عرض مشاركة واحدة
قديم 23-01-2009, 01:52 AM   رقم المشاركة : 13
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










11

فهد بخبث: هل هو التعب حقا ً؟ أم أن هذا الجد ما عاد يستهويك؟

أنا بخمول: أظنك رأيت كيف كان اليوم ثقيلا ً.

فهد: وها أنت وحيد بين كتبك وأوراقك، فلم َ لا تستعيد يومك؟ لم َ لا تقلب أوراق جدك ومساراته، وتختار أحدها؟

أنا: حسنا ً... تريد أن تقول لي أني فقدت اهتمامي بالكتابة عن جدي، يمكنك قول هذا مباشرة والتوقف عن هذا التلاعب الممل.

فهد: ما أريد قوله هو ليس أنك فقدت اهتمامك فقط، وإنما فقدت ما هو أخطر، إيمانك به.

ثم أكمل بحماس: انظر إلى الأحداث التي جمعتها حول حياته، فرغم أن أكثرها لا يرد إلا في مخطوط عبد الرحمن بن عثمان، إلا أن الأحداث القليلة التي وردت في كتاب ( التبيين)، وهو كتاب ضعيف جدا ً كما تعرف، تنقض بعضها تماما ً، وتشكك وتضعف أخرى، هذا غير أن هذه الأحداث التي تحتاج إلى التحقق بشأنها، لا تستحق هذا الجهد، فهي ليست إلا معركة قبلية هنا، أو سطو على خراف هناك، وهذا ما يؤلمك حقا ً وتخفيه في نفسك ولا تبديه، فهذا الجد في النهاية لا يستحق كل هذا الجهد، وليس له تاريخ يصمد أمام الآلة النقدية والفكرية التي أعددتها، وأنت الآن تدرك أن ما سيخرج لك إن تركت جدك هكذا، عاريا ً أمام كلماتك، ليس إلا أشلاء تاريخ وإنسان وحكايات منظومة.

عاد ليكمل عندما لم أرد: أتعرف أي مأزق أوقعت نفسك فيه الآن؟ أتعرف ما الذي تشعر به؟

توقف مرة أخرى ليضفي على كلماته أهمية أكبر: تشعر بالتمزق ما بين عاطفتك تجاه جدك البعيد، وعقلك الذي ينبذه وينبذ كل ما يمثله هذا الجد من أفكار وثقافة.

فهد: تشعر بالفقد... لكل هذا الميراث الذي سيكون عليك تصفيته، وإحراقه أو دفنه في أحسن الأحوال.

فهد: وبالحزن... لأن جدك لم يكن زعيما ً كما تخيلته، وأن نفوذ والدك الآن أعظم وأكبر من نفوذه، وبالضيق لأن أشعاره لا قيمة أدبية لها، وأن ترديد العائلة لها هو ما جعلها مستساغة في أذنيك، وحتى قصيدة ( ذياب الجرادي) والتي لا دليل لديك بأنها من قصيده، وليست موجودة في ديوانه، لا قيمة كبيرة لها، هذا غير أن ( ذياب الجرادي) نفسه شاعر مداح مدح الجميع، وهذا ما يجعل مدائحه بلا قيمة كبيرة فنيا ً ومعنويا ً.

فهد: وبالقلق... من مصير هذا الكتاب الذي صيرته العائلة بين يديك، وأنت تدرك الآن بأنك لن تكتبه أبدا ً، كيف ستخبرهم بأن هذا الكتاب لن يكون؟

* * *

احتجت إلى عدة اتصالات حتى يرد علي ( أبو خالد)، جاءني صوته العجول:

- هلا يا شيخ، كيف حالك؟

- هلا... الحمد لله بخير، كيف حالك أنت؟

- الحمد لله... بشّر؟ هل انتهيت؟

- لا... لدي بعض الأسئلة ومحتاج للقاء بك.

- حياك الله، مر بي في المنزل غدا ً أو بعد غد، اليوم الذي يناسبك.

- أفضل أن تزورني أنت في منزلي.

- ما يصير بارك الله فيك، زرتك المرة الأخيرة، وهذه المرة دورك، ثم – وهو يضحك – العلم يؤتى ولا يأتي.

