عرض مشاركة واحدة
قديم 13-12-2006, 11:20 AM   رقم المشاركة : 19
أشرف محمد كمال
( ود فعّال )
 
الصورة الرمزية أشرف محمد كمال
 






أشرف محمد كمال غير متصل

الوجــوه الخــاوية
(6)
القــلب الأبيــض
عرفها بحكم طبيعة عمله التي تجعله شديد القرب من مآسي البشر وآلامهم ..وطبيعته التي اعتادت البحث عن أنات القلوب الجريحة و الأنفس الحائرة..و قلبه الذي يحب ذاك اللون من الشجن الذي يلهب أوتار مشاعره..ويجد سعادته في مشاركة الآخرين أحزانهم – إن لم يجد منها شيئاً داخله – ذلك الأنين الصاخب..وتلك الصرخات المكتومة الصامتة..والأماني التائهة والآمال الضائعة..هذه اللمسات الحسية والمشاعر الإنسانية الصادقة..التي توقظ أحاسيسه الخاملة ما بين آونة وأخرى وتمنحه وقود حياته ..الذي يعينه على احتمال رتابة مهنته.. لذا تراه دائماً يفتش عنهم بعينٍ فاحصةٍ وقلبٍ شغوفٍ.. يبحث عن أصدقائه في رحلة العذاب والألم.. بكل اللهفة والحب..كى يبكى معهم وحدتهم و..وحدته ويشاركونه غربته. ..كان يجد معهم نفسه.. حين تمتد يده لمساعدتهم للتغلب علي محنهم وآلامهم..ومواساتهم فيما قُدر لهم.. !! يراقب تلك العيون الكسيرة والأجساد الهزيلة والأيدي المرتعشة..يحاول أن يضيء شموع الأمل بين نفوسهم اليائسة – حتى ولو كانت سراباً من نسج خيالهم – فلا توجد أماني مستحيلة ..ولا توجد حياة بلا أمل.. أو هدف ..أو غاية نحاول الوصول إليها..فرحمة الله بعباده وسعت كل شيء..وإنما هو جلت قدرته يختبرهم في قوة صبرهم ومدى إيمانهم..؟!
..ذات يوم رآها لأول مرة..!! كانت تختلف عنهم جميعاً في شيءٍ ما.. لم يكن يعرفه في بادىء الأمر..؟!
كانت شديدة بياض البشرة..كزهرة أوركيد بيضاء..شفافة الملامح..حتى تحسبها ملك من الملائكة..أو حورية من حور الجنة - أو إن كانت تنتمي إلي دنيانا - أقرب الشبه إلي قطعة من المرمر الأبيض..ناعمة كالحرير ..باسمة الثغر..مطمئنة القلب..!!
لكن كانت تغللها تلك المسحة من الحزن التي ما كان ليخطئها أبداً..وتلك الدموع التى تترقرق فى العيون..و لا تسقط إلا في الخفاء..وذاك الرأس المرتفع في كبرياء..يرفض الاستسلام للمرض ..وينفى هذا الادعاء فى إباء..؟!!
..يحسبها من يراها لأول وهلة..أنها واحدة من ملائكة الرحمة..تخطر بخطوات رقيقة باسمة بين الأسرة توزع البسمات والضحكات والكلمات المطمئنة..كفراشات ناعمه - لولا تلك الفحوص والتحاليل والأشعات اللعينة..!!- ما صدق أبداً أن هذا القلب الرقيق الجميل..عليل..!! ويحتاج إلى جراحة عاجلة..كى تهبه القدرة علي مواصلة العطاء وتعينه على البقاء..
كانت شديدة القرب إلى سائر زملائها ..تبث فيهم روح الأمل.. والإيمان..والصبر..حتي أطلق عليها البعض لقب زهرة الصبار..لأنها تشقي بالعطش ولا تشكو منه.. وتروى الظمآن من دماء حياتها..!! لا تبكى أبداً من أجلها..لكن من أجل غيرها..و تقول دائماً فى ذلك:
- (بكاء النفس من أجل غيرها يطهرها..أما بكاؤها من أجلها يحرقها..)
دائماً ما كان يراها قوية ..صابرة..مؤمنة ..حالمة..تحلم بالبلاد المحجوبة..بعالم نقي تقي ..لا يعرف سوي الحب ..والإخلاص.. والوفاء..عالم العدل والمساواة والإخاء..عالم بلا أخطاء..بلا آلام..!!
مفعمة بالإيمان..تردد دائماً تلك المقولة: ( الله فى قلبى هو رب قلبى..فما القلب إلا بيت الله..فيها أنوار صفاته..والنور فى قلبى وبين جوانحي..فعلام أخشى السير فى الظلماء..؟ !)
واثقة فى رحمة الله ..تقول ( ما افتقد شيئاً من وجد الله..وما وجد شيئاً من افتقد الله..)
تتحمل آلامها - التى لم تظهرها أبداً – بصبر..وثقة..ونفس راضية..قانعة..وسكينة ما بعدها سكينة..قائلة:
- (الحمد لله الذى منحنى الصبر على أن أتقبل مالا يسعني تغييره..والشجاعة لأغير بها ما أستطيع تغييره..)
..إلى أن وجدها يوما ما.. وهى على شفي الانهيار ..وسط أنهار من الدموع الصامتة.. إثر وفاة صديقة لها أثناء إجراء جراحة فى صمامات القلب – وكانت حالتها قريبة الشبه بحالتها هى..!!– وكثيراً ما جلسا يحلمان معاً أحلام الشباب..ويخططان لمستقبل حياتهما..التى لم يكونا يعلمان أنها قصيرة..قصيرة جداً.. إلي هذا الحد..!!
انخرطت في بكاءٍ دامٍ.. متواصل..حتي أنها فقدت القدرة علي النطق..وسقطت..!!سقطت صاحبة القلب الأبيض فى غيبوبة تامة..غابت عن عالم الوعي لأيام..وسط عالم الأجهزة الذى يرصد أنات قلبها الصامتة..و أنفاسها المرتعشة الخافتة..
ظلت لعدة أيام ما بين الحياة والموت..ذلك الجسد الرقيق..الهزيل..وتلك الروح المرهفة..مازالت تقاوم ..وتنتفض كفراشة تحاول التحليق ..بعدما غاصت فى بحيرة من الظلام الدامس..قاومت ..وقاومت..حتي تفتحت أعينها علي الحياة من جديد..واستنشقت رحيقها..ثانية..بعدما رأت الموت بعينيها حقيقة لا مجازاً..!!
..وتماثلت للشفاء سريعاً وسط دهشة الجميع..وتألقت عيناها من جديد..والتمعت بذلك البريق..وعادت إلى طبييعتها..زهرة ندية فى صباح ربيعى جميل.
..اقترب منها فى لهفة يسألها عما حدث لها ويطمئن على سلامتها..فأجابته قائلة فى وهن:
-(فى ذاك اليوم..دعوت الله أن أموت كصديقتي..واستجاب الله لدعائي..وعلمني الدرس..وعرفت مذاق الحياة..وعرفت معني الإرادة ..والإيمان والصبر..فلم استسلم ..ونجحت في الامتحان ..وزاد إيماني بالله ..وبنفسي..وعرفت أن النجاة فى البقاء لا الهروب..لأنه سلاح الجبناء..ففي الصبر على ما أصابك أكثر من حل لآلامك..والنسيان دواء كم يقول الشاعر(( مسائل مالها من حل ولكن ..إذا نسيت ففي النسيان حل )).
..وتوقع الجميع أن ترفض إجراء الجراحة بعد ما حدث لصديقتها..إلا أنها على عكس ذلك ..!!بدت متحمسة ..متفائلة..هادئة ..راضية..مطمئنة..باسمة دوماً تلك الابتسامة الغامضة – كابتسامة الموناليزا-
التى تجمع ما بين الأمل واليأس..الفرح والحزن..الثقة والخوف..لم يكن أحدٌ يدرى ماذا يدور بخلدها..لأنها أبداً لم تشكو لأحدٍ يوماً ما بها..أو تحدثهم بحقيقة مرضها..الذى بدأ معها منذ صغرها..وقضت سنوات عمرها فى رحلة العذاب والألم..والكفاح والصبر..
و..شاءت الأقدار أن يسافر فى أحد المؤتمرات العلمية خارج البلاد..والذى يتناول التدرب على نوعية جديدة من الجراحات الخاصة بتغيير الصمامات ..ذهب إليها ليودعها..وربت على يدها..وشد على أناملها..مطمئناً..وسألها:
-(ماذا تريدين أن أحضر لك من الخارج..)
فقالت له وعينيها تشع بهجة وسروراً:
-( أحضر لى معك حياة جديدة ..وأملاً لى ولغيرى من أصحاب القلوب الموجوعة..!!)
فضحك قائلاً:
- (سأحضر لك معى قلباً جديداً ..صغيراً..بدلا من ذلك القلب ذو الصمامات المتهالكة..!!)

