السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نبذة :
تذكر أن من تنفث عليه سُمُومك، وتناله بسهامك هو أخ مُسْلم ليس يهودياً ولا نصرانيا، بل يجمعك به رابطة الإسلام. فلِمَ توجه الأذى نحوه.
نص المطوية :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أمّا بعد:
فقد جعل الله المحبة الخالصة بين المسلمين هي أوثق عرى المحبة في الله، وجمع بين المتحابين فيه تحت ظلال عرشه، ووثق الإسلام ذلك بوجوب المحافظة على مال المسلم وعرضه ونفسه، بأن لا يُصيبه أذى، ولا يُمس بسوء.
ولكن تُبْحر بعض النفوس في مياه آسنة، تتشفى ممن أنعم الله عليهم ورزقهم من خيره بالحقد والحسد، فيثمر ثمرا خبيثا غيبة ونميمة واستهزاء وغيرها. ولا يخلو مجتمع من أهل تلك النفوس الدنيئة.
طهّر الله قلوبنا من الغِّل والحسد، وجعلنا أخوة متحابين.
الحـسـد
الحسد: هو تمني زوال النِّعمة عن صاحبها: سواءً كانت نعمة دين أو دُنيا، وهو خُلق ذَميم، مع إضراره بالبدن، وإفساده للدين، وفي ذلك تعدي وأذى على المسلم نهى الله ورسوله عنه.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب: 58].
وقال سبحانه وتعالى في ذم الحاسدين واستنكار فعلهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة النساء: من الآية 54]، وقد أمر جل وعلا بالاستعاذة من شر الحاسد، فقال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [سورة الفلق: 5].
وللتحذير من الحسد وعواقبه، قال صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكْم والحسدَ، فإنَّ الحسدَ يأكُلُ الحسناتِ كَما تأكُلُ النَّارُ الحطبَ» أو قال: «العُشب».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لنعم الله أعداء» فقيل: ومن هم؟
فقال: «الذين يحسدون على ما آتاهم الله من فضله».
ولكي يحافظ المجتمع المسلم على صفائه ونقائه نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عمّا يكدر ذلك، فقال: «لا تباغَضوا، ولا تَحاسدُوا، ولا تَدابَروا، ولا تَقاطعُوا، وكُونوا عِباد الله إخواناً، ولا يَحِلِ لِمسلمِ أن يهجرُ أخَاه فوق ثلاث».
بيان حقيقة الحسد وحُكمه
حقيقة الحسد: هي شدة الأسى على الخيرات التي تكون للناس، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
إحداهما: أن تكره تلك النعم، وتحب زوالها، وهذه الحالة تُسمى حَسدا. فالحسد حدّة كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه.
الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها، ولا تكره وجودها ودوامها، ولكن تشتهي لنفسك مثلها. وهذه تسمى غِبطة، وقد تختص باسم المنافسة.
فأما الأول فهو حرام بكل حال. إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر، وهو يستعين بها على تهييج الفتنة، وإفساد ذات البين، وإيذاء الخلْق، فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها، فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة، بل من حيث هي آلة الفساد، ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته، ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها، وأن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عِباده على بعض، وذلك لاعذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟ وإلى هذا أشار القرآن بقوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [سورة آل عمران: من الآية 120]. وهذا الفرح شماتة، والحسد والشماتة يتلازمان.
إن من ثمرات الغضب: الحقد والحسد، وذلك أن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي حالا، رجع إلى الباطن واحتقن فيه، فصار حقدا وحسدا، وحينئذ يلزم قلبه استثقاله وبغضه دائما، فهذا هو الحقد، ومن ثمراته أن تحسده بأن تتمنى زوال نعمته عنه، وتتمتع بنعمته، وتفرح بمصيبته، وأن تشمت ببليته، وتهجره، وتقاطعه إن أقبل عليك، وتطلق لسانك فيه بما لا يحل، وتهزأ به، وتسخر منه وتؤذيه، وتمنعه حقه من نحو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك شديد الإثم والتحريم؛ وأقل درجات الحقد الاحتراز من هذه الآفات المنقصة للدين.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدا وبغيا إنه لدمـيم
أركان الكفـر
أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة.
فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة.
فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد، وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قَبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة.
ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أحدا على ما آتاه الله.
فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبَّها الله، ويحب زوالها عنه، والله يكره ذلك. فهو مضاد في قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوهَّ حقيقة؛ لأن ذنبه كان عن كِبر وحَسد. فقَلْعُ هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضا به وعنه والإنابة إليه.
قال بعض الحكماء: "بَارز الحاسد ربّه من خسمة أوجه:
أولها: قد أبغض كل نعمة قد ظهرت على غيره.
والثاني: سَخط لقسمته كأنه يقول لربه: لم قسمت هكذا؟
والثالث: أنه ضنَّ بفضله يعني أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يَبْخل بفضل الله تعالى.
والرابع: خَذل ولي الله تعالى لأنه يريد خذلانه وزوال النعمة عنه.