- على خير إن شاء الله، يناسبك غدا ً بعد المغرب؟

- على بركة الله.

وهو ما كان، وضعت المخطوطة والكتب التي أعطاني إياها، مع أوراقي التي سردت فيها أحداث حياة الجد، فيما كان مقدرا ً له أن يكون الفصل الأول من الكتاب، وقصدت المنزل الكائن شمال الرياض.

كان الحي جديدا ً، ويبدو أن المنزل شيد حديثا ً خلال السنوات القليلة الماضية، فالطريق الذي اضطررت إلى خوضه كان مليئا ً بفواصل أسمنتية تحدد الطريق، وحفريات واسعة، ومنازل متناثرة بينها مساحات لا بأس بها من الأرض الخالية.

أما المنزل فكان دلالة جيدة على أن ( أبا خالد) عتيق في ذوقه واختياراته، فرغم حداثة عهد المنزل، إلا أن كل شيء خلاف هذا قديم، خطوط البناء، واجهة المنزل الخارجية، تصميمه الداخلي، وحتى الأثاث بدا غير متناسق وبألوان كئيبة.

قادني طفل صغير – استقبلني بملابسه الداخلية - إلى الملحق الخارجي، وركض يستدعي أباه، فيما بقيت أنا واقفا ً أتأمل الغرفة الواسعة بموقدها الحجري، والذي ملأت فراغاته أدوات تراثية، لا ريب أنها استهلكت وقتا ً لا بأس به في البحث عنها واختيارها.

دقائق وجاء ( أبو خالد) مرحبا ً، يتبعه ابن له - تذكرت ملامحه بالكاد من اجتماعنا السنوي – يحمل القهوة، وبعد السلام والفنجال الأول، استجمعت كلماتي المترددة في جوفي لأرد على سؤال ( أبو خالد):

- بشّر؟ كيف الكتاب؟

- والله يا أبو خالد – بتنهيدة وهزة رأس تساعدان على بيان قلة الحيلة -، الأمور ليست كما أردتها للأسف.

- أفا... سلامات !!؟

- الله يسلمك... الأمر هو أني بدأت بداية طيبة في قراءة المصادر التي أعطيتني إياها، ورسمت لي خطة للكتابة، ولكني وقد تعمقت الآن في الموضوع، لم أعد أجد لدي الرغبة في الاستمرار.

- تكاسلت !!! يا رجل لم يعد باقيا ً إلا القليل، أجزم وتوكل وربك يعين.

- لا... ليس الأمر تكاسلا ً، الأمر عدم رغبة، هناك أشياء لست مقتنعا ً بها في سيرة الجد، فلذا لا أرغب في كتابتها، والمشكلة أني إذا لم أكتبها فلن يبقي شيء من السيرة.

- لم أفهم !!! ما هي الأشياء التي لست مقتنعا ً بها؟

- انظر هنا مثلا ً – وقد أخرجت أوراقي التي تلخص الأحداث -، يقول الشيخ ( عبد الرحمن بن عثمان) أن جدنا كان مع الركب الذين خرجوا على الوائلي، ويحدد هذه الحادثة بعام 1259 هـ ويورد أبيات للجد حول هذه المعركة وما جرى فيها، ولكن هنا في كتاب التبيين – وفتشت عن رقم الصفحة التي دونتها في أوراقي – يذكر المؤلف أن المعركة كانت في عام 1255 هـ، وأن المعركة التي كانت في عام 1259 هـ ليست هي ذات المعركة وإن جرت في ذات المكان، وهذه المعركة هي التي شارك فيها الجد، والآن إما أن كتاب التبيين مخطئ، أو أن الجد بكل بساطة شارك في معركة بلا قيمة، وأدعى أنه شارك في معركة أخرى جرت في ذات المكان ولكنها ذات قيمة كبيرة.

- الله المستعان... أتركك من كتاب التبيين، ففيه خلط كثير، ثم هل يعقل أن لا يعرف الناس من شارك في ركب الوائلي ومن لم يشارك؟ بحيث يكون من اليسير لأي أحد أن يدعي أنه شارك في هذه المعركة أو تلك.

