادي شمال جدة بقصد الاقامة فيها لمدة محدودة.. وفي مثل هذه الحالات يتولى موظف الاستقبال المسؤول عن تسجيل بيانات النزلاء.. ضبط عملية الدخول والاقامة وفق اجراءات معلومة تعمل بها الفنادق والشقق المفروشة.. وهذا ما حدث بالضبط..
طلب الموظف من الشاب ان يبرز دفتر العائلة التي توضح حالته الاجتماعية فابرز المطلوب منه.. ورقة رسمية مضافة عليها اسم زوجته التي كان قد انفصل عنها في فترة ماضية..
يبدو انه كان يخفي شيئا ما بداخله.. فاحتال على موظف الاستقبال الذي انطلت عليه الحيلة..
دفترة العائلة
الاجراء الذي قام به مسؤول الشقة لا غبار عليه.. فقد استطاع الشاب ان يوهمه بدفتر احوال فيه اسم زوجته المطلقة..
الذي حدث بالضبط في جريمة مفروشة البوادي..
السيدة (س) اخذت طفليها وجاءت في زيارة للشاب في شقته المفروشة ولم تلفت هذه الزيارة انظار مسؤولي الشقة ظنا ان الزائرة هي زوجة الشاب المستأجر..
بقيت السيدة واطفالها مع الشاب طوال الليل.. ودبت مشاجرة بينهما وفقد (ع) اعصابه.. وغاب ضميره.. وثارت دماء الغضب في شرايينه واوردته, اظلمت دنيا العقل والصبر والاتزان في عينيه فتناول طفاية سجائر وضرب بها السيدة على رأسها.. ولما ترنحت المغدورة اخذ رأسها بين يديه وضرب بها على الجدار حتى سقطت صريعة وسط بركة من دمائها..
سم (القشطة)
ناح الجاني بعد ارتكابه لجريمته متأثرا بسريان سم (القشطة) المخدرة في جسده.. نام ضميره.. فراح هو في سبات لم يستيقظ منه الا عند الساعة العاشرة صباحا وبعد ان راحت (السكرة) وجاءت الفكرة.. ذهب يوقظ السيدة.. ووجد انها وسط نهر من الدماء.. عرف انها رحلت ولفظت انفاسها.. وفي هذه اللحظة بالذات عادت اليه (الفكرة).. بدأ يندب مصيره.. ها قد وقع المحظور وانكشفت (الحجب) و لاحت ساعة مندم..
كيف الهروب
فكّر (ع) في مصيره الاسوأ الذي ينتظره فقد ارتكب جريمة قتل كاملة ومكتملة.. راح يجوب انحاء الغرفة يمشي ويجيء.. يفكر في مصيره.. ينظر الى جثة القتيلة.. ثم يعود يقطع الغرفة بخطوات واجفة.. وجسد مرتعش.. وقلب يدق مثل الناقوس في صدره.. ما العمل.. كيف السبيل الى الهروب.. وبعد دقائق.. افاق (ع) من هول الصدمة وآثار الفجيعة.. توجه الى جهاز الهاتف الصغير الموضوع على منضدة بقرب الفراش.. وادار القرص بيد مرتعشة ونفس لاهث.. قرر في (لحظة) استيقظ ضميره.. ان يفاتح والدته بما حدث.. عن الطرف الآخر وفي منزل الوالدة كان جرس الهاتف مثل زغاريد الثكالى.. يرن.. ويرن.. توجهت الام ملتاعة الى التلفون وفي الثواني القليلة التي تفصل بين وصولها الى التلفون ورفع السماعة دار بخيالها الف هاجس.. هذا الرنين غير عادي.. يبدو ان هناك مصيبة وقعت.. يارب سترك ورضاك..
لماذا يا ولدي?
بقلب الام شعرت ان مكروها اصاب فلذة كبدها.. قرة عينها ولدها (ع) تركت الام الواجفة اوهامها وهواجسها جانبا ورفعت السماعة.. وردت..
آلو.. مين?
وفي ثوان كانت الام قد انهارت على كرسيها وهي تصرخ.. مو معقول.. لا حول ولا قوة الا بالله.. لماذا يا ولدي.. وتمازجت صرخاتها مع انين مكتوم وبكاء.. لقد حدثت مصيبة..
جثة.. وصغار يبكون
سبقت خطوتها ضربات قلبها فسارعت الام الى الشقة المفروشة ورأت ابشع منظر رأته عيناها طيلة حياتها..
سيدة ممددة على الارض.. وصغارها يبكون حولها.. وفي لحظات كانت تفاصيل المأساة الفاجعة قد اكتملت ملامحها عندها..
الشاب قتل سيدة غريبة.. جاءت تزوره باطفالها..
تمالكت الام نفسها واستجمعت شجاعتها.. فابلغت الشرطة بما رأته عيناها.
وهل يفلت مجرم?
على الطرف الآخر.. كان الجاني قد هرب قبل وصول والدته الى الموقع.. خرج من الشقة رقم (15) وتسلق جدار البناية من الناحية الاخرى.. ثم هبط على الارض ظن ان العيون لا تراه.. ولم يعرف ان عين الله لا تنام..