والخامس: أعان عدوهّ يعني إبليس لعنه الله".
ويقال: "الحاسد لا يَنال في المجالس إلاّ مذمة وذُلًا، ولا ينال من الملائكة إلاّ لعنة وبُغضا، ولا ينال في الخلوة إلاّ جَزعا وغمّا، ولا ينال عند النزع إلاّ شدة وهولا، ولا ينال في الموقف إلاّ فضيحة ونكالا، ولا ينال في النار إلاّ حرا واحترافا".
المنافسة
للأخلاق حَد متى جاوزته صارت عُدوانا، ومتى قصَّرت عنه كان نقصا ومهانة.
وللحَسد حَدٌ وهو المنافسةُ في طلب الكمال والأنفة أن يتقدم عليه نظيرهُ، فمتى تعدّى صار بغيا وظُلما، يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود، ويحرص على إيذائه، ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضَعف همَّة وصِغر نفس.
والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [سورة المطففين: من الآية 26]. وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الحديد: من الآية 21]. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا حَسَد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاهُ الله مالاً فهو ينفقه أناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاهُ الله القرآن فهو يقوم به آناءَ الليل وآناء النهار» وهذا هو الغبطة، وسماه حسدا من باب الاستعارة.
وقد فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي كبشة الأنماري فقال: «مثلُ هذه الأمة كمثل أربعة نفرٍ: رجلٌ آتاهُ الله مالاً وعلماً، فهو يَعملُ بعلمه في مالهِ، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فيقولُ: رب لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله، فهما في الأجر سواء ـ وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال: ـ ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يُنفقهُ في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً ولم يؤته مالاً، فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقه في مثل ما أنفقه فيه من المعاصي، فُهما في الوزرِ سَواء» ، فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة تمنيه للمعصية، لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ماله. فإذا لا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها ولم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له. نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة، وهو أن يحب أن يكون مثله؛ لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضيا بالمعصية وذلك حرام، وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات، فالمنافسة فيها مندوب إليها، وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح، فالمنافسة فيها مباحة.
أسباب الحسد
1ـ العداوة والبغضاء:
فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه، أبغضه قلبه، ورسخ في نفسه الحقد.
والحقد يقتضي التشفي، والانتقام، فمهما أصاب عدوه من البلاء فرح بذلك، وظنه مكافأة من الله تعالى له، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، إنما غاية التقي أن لا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فأمَّا أن يبغض إنسانا فيستوي عنده مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن.
2ـ الكبر والعجب:
وأما الكبر فهو أن يصيب بعض نظرائه مالاً أو ولاية، فيخاف أن يتكبر عليه، ولا يُطيق تكبره، أو يكون من أصاب ذلك دونه، فلا يحتمل ترفعه عليه أو مساواته. وكان حسد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من ذلك. قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف:31].
وقال في حق المؤمنين: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام: من الآية 53]. وقال في آية أخرى: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [سورة يّـس: من الآية 15]، وقال: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [سورة المؤمنون: 34].
فعجبوا وأنفوا من أن يفوز برتبة الرسالة بشر مثلهم فحسدوهم.
3ـ حب الرياسة والجاه:
وأمَّا حب الرياسة والجاه، فمثاله أن الرجل الذي يُريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، إذا غلب عليه حب الثناء، واستفزه الفرح بما يُمدح به، من أنه أوْحَد العصر، وفريد الدهر في فنه، إذا سمع بنظير له في أقصى العالم، ساءه ذلك، وأحب موته، أو زوال النعمة التي يُشاركه في علم، أو شجاعة، أو عبادة، أو صناعة، أو ثروة، أو غير ذلك، وليس ذلك إلاّ لمحض الرياسة بدعوى الانفراد.
وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤمنون به خوفا من بطلان رئاستهم.
4ـ خُبث النفس وبخلها:
وأمَّا خبث النفس وشحها على عباد الله، فإنك تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر، وإذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم عليه به، شقَّ عليه ذلك، وإذا وصفت له اضطراب أمور الناس وإدبارهم، وتنغيص عيشهم، فرح به، فهو أبدا يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته.
وقد قال بعض العلماء: "البخيل من يبخل بمال نفسه، والشحيح الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمة الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه عداوة ولا رابطة، وهذا ليس له سبب إلا خُبث النفس ورداءة الطبع، ومعالجة هذا النوع شديدة، لأنه ليس له سبب عارض، فيعمل على إزالته، بل سبب خبث الجبلة، فيعسر إزالته".
أخي المسلم:
إنّما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، ويقع ذلك غالبا بين الأقران، والأمثال، والأخوة، وبني العم، لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل التنافس فيها، فيثور التنافر والتباغض.
ثمـرة الحسد
إن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن، واحتقن فيه فصار حقدا، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغض له والنفار عنه، وأن يدوم ذلك ويبقى، فالحقد ثمرة الغضب.
