عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:53 AM   رقم المشاركة : 14
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










12

اخترت مقهى جديدا ً هذا الأسبوع، طاولة دائرية تجنبتها الأضواء فغرقت في عتمة زاوية بعيدة، لا يؤنس وحدتها وانفرادها إلا مقعدين متقابلين، ومناديل مطوية.

زارني نادل المقهى ثلاث مرات، وفي كل مرة كنت استمهله قليلا ً، وأعود إلى رواية جوزيه ساراماغو ( سنة موت ريكاردوريس) لأتابع ذلك الطبيب البرتغالي الذي عاد من غربته البرازيلية، ليلتقي بشبح الشاعر البرتغالي الكبير ( فرناندو بيسوا) الذي ابتدعه ذات يوم.

استسلمت أخيرا ً وبحنق للنادل، فطلبت موكا ساخنة، وعدت للسطور المكتظة للرواية – حيث كان ساراماغو يصر على تجاهل الفواصل والمسافات -، محاولا ً التركيز مع الضجيج الذي بدأ يتصاعد مع دخول أربعة من ذوي الرؤوس الضائعة – ضاعت وسط كل ذلك الشعر المجعد الذي يغطيها- وهم يتحدثون ويضحكون بصخب لا يتبدد.

تقلبت ما بين الصفحات، والموكا، وجوالي الذي ينتظر اتصال حسن – ليسألني عن المكان أو ليعتذر عن الحضور -، وتأمل الناس من حولي، ثرثرتهم التي يصلني جزء منها، فتبدو لي بكل تلك التقاطعات والكلمات الناقصة كهذيان.

- السلام عليكم – كان هذا حسن الذي حط على رأسي فجأة -.

- وعليكم السلام، من أين جئت !!! لم أرك وأنت تدخل !!!

- هههههههههههههههه، هذا لأنك كنت هائما ً، وعلى وجهك نظرة تأملية سخيفة.

- لم أكن أتأمل، كنت أفكر فيك، فلذا بدت ملامحي سخيفة.

- ألم تطلب لي بعد؟ – وهو يقلب القائمة التي جلبها له النادل البغيض –

- لا... دلل نفسك هذه المرة، اختر شيئا ً مختلفا ً، وإلا ستموت ولم تذق إلا الموكا.

- اها... حسنا ً، شورك وهداية الله، سأجرب الموكا.

- يا أحمق !!! نحن نشرب الموكا كل خميس، جرب شيئا ً آخر.

- امممممم، أنت ماذا طلبت؟

- موكا – بصبر -.

- قهوة إيطالية – قلتها للنادل بنفاد صبر وأنا انتزع القائمة من يد حسن -.

- كيف حالك؟ - سأل وهو ينتزع منديلا ً، ويمسح به وجهه -.

- الحمد لله بخير حال.

- وكيف حال كتابك السحري؟

- تخلصت منه.

- ماذا !!! يعني انتهيت منه؟

- لا... تخلصت منه.

- لم أفهم.

- بكل بساطة جمعت كل الأوراق والكتب والمخطوطات وأعدتها إلى أصحابها، واعتذرت عن إكمال الكتاب.

- ولم َ؟ ما الذي حدث؟

- حكاية طويلة، يمكنك أن تقول أنني لم أعد متحمسا ً لا لجدي، ولا لحكايته.

- اها.

- ماذا عنك أنت؟ كيف حال قصيدتك؟

- مازالت تنمو، أحضرت معي الجديد – قالها وهو يلوح بكتابه الأزرق -.

- بالمناسبة... الأبيات التي أرسلتها لي الأحد الماضي.

- ما بها؟

- كانت عبارة عن ثلاث قصائد ( لا تنتظر) و( عفن) و...

- حكاية لا تنسى.

- نعم... ( حكاية لا تنسى)، ( لا تنتظر) فقط هي التي بدت لي تنتمي إلى القصيدة الكبيرة، أما القصيدتين الباقيتين !!! فلا أدري !!!

- تنتمي لها – قال بابتسامة -، يمكنك اعتبارها من قصائد الملك الشاب.

- ولكن القصيدة الكبيرة ذاتها على لسانه !!!

- هههههههههههههههه، لا تتعامل مع الشعر بالمنطق، القصيدة تركز كموضوع أساسي على الملك الشاب، ولكنها تتناول موضوعات أخرى، تقترب منه أحيانا ً، وتبتعد عنه أحيانا ً أخرى.

- لم َ إذن تكون هذه القصائد مضمنة في القصيدة الكبيرة؟ لم َ لا تفصلها عنها وتجعلها قصائد مستقلة؟

- لأنه لن يكون هناك حينها قصيدة كبيرة.

- ولكن لا يمكنك تسمية الناتج قصيدة كبيرة، إذا لم تكن له وحدة عضوية، وترابط ما بين القصائد الصغيرة.

- ومن قال لك أنه لا يوجد ترابط !!! كل قصيدة من هذه القصائد، تضيف للقصيدة الكبيرة، وتنير جانبا ً مظلما ً منها.

- اشرح لي، لدينا الموضوع الرئيسي الذي كانت معظم القصائد تدندن حوله، الملك وحيرته، ولدينا قصيدة ( عفن)، ما الذي تضيفه قصيدة ( عفن) للموضوع الرئيسي؟

- قلت لك هذه القصيدة منسوبة للملك.

- ملك محتار ما بين الموت والحياة، ويكتب قصيدة عن عفن ملأ يدي فتاة؟

- هههههههههههههههههههه، بالله عليك هل تسألني هذا السؤال؟ سأخبرك – وهو ينهض – ولكن دعنا نخرج الآن لأني أريد تدخين سيجارة.