عين لا تنام
في تلك اللحظة كان ضابط دوريات الامن الملازم سعيد القحطاني يمارس مهامه كالمعتاد ميدانيا.. ولفت نظره شاب يهبط من سور بناية.. وتابعه بحس امني يقظ والقى القبض عليه بعد ان اثارت شكوكه قطرات من الدماء في ملابسه.. اقتاد الملازم سعيد الجاني الى حيث جاء.. وهناك في قسم الاستقبال بالشقة المفروشة سأل الضابط الموظفين ان كانوا يعرفون هذا الشاب فاشاروا اليه بالايجاب وحددوا موقع شقته وقبل ذلك كان قد تم ابلاغ عمليات الامن بالحادث..
في نفس اللحظة التي كانت عمليات الامن تتلقى بلاغ الجريمة.. كانت والدة الجاني تبلغ عن ابنها القاتل..
سارعت فرقة من الهلال الاحمر الى المفروشة وبعد الكشف على الجثة اعلنوا ان لا حياة في الجسد المسجى وتم نقل الجثة على عجل الى المستشفى لاكمال الاجراءات اللازمة.
اعترافات دامية
تولى التحقيق في القضية العقيد محمد الجهني مدير قسم شرطة الكندرة بمساعدة المقدم احمد العبدلي ورئيس قسم التحقيق المقدم دحيم الشيباني..
واشرف على ملف القضية وتداعياتها وتفاصيلها المحقق الجنائي محمد بن ربيع القحطاني.. حيث ادلى المتهم باعترافات رسمية روى فيها تفاصيل جريمته, ويقول (ع) في اعترافاته:
نعم.. جاءت الى هنا
ذهبت يوم الخميس الى الشقة المفروشة بحي البوادي واستأجرت المسكن رقم (15), والمرأة حضرت الى شقتي مع اطفالها.. في هذا سأله المحققون.. لماذا حضرت الى شقتك?.. اجاب:
لا اعلم.. ويمضي في اعترافاته:
طفاية السجائر
حدث بيني وبينها مشاجرة وفقدت اعصابي وضربتها على رأسها بطفاية السجائر ثم ضربتها على جدار الشقة وفي تلك الحظة كان الاطفال نائمين.. تناولت (القشطة) ـ نوع من المخدرات ـ ونمت ثم استيقظت في حوالي الساعة العاشرة وذهبت لايقاظها ووجدتها جثة هامدة لا تتحرك.. وعلى الفور سارعت بالاتصال هاتفيا على والدتي التي تسكن في حي البوادي وابلغتها بالامر.. ولما جاءت وشهدت ما رأت تأثرت جدا.. يشهد الله لم اقصد قتلها.. الشيطان اغواني ودفعني الى ضربها..
وقال الجاني في التحقيقات انه تناول المخدر ثم تشاجر مع السيدة التي وجدت نفسها في مأزق.. وحاولت الهروب بفتح باب الشقة غير انه سحب المفتاح ومنعها من الخروج.
رعب الاطفال
الطفلان اللذان كانا في غرفة بالشقة اصيبا بالخوف والهلع والرعب بعد ان شاهدا جثة امهما.. ظنا في بادئ الامر انها نائمة وحاولا ايقاظها الا انها كانت بلا حراك.
المحققون واجهوا الجاني بالادلة والبينات واثار البصمات والقرائن المعاينة.. ولم يمض وقت طويل حتى انهار الجاني معترفا بفعلته.. وذكر انه ارتكب جريمته مساء وانها توفيت صباحا..
ادلة حاضرة
الفريق الامني الذي تابع الجريمة واشرف على التحقيق الميداني حصل على ادلة مادية من مسرح الجريمة اكدت صحة اقواله.. وكان المحققون قد عثروا داخل الغرفة عن ملابس المغدروة وحذائها وبعض اشيائها الخاصة..
واوضح الجاني انه لم يتعد على الاطفال لانهم كانوا نائمين في غرفة مجاورة.. وارجع سبب الحادث الى الفراغ والمخدرات وحالة الاكتئاب التي كان يعيش فيها..
ويعترف..
دخلت طريق تعاطي المخدرات عن طريق اصدقاء السوء الذين قدموا لي سيجارة.. ثم تطورت حالتي وبدأت اسهر مع بعضهم في المقاهي..
القاتل لـ(عكاظ):
لم اتعرض لضغوط
(عكاظ) التقت الشاب القاتل بعد تسجيل اعترافاته امام المحكمة.. نعم ادليت باعترافات كاملة وصادقت المحكمة على ذلك.. لم اتعرض لاي ضغوط اعترفت لفضيلة القاضي بكل شيء وها انا انتظر قدري المحتوم..
ادعو الله ان يتوب علي.. وارجو من والدتي الحبيبة ان تسامحني فيما فعلت فقد جلبت لها ولاسرتي المتاعب. في التوقيف تعرف (ع) على عدد من الاشخاص المضبوطين على ذمة قضايا مختلفة..(تناولنا الطعام معا.. ونسيت ما حدث للمرأة الضحية.. النزلاء خففوا من آلامي.. حاولوا ان يجعلوني صديقا لهم..)
مصدر قضائي ذكر لـ(عكاظ) ان قاتل المرأة الحامل يسجن لمدة 13 سنة حتى يكبر ابناؤها لاخذ رأيهم شرعا.. إما التنازل أو.. القصاص.
لاحول ولاقوة الابالله
الممدوح
العرض العادي