- ولكن يا أبا خالد – وأنا أقلب الورقة لأقرأ ما كتبته في قفاها – أنا رجعت إلى موسوعة ( المعارك والغارات النجدية) للمحتم، ووجدت فيها أن معركة الوائلي كانت فعلا ً في عام 1255 هـ، وهذا معناه أن الجد كان عمره حينها 12 سنة، وأنه لم يشارك فيها رغم أبياته عنها.

- عجيب !!!

- وليس هذا فقط، هناك أشياء كثيرة أخرى دونتها في هذه الأوراق، هنا مثلا ً يقول الشيخ عبد الرحمن في المخطوط أن الجد صالح اختلف مع أخيه الأكبر مساعد، وأن العم مساعد كان يترصد للجد ويغري به ابن دهيش ولذلك أخرجه الجد صالح من الريلية مع أبنائه حمود وحسن، ثم أجد في كتاب ( أخبار نجد ورجالاتها في القرن الثالث عشر) أن إخراج الجد صالح لأخيه كان لخلافهما على مزرعة.

- الله يهديك... لا تكن حاطب ليل، ليس كل ما يكتب في هذه الكتب حقيقة، لو أنك التزمت أحسن الله إليك بمخطوط الشيخ عبد الرحمن، مع توثيق بعض التواريخ والأحداث من مصادر موثقة، لم َ وجدت كل هذا العناء في تأليف الكتاب.

- أي مصادر موثقة؟ أقول لك أنا رجعت للموسوعة، ولكتاب ( أخبار نجد) ووجدت بعض ما فيها ينقض ما كتبه الشيخ عبد الرحمن، حتى لم يعد لدي الآن شيء لأكتبه عن الجد صالح، وسأضطر إن مضيت في هذا الكتاب أن أنفي الكثير من الأحداث المشهورة عنه.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

- طيب... اسمع – بعد تأمل من أبي خالد، رافقه تحسس لمنابت لحيته التي بدأ الشيب يخالطها – أكمل أنت الكتاب، وبعد هذا أعطني إياه، وأنا أعدل عليه وأضيف له ما يفتح الله به.

- لا... أنا لا يمكن أن أكتب شيئا ً لم أقتنع به.

- لا بأس... اكتب ما تريده، وأنا سأعيد صياغة الكتاب بعدما تنتهي بما يناسب.

- وما الفائدة؟ لم َ أضيع الوقت في الكتابة ما دمت ستعيد أنت الكتابة من جديد ! لم َ لا تكتب أنت الكتاب، هذا هو المخطوط، وهذه هي الأحداث كما لخصتها أنا، وهذي نسخ من كل أوراقي يمكنك الاستفادة منها.

- المشكلة في الوقت، لو كنت متفرغا ً لكتبت الكتاب من البداية – قالها بحسرة -.

- لعلك تراجع نفسك في الموضوع – أكمل بعد تنهيدة -.

- أنا لم أتصل بك يا أبا خالد إلا بعدما راجعت نفسي جيدا ً، وقلبت الأمر في ذهني، واقتنعت بأني لا يمكن أن أتم الكتاب.

- لا حول ولا قوة إلا بالله... المشكلة أن الجميع متحمسين للكتاب، ويريدونه مطبوعا ً في اجتماع العائلة القادم، ولا أدري الآن ماذا سنقول لهم؟

- يمكن للكتاب أن يكون جاهزا ً في موعده، لو أنك وجدت أحدا ً يتفرغ له في الأيام القادمة بالاعتماد على المخططات والملخصات التي وضعتها.

- يصير خير – قالها بحنق -، هات الأوراق وسأنظر أنا في الأمر، عسى أن أجد من يتكفل به.

* * *

بدت لي نتيجة اجتماعي بأبي خالد وتخلصي من هذا المشروع البائس مناسبة تستحق الاحتفال، لذا اتصلت بلينا حال خروجي من منزله، وطلبت منها أن تستعد للخروج بعد صلاة العشاء مباشرة.

