كان الناس قبل شيوع الطب الحديث يعتمدون في معالجة امراضهم على الطبيب الشعبي، أو كما كانوا يسمونه بالحكيم. وفي العالم الإسلامي، تولى هذه المهنة بصورة خاصة اليهود والنصارى. وكما يذكر المؤلفون، اعتمد صلاح الدين الأيوبي على العالم والفقيه اليهودي الشهير موسى بن ميمون في معالجته. وفي العشرينات والثلاثينات من أيام الخير، اشتهر في هذا الميدان في بغداد الحكيم اليهودي اسحق أبو شموسة، وكان اليهودي الوحيد الذي سكن في منطقة سوق الجديد من صوب الكرخ، وتلقت ابنته شموسة تعليمها في مدرسة الكرخ النموذجية.
بيد أن أبو شموسة هذا كان على درجة من طيبة القلب وكرم النفس، بحيث لم يكن يجلس وينتظر المرضى يقصدونه، بل كان لا يسمع بمريض ضاقت به السبل إلا وبادر وذهب بنفسه متطوعاً لمعالجته، وقلما لتسلم أجرة على أتعابه، كل شيء في سبيل الله، كانت أيام خير.
يروي المؤرخ العراقي أنور الناصري، كيف أنه في صباه ابتلي بدملة صغيرة في رقبته ظلت تتوسع وتكبر وتكبر رغم محاولات الأطباء المعتمدين، وكل ما استعملوه معها من دهونات ومراهم وأدوية حتى يئس أهله من علاجه، وأخذ الصبي يعاني من الحمى والغيبوبة أحياناً. كان على مثل هذا الحال في صبيحة أحد الأيام عندما سمعت أمه طرقاً على الباب، ذهبت لفتحه، وإذا بها تواجه هذا الرجل بجبته اليهودية وفينته الحمراء يسلم عليها ويعرض خدماته لمعالجة ابنها المريض. كانت الأم يائسة من حالة ابنها، كما قلنا، فسمحت لهذا الرجل الغريب بالدخول وقادته إلى حيث كان أنور مضطجعاً على الفراش، فحصه أبو شموسة ثم وعد بالمجيء عصراً لإجراء العلاج بعد أن يأتي بما يلزم.
وما جاء به من دواء كان كوزاً فيه دودتان من دود العلق، أخرج واحدة منهما ووضعها على جانب من رقبة المريض وتركها تمتص من دمه حتى شبعت، فأخذها ووضع الثانية على الجانب الآخر من الرقبة لتستأنف مص الدم، وأثناء ذلك أخذ الحكيم اسحق الدودة الأولى الشبعانة وراح يعصرها بأصابعه حتى استفرغت كل ما في بطنها من دم في صحن من الرماد استعداداً لإعادتها للعمل، وهكذا ظل يناوب بين الدودتين ويعيد الكرة حتى استغرق الصبي أنور في نوم عميق لم يستفق منه إلا في اليوم التالي.
وعندما استفاق وجد أن الدملة أخذت بالتلاشي، وكان أبو شموسة قد أعاد الدودتين إلى الكوز وبارح البيت بهدوء.
سرعان ما اختفت الدملة كلياً وعاد أنور إلى كامل صحته وعافيته، كان أول شيء فكر به هو أن يذهب مع والده ليشكر الحكيم اسحق ويدفع له حقه. بيد أن الرجل رفض تسلم أي شيء مقابل أتعابه. قال لهما متواضعاً إنه لم يقم بأي شيء، دودة العلق هي التي قامت بالعلاج، وأجرها عند ربها، فما يفعل الدود بالفلوس؟ وعلى كل فهي أخذت أجرتها بغذائها من دم الصبي.
لكن والد أنور أصرّ على رد الجميل بشيء، وعندئذ قال اسحق أبو شموسة لأنور، يا ولدي إذا كنت تريد تجازيني فهات لي كم سعفة من سعف النخل لنصنع منها عرزولة لعيد العرازيل على عادة اليهود وطقوسهم. يروي المؤرخ والكاتب المعروف أنور الناصري، فيقول إنه لم يأت بالسعف لأبو شموسة في ذلك العام فقط، بل واظب أيضاً على ذلك كل سنة، كلما اقترب عيد العرازيل، ذهب واقتطع ما يكفي من السعف وجاء بها إلى بيت أبو شموسة وأقام له عرزولته حسب اللازم.
العرض العادي
