الوجــوه الخــاوية
[align=justify]عمله يتطلب طبيعة قاسية.. يجب ألا يطرف له جفن أو يختلج وتر من مشاعره.. يجب أن يكون متبلد الحس مصمت الوجدان يؤدى عمله فى روتينية قاتله..عليه أن يجلس طوال اليوم يراقب تلك التوابيت البشرية ويدون تلك الطلاسم الغبية ..التى باتت هى الأخرى ميتة لا تتغير..!!
يرقب تلك الوجوه الخاوية.. الخالية من نبضة حياة .. زملاؤه يطلقون عليها المقبرة وبعضهم يداعبه ملقباً أياه بـ (الحانوتى) .. فالداخل عنده مفقود وبالقطع الخارج مولود .. لكنه لم يشهد أحداً أبداً يخرج .. اللهم إلا محمولاً على الأعناق..؟!
كان يجلس الليال الطوال وسط صقيع الفراغ الموحش والوحدة.. بين أمواج الألم والعجز.. واليقين أنه لن يستطيع أن يفعل شيئاً لهم.. يشعر كما لو أنه يعيش فى كابوس مبهم الملامح.. وسط الأحياء الأموات..كان يحس نفسه غريباً عن كل العالم العبثى الذى يعيش فيه.. لذا كان يحاول التأقلم مع ذاته.. كى يحيا حياة عادية طبيعيه ..يحاول أن ينفض عن كاهله غبار الكابوس اليومى الطويل.
كان يجلس كثيراً يتحدث معهم وكأنه يعرفهم ..يحاورهم ..بل ويشكى لهم همومه وأحزانه..!! ويناديهم بأسمائهم ..بل كان يناديهم بكنياتهم..!!
فهذا (درش) و ذاك (أبو خليل) وهناك (سحس) وهذه (أم محمد) وتلك (بطه) بل كان يسليهم ونفسه مردداً بعض الأغانى الشبابية ( عشانك ياقمر ..اطلعلك القمر.. وعشان هواك أمر ..أحبك يا قمر..أأحبك..)
- برغم صوته الأجش الخالى من الطرب وتلك اللدغة الخلقية فى لسانه عند نطق الراء-
فهم رفقة العمر والصحبة التى قضى معهم زهرة شبابة وجلس معهم الأيام الطوال والشهور والسنوات أيضا فى النادر من الأحيان..!!
كان يحزن أيما حزن ..حين يفقد أحدهم .. وتتساقط منه دموع الحسرة والألم رغماً عنه.. ويعتصر قلبه بين الحنايا شوق مر لأفتقاده ويشعر كما لو أن خنجراً بارداً يشق صدره حينما يرى فراشه الخاوى..لقد كان منذ لحظات قليله يجالسه ويحادثة ويوأنسه ويأتنس بوجوده..وفجأة أنتزعته يد القدر منه..؟!
لكن ساقية الحياة ما تفتأ أن تعود إلى بحر اللا نهائية الضيق.. فتقشعر الروح أمام تلك الحقيقة الثابته وتتحجر الدموع فى الأعين فلقد علمته الحياة ألا يضحك من القلب ولا يبكى بشده.. وأن هناك بعداً أخراً للأشياء.. فلربما كان الموت أكثر راحة من حياة هى أقرب منها للموت منها للحياة..!!
...ذات يوم من الأيام.. أنفتح باب القبوالمعدنى..ليأتيه صوت عم (على) التمرجى قائلاً له فى فرح طفولى ساذج:
(أبسط ياعم وافد جديد..أنما أيه آخر حلاوة..!!)
نظر بلهفة المشتاق إلى سبر أغوار الحقيقة وأزاحة استار الغيب .. وقف مشدوها ينظر إلى ذاك الجسد النحيل المسجى فى سلام تام..
و إلى الوجه الملائكى المشع بالنور والضياء..كزهرة أوركيد بيضاء..وتلك البشرة الناعمة..كنعومة الحرير
الشفاف.. وحمرة الحياة المشعة من الخدين و التى لا تملكها الجماجم الأحياء..والعينان الشاخصتان تنظران إلى اللاشىء ..نظرة تجمع ما بين الحزن والأمل والرجاء بالرغم من سنواتها التى لا تتجاوز العشرين.
أفاق على رذاذ المياه البارده التى نضحت من جبينه وقد تحركت داخله مجهولات شتى واحاسيس متضاربة
..أذابت ثلج مشاعره النائمة منذ زمن..!! فطفرت من عينيه دمعات حزن مرة المذاق وتمتم قائلاً (سبحان الله) ولوى وجه يعتصره الألم.. يخفى غمامة الدموع التى أغشت عينيه ورجت روحه صارخاً: (يــالا الأقــدار..؟!)
سريعاً ما وٌضِعت على الأجهزة الإلكترونية ..واتصلت بشبكة الأنابيب اللانهائية وأخذت رقما من الأرقام المتوالية..
وأطبق الصمت على المكان.. وأحس ببرودة القبر.. وصقيع الوحدة الموحش.. فأقشعر جسده ..وسكن فى العقل والوجدان شجناً نابضاً..وفضولا لاذعاً أن يصافح وجهها من جديد.
وجد نفسه يهمس فى أذنيها الدقيقتين قائلاً: (أنا هنا معك.. بجانبك..أرعاك وأحرسك..لا تخافى..سأظل دوما بجوارك ..أؤنس وحدتك وأشاركك غربتك..أنا فارسك الذى ظل طويلاً ..يبحث عنك..كى ينقذك..لن أتتركك تستسلمين.. فأنت حبيبتى التى انتظرتها على مر السنين ..نعم أحس أنى أعرفك منذ زمن بعيد ..ربما من قبل أن تولد الحياة ..ربما أنت هى تؤام نفسى التى بحثت عنها طويلاً..ولم أعرف حقيقتها إلا حين رأيتك ..جئتك الآن كى أخلصك..كى أعيدك للحياة.. هذه هى يدى ممدودة إليك فأقتربى منى..ودعينا نكمل مشوار الحياة معاً.. أنا لم أسع إليك بل قدرى هو من ساقنى إليك..هيا بنا دعينا نرى نور الشمس ..نمسك بريشات الحلم.. نرسم مستقبلنا قمراً مكتمل النور كالبدر.. ونقهر شياطين المستحيل )
...إنساب صوته دافئاً عميقاً داخل أذنيها..متخلالاً خلايا جسدها.. فأحست بشلال من القوة يغرق عجز الواقع.. وشعرت بدفء مياه المحياة تجرى فى العروق ..وأرتج الجسد بنشيج من النشوة والفرح. [/CENTER]