عرض مشاركة واحدة
قديم 13-05-2014, 01:27 AM   رقم المشاركة : 16
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏172 ‏:‏ 174‏)‏
‏{‏ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ‏.‏ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ‏.‏ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ‏}‏
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم، من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن اللّه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك حنيفا فطرت اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله‏}‏،

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏ وقال ابن جرير عن الأسود بن سريع من بني سعد قال‏:‏ غزوت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أربع غزوات، قال‏:‏ فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاشتد عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام يتناولون الذرية‏)‏‏؟‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول اللّه أليسوا أبناء المشركين، فقال‏:‏ ‏(‏إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنها ليست نسمة ولد تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها وينصرانها‏)‏، قال الحسن‏:‏ واللّه لقد قال اللّه في كتابه‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم‏}‏"‏رواه ابن جرير وأخرجه أحمد والنسائي‏"‏الآية‏.‏ وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن اللّه ربهم، قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة‏:‏ أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به‏؟‏ قال، فيقول‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ قد اردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي‏)‏
‏"‏رواه أحمد والشيخان‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً قال‏:‏ ‏{‏ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا - إلى قوله - المبطلون‏}‏
واه أحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك‏"‏‏.‏

عن أبي مسعود عن جرير قال‏:
مات ابن للضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام، قال فقال‏:‏ يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده، فإن ابني مجلس ومسئول، ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت‏:‏ يرحمك اللّه عم يسأل‏.‏‏.‏‏.‏من يسأله إياه‏؟‏ قال‏:‏ يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم، قلت يا أبا القاسم‏:‏ وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم‏؟‏ قال‏:‏ حدثني ابن عباس‏:‏ إن اللّه مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يؤمئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقرَّ به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيراً قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة‏.‏

حديث آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى‏}‏ الآية، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عنها، فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال‏:‏ خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل‏:‏ يا رسول اللّه ففيم العمل‏؟‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا خلق اللّه العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار‏)‏ ‏
"‏رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏"‏‏.‏

حديث آخر ‏:قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لما خلق اللّه آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال‏:‏ أي رب من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال‏:‏ أي رب من هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال‏:‏ رب وكم جعلت عمره‏؟‏ قال‏:‏ ستين سنة، قال‏:‏ أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال‏:‏ أو لم يبق من عمري أربعون سنة‏؟‏ قال‏:‏ أولم تعطها ابنك داود‏؟‏ قال‏:‏ فحجد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏"‏‏.‏ حديث آخر ‏:‏ عن هشام بن حكيم رضي اللّه عنه أن رجلاً سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه أتبدأ بالأعمال أم قد قضى القضاء‏؟‏ قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، ثم قال هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار‏)
‏"‏رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عن هشام بن حكيم‏"‏‏.‏

فهذه الأحاديث دالة على أن اللّه عزَّ وجلَّ استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس، وفي حديث عبد اللّه بن عمرو، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف‏:‏ إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع، وقد فسر الحسن الآية بذلك، قالوا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم‏}‏ ولم يقل من آدم، ‏{‏من ظهورهم‏}‏ ولم يقل من ظهره، ‏{‏ذرياتهم‏}‏ أي جعل نسلهم جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ويجعلكم خلفاء الأرض‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏كم أنشأكم من ذرية قوم آخرين‏}‏،

ثم قال‏:‏ ‏{‏وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى‏}‏، أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً، والشهادة تارة تكون بالقول، كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا شهدنا على أنفسنا‏}‏ الآية، وتارة تكون حالاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر‏}‏، أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه على ذلك لشهيد‏}‏، كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال، كقوله‏:‏ ‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه، فإن قيل‏:‏ إخبار الرسول صلى اللّه عليه وسلم به كاف في وجوده‏؟‏ فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليه فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أن تقولوا‏}‏ أي لئلا تقولوا يوم القيامة ‏{‏إنا كنا عن هذا‏}‏ أي التوحيد ‏{‏غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا‏}‏ الآية‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏175 ‏:‏ 177‏)‏
‏{‏ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ‏.‏ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ‏.‏ - ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ‏}‏

هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء ‏"‏ذكره عبد الرزاق عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه‏"‏؛
وقال قتادة عن ابن عباس‏:‏ هو صيفي بن الراهب ، وقال كعب‏:‏ كان رجلاً من أهل البلقاء وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيماً ببيت المقدس مع الجبارين، وعن ابن عباس رضي اللّه عنه‏:‏ هو رجل من أهل اليمن، يقال له بلعم آتاه اللّه آياته فتركها، وقال مالك بن دينار‏:‏ كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي اللّه موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى اللّه فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام‏.‏ وقال سفيان بن عيينة عن ابن عباس‏:‏ هو بلعم بن باعوراء، وقال ثقيف‏:‏ هو أمية بن الصلت، وقال عبد اللّه بن عمرو في قوله‏:‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا‏}‏ الآية، قال‏:‏ هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت؛ وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه‏.‏ فإنه أدرك زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة قبحه اللّه‏.‏ وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه، فإن له أشعاراً ربانية وحكماً وفصاحة، ولكنه لم يشرح اللّه صدره للإسلام‏.‏

والمشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة‏:‏
إنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف، وكان يعلم اسم اللّه الأكبر، وكان مجاب الدعوة، ولا يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاه إياه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ لما نزل موسى بهم يعني الجبارين ومن معه أتاه - يعني بلعم - بنو عمه وقومه فقالوا‏:‏ إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع اللّه أن يردَّ عنا موسى ومن معه، قال‏:‏ إني دعوت اللّه أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه اللّه ما كان عليه، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانسلخ منها فأتبعه الشيطان‏}‏ الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما انقضت الأربعون سنة التي قال اللّه‏:‏ ‏{‏فإنها محرمة عليهم أربعين سنة‏}‏، بعث يوشع ابن نون نبياً فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن اللّه أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، وانطلق إلى رجل من بني إسرائيل يقال له‏:‏ بلعام فكان عالماً يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر - لعنه اللّه - وأتى الجبارين، وقال لهم‏:‏ لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتبعه الشيطان‏}‏ أي استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فكان من الغاوين‏}‏ أي من الهالكين الحائرين البائرين، وقد ورد في معنى هذه الآية حديث حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام، اعتراه إلى ما شاء اللّه، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك‏)‏ قال‏:‏ قلت يا نبيّ اللّه أيها أولى بالشرك المرمي أو الرامي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بل الرامي‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي قال ابن كثير‏:‏ إسناده جيد‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه‏}‏، يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لرفعناه بها‏}‏ أي لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، ‏{‏ولكنه أخلد إلى الأرض‏}‏ أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى‏.‏

قال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم عن أبي النضر‏:‏ أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه، فقالوا له هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع اللّه عليهم قال‏:‏ ويلكم نبي اللّه معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليه وأنا أعلم من اللّه ما أعلم‏؟‏ قالوا له‏:‏ ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرفقونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن؛ فركب حمارة له متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل - وهو جبل حسبان - فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها، حتى إذا أزلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت به فضربها، حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه، فقالت‏:‏ ويحك يا بلعم أين تذهب‏؟‏ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا‏؟‏ تذهب إلى نبي اللّه والمؤمنين لتدعو عليهم، فلم ينزع عنها، فضربها، فخلى اللّه سبيلها، حين فعل بها ذلك، فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف اللّه لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف اللّه لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه‏:‏ أتدري يا بلعم ما تصنع‏؟‏ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال‏:‏ فهذا ما لا أملك‏.‏ هذا شيء قد غلب اللّه عليه، قال‏:‏ واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم‏:‏ قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسولهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم‏"‏رأس سبط شمعون بن يعقوب، فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها، وأتى بها موسى وقال‏:‏ إني سأظنك ستقول‏:‏ هذا حرام عليك لا تقربها، قال‏:‏ أجل هي حرام عليك، قال‏:‏ فواللّه لا أطيعك في هذا، فدخل بها قبته، فوقع عليها، وأرسل اللّه عزَّ وجلَّ الطاعون في بني إسرائيل، وكان ‏"‏فنحاص‏"‏صاحب أمر موسى غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء الطاعون يجوس فيهم، فأخبر الخبر، فأخذ حربته ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء وجعل يقول‏:‏ اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفاً، والمقلل لهم يقول عشرون ألفاً في ساعة من النهار، ففي بلعام بن باعوراء أنزل اللّه‏:‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها - إلى قوله - لعلهم يتفكرون‏}‏‏.‏ ‏"‏رواه محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر وأخرجه ابن جرير بمثله وفيه أن الزنى وقع من عدد من الجند الذين كانوا مع
موسى عليه السلام فسلّط اللّه عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً‏}‏‏.‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏}‏ اختلف المفسرون في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم أبي النضر أن بلعاماً اندلع لسانه على صدره فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك ظاهر، وقيل‏:‏ معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء،

كالكلب في لهيثه في حالتيه إن حملت عليه، وإن تركته هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏، ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا نقل نحو هذا عن الحسن البصري وغيره ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقصص القصص لعلهم يتفكرون‏}‏، يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فاقصص القصص لعلهم‏}‏ أي لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال اللّه إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة اللّه عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم اللّه موسى بن عمران عليه السلام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لعلهم يتفكرون‏}‏ أي فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن اللّه قد أعطاهم علماً وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته وموازرته كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به، ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل اللّه به ذلاً في الدنيا موصولا بذل الآخرة، وقوله‏:‏ ‏{‏ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه صار شبيهاً بالكلب وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس منا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه‏)‏ ‏"‏هو في الصحيحين من حديث ابن عباس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وأنفسهم كانوا يظلمون‏}‏ أي ما ظلمهم اللّه، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والاقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس