في صحراء مترامية الأطراف لا يعرف لها أول من آخر..فتى في منتصف العمر قد أوجده المولى في كبدها..ترعرع بين أحضانها..أرضعته القسوة منذ الصغر وفطمته...
ولكن كيف لها أن تفطمه ومشاعره ما زالت صغيرة..لم تلقى الدفء والحنان؟...مسكين ..يا لها من أم جائرة..كلما أطلق لناظريه العنان لتحمل إليه ولو لمسة عطف ترجع وقد فجعت بقسوة ليس بمقدور الاثنين تجرعها...
ينظر للفضاء الواسع ليس فيه أي نوع من الحياة...
قرر هجر أمه وترك عالمه الكئيب عساه أن يلتقي هو وعواطفه الرثة بمن يعيد تكوينهما من جديد...
يمشي والأطلال تبكيه والرمال تثقل من سير قدميه..والرياح تحجب رؤية عينيه..ولكن دون فائدة فقلبه قد حمل جسده بين جنبيه ليحيه بين ذراعي واحة خضراء تعيد إليهما مشاعرهم المفتقدة...
لاح له طيف خيال من بعيد يقول:تعال فأنا حاضرك الجديد..فقال:عذرا فأخاف أن أتبع هواك ويعاد فيني نفس القصيد..فبسط الطيف يده راجيا:هاك يدي ولنغدو معا إلى واحة تذيب عن قلبك جبال من الجليد...
مسكين..ما لبث أن يقع ناظريه على الواحة حتى تفتت أوصاله وذابت أحشائه خشية وتبجيلا لعظم قدرة الخالق..ولم لا فالواحة ما هي إلا نطفة حنان من تلك الفتاة التي أبدع الخالق في تكوينها..نعم أنغمس بين حناياها..احتضنت مشاعره اليتيمة وبدأت ترضعها من ينابيع العطف والحنان...
تعلم الحب وأحبه من خلالها..فاض شوقا ولهفتا لها وبها..باتت له كل شئ..بدايته ومنتهاه..غذاؤه ومأواه..وقلبها بكل ما فيه من رقة ودلال قد احتواه...لقد أصبح مغرما بها وهائما بفتنتها ونضارتها..ولم لا وهي آية من الروعة والجمال...
عندما يغزو الليل السماء بظلامه الدامس يجلس بجانبها وأشواقه تحيط بهما تنصت بشغف إلى الزمرد الخارج من شفتيها والمعطر بأنفاسها الدافئة ..لا يعرف كيف يعبر عن حبه لها سوى أن يحتضنها بجسمه الصغير..فتستلقي على صدره بنعومة ولطف قائلة:يا صغيري رفقا بقلبك الوليد لقد قطعت كل شرايينه بفضل أحاسيسك المتدفقة ولم يبقى له سوى وريد..أم انك لا تريد أن يكتب لك عمر جديد؟...
جاوبتها دموعه الملئى ولها وشغفا بها..أتعرفين لقد همت بك ولا أدري كيف أعبر عن حبي لك..ولكن اصدقيني القول :هل تشاطريني نفس الإحساس الذي أحيا من خلاله لأجلك؟..استهلت كلامها قائلة:حبيبي :لقد أسكنتك في فؤادي وتكفلت بتجميع أشلاء جسدك النحيل .. وتطييب جروح قلبك العليل ولملمة عواطفك المبعثرة وأعادة تكوينها من جديد..أفبعد هذا كله تسألني عن مدى حبي لك؟...
فقلت:أعذريني..فوضعت يدها على فمي وما هي ألا لحظات حتى ضعت بين ثناياها ..فغدوت لا ادري إن كنت في صحوة أم منام