السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِهِ الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحْيه، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهَد في الله بنفسه وماله وعلمه وجاهه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال: «الطهور شطْر الإيمان»(1) أي: نصفه، وذلك أن الإيمان يشتمل على أمرين: نفي وإيجاب، فالنفي: شطر الإيجاب؛ ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الطهور شطر الإيمان .
والطهارة نوعان: طهارة معنويَّة وطهارة حسيَّة، فأما الطهارة المعنوية فهي: تطهير القلب من الشرك إلى الإيمان والإخلاص، وطهارة القلب من النفاق إلى اليقين والإيمان الثابت الراسخ، وطهارة القلب من الابتداع إلى اتّباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وطهارة القلب من الغِل والحقد على المسلمين إلى محبة الخير لهم والنصح ومن العداوة والبغضاء إلى المحبة والولاء، هكذا يجب على المؤمنين أن يكونوا كذلك أخوة متآلفين متحابِّين في دين الله عزَّ وجل .
أيها الإخوة، أما النوع الثاني فهي: الطهارة الحسيَّة وهي: طهارة الأبدان والثياب ومواضع الصلاة من النجاسات والأقذار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استنزهوا من البول؛ فإن عامَّة عذاب القبر منه»(2) هكذا يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
استنزهوا من البول والغائط بالاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالأحجار أو نحوها حتى ينقى المحل بثلاث مسَحَات فأكثر، في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مَرَّ بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» بلى إنه كبير، قال: «ما يعذبان في كبير» أي: في أمرٍ شاقٍّ عليهما بل هو سهل وهو كبير من كبائر الذنوب، قال: «أما أحدهما فكان يمشي بالنَّميمة» يسعى بالإفساد بين الناس، يأتي إلى فلان فيقول له: إن فلانًا يقول فيك كذا وكذا من أجل أن يُفسد بينهما، قال: «وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول»(3)أو «لا يستبرئ من البول»(4) لأنه لا يهتم به أصابَ ثوبه أم بدنه، لا يهتم بتطهيره وتنظيفه، وإن من الخطأ الفادح أن بعض الناس يبول ثم يقوم من بوله لا يبالي بِمَا أصابه منه ولا يستنزه منه بماء ولا استجمار ثم يذهب يصلي وهو متلوّث بالنجاسة وهذا من كبائر الذنوب ولا تصح الصلاة على هذه الحال .
أيها الإخوة، تطهَّروا من الحدث الأصغر «بإسباغ الوضوء»(5) كما أمركم الله به وكما جاءت به السنَّة عن نبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، «سَمَّوا عند الوضوء»(6) استحبابًا «ثم اغسلوا أكفَّكم ثلاث مرّات استحبابًا ثم تمضمضوا واستنشقوا واستنثروا ثلاث مرّات بثلاث غَرَفات ثم اغسلوا وجوهكم ثلاث مرّات: من الأذن إلى الأذن عرضًا ومن منحى الجبهة نحو الرأس إلى أسفل اللحية ثم اغسلوا اليد اليمنى ثلاث مرّات من أطراف الأصابع إلى المرفق - وهو: مفصل الذراع من العضد - ثم اليد اليسرى مثل ذلك والمرفقان داخلان في الغسل ثم امسحوا جميع رؤوسكم من منحنى الجبهة مِمّا يلي الوجه إلى منابت الشعر من القفا والأذنان من الرأس وأما العنق فليس من الرأس، فامسحوا الأذنين: أدخلوا السبابتين في صماخيهما وامسحوا بإبهاميكم ظاهرهما ثم اغسلوا الرِّجل اليمنى ثلاث مرّات من أطراف أصابعها إلى الكعبين - وهما: العظْمان البارزان في أسفل الساق - ثم الرِّجل اليسرى مثل ذلك والكعبان داخلان في الغسل، ويُسَنُّ تخليل الأصابع ولاسيما أصابع الرِّجلين، هذا هو الوضوء الأكمل»(7)«والواجب من ذلك أن تغسلوا الوجه مرَّة وتمضمضوا مرَّة وتستنشقوا مرَّة وتغسلوا اليدين إلى المرفقين مرَّة وتمسحوا الرأس مع الأذنين مرَّة وتغسلوا الرِّجلين إلى الكعبين مرَّة»(8) واعلموا - أيها الإخوة - أن كل شيء يُمسح في الطهارة فإنه لا يُسن تكرار مسحه بل يُمسح مرَّة واحدة؛ لأن الشارع كما خفَّف فيه في الكيفيَّة فإنه خفَّف فيه في الكميَّة أيضًا .