وأهدت له مصحفاً كى يحفظه من الشرور..وودعها بابتسامة مطمئنة..ونصحها ألا تجهد نفسها لحين عودته..وإجراء عمليتها..
..مكث هناك قرابة الشهر..وعاد..وهو يحمل أملاً جديداً.. وصمامين حديثي الاختراع ..وقد ثبت نجاحهما بنسبة تفوق التسعين بالمائة ..عاد تملؤه اللهفة والشوق إليها..فلقد أكتشف فى فترة غيابه مدى حبه لها وتعلقه بها..شرد مفكرأ - وهو على متن الطائرة - ..يتخيل لحظة لقائهما..ونظر بكل الحب إلي تلك السلسلة التى تحمل قلباً أبيضاً من البلاتين ..والتى أحضرها كهدية ..ليهديها إلى صاحبة القلب الأبيض.
..ذهب مسرعاً إلى المستشفى ـ حتى قبل أن ينتهى من فض أمتعته – وأتجه رأساً إلى سريرها..لكنه لم يجدها..؟! فأسقط فى يده..ووقف جزعاً تنتابه هواجس شتى ..لكنه أخذ يطرد عنه وساوسه ..إلى أن قابل أحد زملائه..وسأله عنها..فنظر إليه ملياً..وظل لبرهة صامتاً كالدهر..ثم أمسك بيده قائلاً:
- (تعال معى لأريك أياها..)
ظلا سائرين فى ردهة طويلة.. فى صمت.. مطرقى الرأس.. فانتابته مشاعر متضاربة..وخوف دفين..توقف زميله فجأة عند أحد الأبواب.. التى يعرفها جيداً..وقد كتب عليه (متحف الأنسجة)..ودخلا..حيث كان يرقد وافدٌ جديدٌ داخل صندوقٍ زجاجيٍ..سرت قشعريرة رهبة فى جسده..ونظر إلى ذلك القلب الأبيض..وعرفه علي الفور..إنه قلبها..لابد أن يكون كذلك..؟! أنه يستشعر فيه روحها..كما لو أنها تجالسه الآن..!!
..سقط متهالكاً علي أقرب المقاعد إليه.. وفاضت عيناه بالدموع ..دفن رأسه بين كفيه..كى يواري قطرات أبت إلا أن تسقط من بين أنامله..بين يدي صاحبة هذا القلب الأبيض ..ونظر إلى زميله..بعد فترة من الصمت المشوب بالذهول.. وقد اغرورقت عينيه متسائلاً..فأجابه:
- (لقد ساءت حالتها ذات يوم ..حتى أنها أدخلت إلي غرفة العناية المركزة..وظلت بها لمدة أسبوعٍ..واضطروا إلى إجراء جراحة طارئة لها ..إلا أن قلبها الضعيف لم يحتمل..!!)
ثم استطرد قائلاً:
- (لقد تبرعت كتابياً بقلبها قبل إجراء العملية .. قائلة..إذا لم يكتب لى النجاه..فهاكم قلبى معكم مدى الحياة..)
فنظر إلى القلب الأبيض..والألم يعتصر فؤاده ..ويحرق مهجته.. ويفجر أوجاعاً لا نهائية فى جسده.. وجراحاً لن تندمل أبداً فى روحه..وانخرط فى نحيب يدمى القلوب..وفى غمرة أحزانه شعر كما لو أن طيفها يحوم حوله ..ويداً ناعمة طريه تملس على شعره وتمسح دموعه..وانساب صوتها متغلغلاً داخله.. مردداً كلماتها له.. كوميض فجر يبدد عتمة الليل.. قائلة:
(..لقد أدركت أن الله قد أراد بنا أمراً..وأراد منا أمراً..فما أراده بنا طواه عنا..وما أراده منا أظهره لنا..فما بالنا ننشغل بما أراده بنا ..عما أراده منا..لقد صارت الدنيا فى يدى ..لا في قلبي..وسيلة وليست غاية..طريقا ًوليس منتهى..فعلينا أن نتعلم أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فى الحياة..وأن نتعلم من التمرد الرضا..ومن العصيان الطاعة..و أنه لا يصيرنا عظماء إلا الألم العظيم..)
فغمرته السكينه والطمأنينة..وعمر قلبه بالحب والإيمان.. ومنذ ذلك الحين كرث حياته من أجل انقاذ المئات والمئات.. كحالتها..!! وبرع فى تلك العمليات..وذاع سيطه بين الأطباء والمرضى..وكان يشعر دوماً بالرضا - برغم ذاك الحزن المر الذى يسكن بين حنايا قلبه- كلما شاهد نظرة امتنان..أو ابتسامة شكر..على وجه أحد مرضاة.. ممن كتب لهم الشفاء على يديه.. حينها يلمح وجهها الصبوح و شبح ابتسامتها - الهادئة.. القانعة.. المطمئنة - تشع من وجوههم.. كشمسٍ منيرةٍ تشرق عبر سماء صافية.






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة


white heart