والحقد يُثمر ثمانية أمور:
الأول: الحسد وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه، فتغتم بنعمة إن أصابها، وتُسر بمصيبة إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين.
الثاني: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء.
الثالث: أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك.
الرابع: وهو أن تُعرض عنه استصغارا له.
ولذلك ترى العالم يَحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، والإسكافي يحسد الإسكافي، ولا يحسد البزار إلا أن يكون لسبب آخر، لأن مقصد كل واحد من هؤلاء غير مقصد الآخر.
فأصل العداوة التزاحم على غَرضٍ واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدين، ولا يكون بينهما محاسدة إلا من اشتد حرصه على الجاه، فإنه يحسد كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها.
ومنشأ جميع ذلك حبُ الدنيا، فإن الدنيا هي التي تَضيق على المتزاحمين، وأما الآخرة، فلا ضيق فيها، ولو لم يكن في ذم الحسد إلا أنه خُلق دنيء يتوجه نحو الأكفاء والأقارب، ويختص بالمخالط والمصاحب، لكانت النزاهة عنه كرما، والسلامة منه مغنما، فكيف وهو بالنفس مُضر، وعلى السهم مُصر، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف من غير نكاية في عدو، ولا إضرار بمحسود.
واعلم أنه بحسب فضل الإنسان، وظهور النعمة عليه، يكون حسد الناس له، فإن كثر فضله كثر حُسَّاده، وإن قلَّ قلوا، لأن ظهور الفضل يثير الحسد، وحدوث النعمة يضاعف الكمد.
الخامس: أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سرٍّ وهَتك سِتر وغيره.
السادس: أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه.
السابع: إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه.
الثامن: أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة. وكل ذلك حرام.
وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة، ولا تخرج بسبب الحَقد إلى ما تعصي الله به، ولكن تستثقله في الباطن، ولا تنهى قلبك عن بغضه، حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجته والمجالسة معه على ذكر الله تعالى والمعاونة على المنفعة له، أو بترك الدعاء له والثناء عليه أو التحريض على بره ومواساته. فهذا كله مما ينتقص درجتك في الدين، ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل، وإن كان لا يعرّضك لعقاب الله.
ما يصيب الحاسد
إن من يتدبر كتاب الله يجد فيه مصير أهل البغي والحسد وعاقبة المتقين كما في قصة قابيل وهابيل، وقصة يوسف مع إخوته، وكذلك يجد صفات الدعاة الصادقين في دعوتهم والذين كانت قلوبهم سليمة من الغل والحسد، كما في قصة صاحب يس، الذي قال بعد أن قتله قومه: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [سورة يـس: 26-27].
وليس شيء من الشر أضرّ من الحسد؛ لأنه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه.
أولهما: غمٌ لا ينقطع.
والثاني: مصيبة لا يؤجر عليها.
والثالث: مذمة لا يحمد بها.
والرابع: يسخط عليه الرب.
والخامس: تغلق عليه أبواب التوفيق.
لا مـات أعداؤك بل خلدوا *** حتى يروا فيك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة *** فإنما الكامل مـن يحسد
موقف المسلم من حاسديه
جمع الله تفصيل ذلك في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران: من الآية 134].
قال أهل العلم: "ثلاث منازل للمبتدئين، والمقتصدين، والسابقين بالخيرات.
المنزلة الأولى: من أسيء إليه فليكظم، وهذه أدنى المنازل، فهو يكظم غيظه، ولا يتشفى لنفسه في المجالس ولا يتعرض للأعراض.
المنزلة الثانية: فإن زاد على الكظم {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [سورة آل عمران: من الآية 134]. فهو خير لصفاء قلبه وحُسن سريرته، ورجاء ما عند الله.
المنزلة الثالثة: من جمع ما سبق {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران: من الآية 134]. فأحسن إليه بصلة أو هدية أو أكرمه بزيارة".
وللمسلم مواقف من الحسد وحاسديه:
أولًا: الرجوع إلى الله، والتوبة من الذنوب، فإن ما أصابه من تسلط الأعداء عليه إنما هو بذنوبه قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى: 30].
ثانيًا: التوكل على الله. فإن من توكل على الله فهو حسبه، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [سورة الطلاق: من الآية 3].
ثالثًا: الاستعاذة بالله تعالى وقراءة الأذكار والأوراد المشروعة فقد أمر الله جلَّ وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من شر حاسد إذا حسد.
رابعًا: الدعاء والتضرع إلى الله بأن يقيك الله ويحفظك من شر أعدائك وحسادك.
خامسًا: العدل معه وعدم الإساءة إليه بالمثل، وإنصاف حقه، وعدم ظلمه بسبب فعله.
سادسًا: الإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا ازددت إليه إحسانا، وله نصيحة، وعليه شفقة.
سابعًا: مداراته والتودد إليه، لعل الله أن يهديه ويكفيك شره.
كل العداوات قد ترجى إماتتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد
يتبع