«وإذا كان على الرأس عمامة أو قُبعٌ يشقّ مسحه فامسحوا عليه بدلاً عن مسح الرأس وامسحوا على الأذنين إن خرجتا معه وكذلك الناصية، وإذا كان على الرِّجلين خفٌّ أو جورب أو نحوهما مِمَّا يُلبس على الرِّجل - والجورب هو: الشرّاب - فامسحوا عليه سواء كان من القطن أو الصوف أو الجلود أو غيرها مِمَّا يجوز لبسه وسواء كان صفيقًا لا يُرى من ورائه الجلد أو كان رقيقًا وسواء كان سليمًا أو كان مخرّقًا مادام يسمّى خفًّا»(9) لأن السنَّة التي وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها شيء من هذه الشروط وما جاء عن الشارع مطلقًا فإنه لا ينبغي أن يقيَّد بشروط؛ لأننا إذا قيَّدناه بشروط ضيَّقنا على عباد الله ما كان واسعًا في شريعة الله ولكنْ لا يجوز المسح على الجوربين والخفّين ونحوهما إلا بشروط:
الشرط الأول: أن يكون الملبوس طاهرًا فإن كان نجسًا لم يَجُز المسح عليه، فإذا كان من جلود غير جلود ما يؤكل لحمه فإنه نجس لا يجوز المسح عليه ولا لبسه في الصلاة؛ لأن مسح النجس بالماء لا يزيده إلا نجاسة ولأن الغالب أن الماسح سوف يصلي ولا تصح الصلاة في شيء نجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «حين صلى وفي نعليه قذر أخبره جبريل بذلك فخلعهما صلى الله عليه وسلم وهو يصلي»(10) .
الشرط الثاني: أن يلبس ذلك على طهارة فإن لبس على غير طهارة لم يَجُز المسح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - حين أراد أن ينزع خفَّي النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين»(11) وفي هذا الحديث نصٌّ صريح على أن مَن عليه جوارب أو خفّان فإن السنَّة أن يمسح وأن لا يخلعهما ليغسل القدمين لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة: «دعهما».
الشرط الثالث: أن يكون ذلك في الحدث الأصغر فإن أصابته نجاسة لم يَجُز المسح على الجوارب ونحوهما ووجب خلعها وغسل الرِّجلين .
الشرط الرابع: أن يكون في المدة المحدودة شرعًا وهي: يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، قال صفوان بن عسال رضي الله عنه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنَّا سفرًا - أي: مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم»(12) وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم»(13)وهذه المدة تبتدئ من أول مرّة مسَحَ بعد الحدث على القول الراجح من أقوال العلماء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت المسح ولا يكون المسح واقعًا حقيقة إلا إذا مسح فعلاً؛ وعلى هذا فما مضى من المدة قبل المسح أول مرّة فإنه لا يُحتسب من المدة، فإذا تطهّر الرَّجل لصلاة الفجر مثلاً ولبس خفَّيه ونقضَ وضوءه في الضحى ثم توضأ لصلاة الظهر عند الساعة الثانية عشرة فإنه لا تبتدئ مدة المسح إلا من الساعة الثانية عشرة وما قبل ذلك لا يُحسب من المدة؛ وعلى هذا فيمسح المقيم إلى اليوم الثاني في الساعة الثانية عشرة والمسافر إلى تمام ثلاثة أيام من ابتداء المسح إلا إذا حصلت جنابة فإنه يجب الخلع وغسل الرِّجلين مع سائر الجسد، وإذا تَمَّت المدة والإنسان على طهارة لم تنتقض طهارته بتمام المدة إلا أن يحصل ناقضٌ للوضوء من بول أو غيره، ومَن مسح على شيء ثم خلعه بعد مسحه فطهارته باقية لا تنتقض بذلك؛ لأنه لا دليل على انتقاض الوضوء بتمام المدة ولا على انتقاض الوضوء بخلع ما مسحه، وإذا لم يكن دليل وقد ثبتت الطهارة بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن أن يرتفع ما ثبت بدليل شرعي إلا بدليل شرعي ولكنْ إذا خلع خفَّيه وهو على طهارة وبقيت طهارته ثم انتقضت فإنه إذا أراد أن يتوضأ فلا بُدَّ أن يغسل قدميه وكذلك إذا تَمَّت المدة فلا بُدَّ عند الوضوء بعد تمام المدة من خلعهما وغسل الرِّجلين .