- لا يمكنك التعامل مع القصيدة – أكمل وقد صرنا نتجول على الرصيف، وبين أصابعه سيجارته – كما تتعامل مع قصة، في القصيدة الزمان والمكان ضائعان، لا يوجد إشارات محددة، من يقول ماذا؟ ومتى؟ هناك بالطبع القصائد المباشرة، التي يتحدث فيها الشاعر، ويعبر بشكل مباشر، عن إحساساته أو آرائه، ويملأها بالحكم، هذه قصائد بلا أبعاد، فقط بعد واحد ( الشاعر)، واعتماد هذه القصائد الأساسي على قدرة الشاعر على حشر المعاني والأفكار في الشكل العروضي الذي بدأ به قصيدته.

- وقصيدتك بالطبع ليست قصيدة مباشرة.

- لا تسخر أرجوك – لوح بسيجارته -، قصيدتي ذات أبعاد متعددة، لدينا البعد الخارجي الملك الشاعر، قصته ونهايته، هذا البعد الخارجي يمكنك اعتباره الإطار الذي يحتوي القصيدة ككل، والذي نعود إليه من حين إلى حين، ولكن للقصيدة أبعاد أخرى، أو فلنقل أصوات أخرى.

- من هو الصوت الذي كان وراء عفن؟

- أنا.

- أليست القصيدة تبدأ بـ ( قالت) !!!

- لا... أقصد أن قصائد الملك تأتي على لسانه، وهذه القصيدة جاءت على لساني أنا.

- هي تتعرض – أكمل وهو يتخلص من السيجارة ليبحث عن أخرى – لحادثة مررت بها أنا، وغيرت بعض الأشياء في حياتي.

- اها.

* * *

ليلة

1

جاء الشتاء
فأشعلوا النار في الأرجاء
يبتغون الدفء
ويدفعون هجمة المساء

2

ظلالهم تجول في الخيام
أصواتهم تردها الآكام
والليل لا يخفي عيونهم
لا يخفي...
لمعة السؤال في الظلام

3

ويضحكون في خفوت
يتحدثون عن أشواقهم
عن ضمة الدفء في البيوت
عن كل ما يفوت
هناك...
لأني أخاف أن أموت

رأيت فيما يرى النائم

عدنا
وكل ما مر كان حلما ً سخيفا ً
وظنون
وأوهام طرقتنا ذات ليل
فبددها الصباح المجيد

أكملت أنا كلامي
وكتابي
وضحكت ِ أنت ِ على
ما قلت منذ زمن بعيد

وفقدنا الزمان
فر من تحت أرجلنا المكان
فغدونا في فراغ حبيب
كفراشتين
أو طفلتين في ليلة العيد

ثم توارى كل شيء
وأفقت سريعا
غارق في فراشي...
ملك وحيد

أتعرفين ما الذي سيؤذيني أكثر؟
أتعرفين ما الذي سيؤذيك أكثر؟
أن نتذكر
وأن نتمنى أن يعود الزمان السعيد

لم َ؟

لم َ كان كل هذا؟
كيف صرنا هكذا؟
كيف انتهينا؟
وكيف صرت أنا حكاية للآخرين !!!

ولم َ صرتي
ترسمينني بلا فم
وتضعين لي الكلمات
تغلقين الدروب إلي
وتحجبين الطرقات
وتطمسين الكثير
توارينه تحت أستار كثيفة
لتصوغي من جديد
رجل فريد
يعجب الناظرين

ولكن عندها ما الذي مني سيبقى
في المكان الذي قد كان يدعى قلبك
وعندما نلتقي يوما ً هل ستعرفيني؟
وهل سأعرف أنا الوجه الذي نبت
في المكان الذي قد كان وجهك !!!

* * *

- كان يتحدث عن أنثى، ألم تلاحظ ذلك؟ - قالها فهد ونحن عائدان -.

- ولم َ يحتاج إلى كل هذا الغموض؟ الرجال يتحدثون عن الإناث طيلة الوقت.

- ليس اللواتي يحبونهن.

- حسنا ً... ربما هو يتكلم عن فتاة ما، هل تعرف عدد القصائد التي كتبت عن النساء؟ تكاد كل قصيدة أن تكون رداء ً لامرأة.

- لا... لا... هناك شيء ما في تلك القصيدة، ولكن أحتاج للعودة إلى الإطلاع عليها، لأكتشفه.

- ربما... سنرى.

حاولت عدم التفكير في الموضوع، وإبعاد فهد والاستعاضة عنه بالحديث مع لينا، وقد خرجت أخيرا ً من منزل أهلها الهادئ، ولكنها كانت كعادتها مختصرة الأحاديث والكلمات.

وصلنا المنزل، خلعت ملابسي، ودفعت نفسي دفعا ً إلى الحصول على حمام دافئ، يغسل عن روحي وعن بدني دخان حسن.

عندما خرجت كانت لينا تنتظر!!!

كيف عرفت؟ أشياء كثيرة أخبرتني، لبسها، صوتها، نظرة عينيها، وذلك العطر الغامض الذي نثرته في الغرفة كنداء أو نذير.

في داخلي كان هناك رفض ونفور، رفض لهذا الصمت، ونفور من أن أستدرج هكذا بلا كلمات، فلذا تجاهلت كل هذه الإشارات، واستلقيت منتظرا ً نداء ً يسمع.

مرت دقائق وأنفاسنا لا تنتظم.

مرت دقائق والنور الخافت يرسم أشباح أجسادنا الراقدة.

مرت دقائق، خفت رائحة العطر وتبدد غموضه، غيب الغطاء ملابس لينا، ونزع الظلام أي معنى من نظراتها.

مرت دقائق وانتظمت أنفاس لينا.