لم يكن هناك مكان محدد نذهب إليه، ولذا فكرت بجولة في الرياض مع كوب قهوة، ومن ثم عشاء في أحد المطاعم الفاخرة، والتي احتفظ بأسمائها في قائمة بجوالي، وأحرص على تجربتها واحدا ً تلو الآخر.

بعد الصلاة احتاج الأمر إلى اتصالين متقطعين لتخرج لينا متسربلة بعباءتها، قالت وهي تسحب العباءة بحرص حتى لا يغلق عليها الباب – بعد المرة التي كنست فيها عباءتها نصف الرياض، صارت أكثر حرصا ً في الركوب -:

- شكرا ً... لقد أنقذت ليلتي، كنت أشعر بملل شديد، وكنت أقلب خياراتي ما بين أن أشاهد التلفاز وأتعشى شطيرة جبن، أو أن أتصل بصديقة لأثرثر معها.

- هههههههههههههه، عليك ِ أن تشكري أبا خالد إذن، فخروجنا اليوم هو احتفال بتخلصي من كتاب جدي وإعادته إليه.

- غريب !!! ظننت أنك متحمس لكتابة ذلك الكتاب.

- كنت متحمسا ً له.

- وما الذي غير رأيك؟

- أشياء كثيرة اكتشفتها وأنا أحاول تأليف الكتاب، يمكنك ِ أن تقولي بأني اكتشفت بأن هذا الجد لا يستحق أن أؤلف عنه كتابا ً.

- حسنا ً... وما الذي سيحدث الآن للكتاب؟

- لا أدري، لا ريب أنهم سيبحثون عن ضحية جديدة له.

لم تقل شيئا ً، والتفتت تتأمل الطريق، فيما انحرفت أنا مع شارع طويل، كان في الشارع المعاكس له مقهى جيدا ً يقدم خدمة السيارات، وكان يمكنني ملاحظة الصف الطويل من السيارات المنتظرة، فلذا قررت التخلي عن تكاسلي والترجل للحصول على القهوة بنفسي.

اختارت هي نوعا ً مثلجا ً من القهوة ذو اسم مرعب، فيما اكتفيت أنا بالمخا الساخنة – الموكا لسريعي النسيان -، ودخلت المكان الذي يحمل رائحة... حسنا ً رائحة القهوة.

كان المحاسب الذي يرتدي مئزرا ً قاتما ً، شاب أسمر بلحية تطوق الفم فقط، وتترك الخدين أملسين، ونظارات ضخمة بلون الفضة تخفي عينيه تماما ً وتمنحه منظرا ً غريبا ً، نقر الطلب بسرعة على آلته وتناول المال مني بلا أي كلمة، ثم تحين لحظة فراغه هذه ليقفز من كرسيه ويتناول علبة حليب ويقف ليساعد زميل له ذو عينين ضيقتين وابتسامة لئيمة.

- ها... عم َ ستتحدثان في هذه الليلة الجميلة – كان هذا فهد وقد استغل انشغالي بتأمل الفاتورة -.

- يمكننا أن نتحدث عن أي شيء.

- كم أتوق لذلك.

تجاهلته وفضلت أن انتظر القهوة بصمت، وعندما عدت إلى السيارة كنت أفتش في ذهني عن موضوع يمكنني إثارته والتحدث مع لينا عنه.

كانت المواضيع تتساقط مع كل خطوة، ولذا ركبت السيارة بذهن خال ٍ واكتفيت بارتشاف القهوة وانتظار أن تفتح لينا موضوعا ً.

بعد أن لهت قليلا ً بمشروبها البارد، قالت وهي تضعه في حاملة الأكواب:

- من اتصل بي اليوم؟ توقع !!!

- من؟

- أريج.

- أريج؟

- صديقتي في الثانوية، أخبرتك عنها من قبل، التي توفي والدها العام الماضي.

- اها، تذكرتها، كيف حالها؟

- الحمد لله بخير، وأخبرتني بأنها خطبت لابن عمها منذر.

- منذر !!! ايه... الله يوفقهم.

- الله يوفقها، كانت تقول لنا في الثانوية أدعو لي يا بنات إني أتزوجه، يا حليلها، الله يهنيهم.