أيها الإخوة المسلمون، أسْبغوا الوضوء - رحمكم الله - على الوجه المطلوب منكم ولاسيما في أيام البرد والسَّبُرات؛ فإن ذلك من الرباط وهو مِمَّا يغفر الله به الخطايا ويُكفر به السيئات، وقد صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سوف تسمعونه، اسمعوا إن شئتم، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما منكم من أحد يتوضأ فيُسبغ الوضوء ثم يقول: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهرين إلا فُتِحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء»(14) وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره»(15) رواه مسلم، وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إسباغُ الوضوء في المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً»(16)هكذا صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية ثلاثة من الخلفاء الراشدين، الأول: عن عمر، والثاني: عن عثمان، والثالث: عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - وحشَرَنا معهم مع النبيين والصدّيقين .
أيها الإخوة، تطهَّروا من الجنابة وبادروا بالطهارة منها فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ولا كلب ولا جُنب»(17) وفي حديث آخر: «لا تقرب الملائكة جنبًا إلا أن يتوضأ»(18) ولا تناموا على جنابة فإن تيسَّر لكم الاغتسال قبل النوم فهو أفضل وإن لم يتيسَّر فتوضَّؤوا كما تتوضؤون للصلاة ثم ناموا واغتسلوا إذا قمتم، والواجب في الاغتسال أن يَعُمَّ الإنسان جميع بدنه بالماء مرّة واحدة وهو كافٍ مع المضمضة والاستنشاق؛ وعلى هذا فلو أن الإنسان نوى ثم انغمس في بِرْكة ناويًا رفعَ الحدث وتمضمض واستنشق ثم خرج ارتفعَ عنه الحدثان: الأكبر والأصغر، ولكنّ الأفضل عند الغسل من الجنابة أن يغسل كفَّيه ثلاثًا ثم يغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءاً كاملاً ثم يغسل رأسه فيُخَلِّل أصول شعره بالماء حتى يُبلغ ثم يُفيض عليه ثلاث مرَّات ثم يغسل سائر جسده ولا يحتاج إلى إعادة الوضوء بعد الغسل؛ لأن الغسل كافٍ عن الوضوء، لقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: 6]، ولم يذكر وضوءاً؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة لا يُعيد الوضوء بعد الاغتسال، ومَن كان في أعضاء طهارته جرح لا يضرّه الماء وجبَ عليه غسله، فإن كان يضرّه الغسل دون المسح وجبَ عليه مسحه، فإن كان يضرّه المسح تيَمَّمَ عنه، وإذا كان على أعضاء طهارته التي يجب تطهيرها جبسٌ مغلَّف على كسر أو لَزْقة مشدودة على جرحٍ أو أَلَم مسَحَ عليه حتى يبرأ سواء في الحدث الأصغر أم الجنابة، والمريض الذي يتعذَّر عليه استعمال الماء لِعَجْزه عنه أو تضرُّره باستعماله يجوز له أن يتَيَمَّم حتى يزول عذره، والمسافر الذي ليس معه ماء زائد عن حاجته يجوز له أن يتَيَمَّم حتى يجد الماء، لقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، وقال نبيّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فأيما رجلٌ أدركته الصلاة فلْيصلِّ»(19) فسمّى الله تعالى التَّيَمُّمَ طهارة وسَمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأرض طهورًا؛ وعلى هذا فمَن تيَمَّم بشرطه فإنه كالذي توضأ أو اغتسل فيبقى على طهارته إلى الصلاة الأخرى ولا يحتاج إلى إعادة التَّيَمم عند كل صلاة؛ لأن التيمُّم يطهّر كما سمعتم في كتاب الله وفي سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تنتقض الطهارة به إلا بناقض ينقض طهارة الماء أو بزوال العذر المبيح للتيمم .
أيها الإخوة، تعلَّموا أحكام شريعة الله ثم اذكروا نعمة الله عليكم بالتيسير والتخفيف والتسهيل، فلو شاء الله لأعنتكم ولكنّ رحمته سبقت غضبه، فالحمد لله رب العالمين .
يتبع