{ فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس . إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون . إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين }
{ فلا أقسم بالخنَّس * الجوار الكُنَّس} قال علي: هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل. وروى ابن جرير عن خالد بن عرعرة سمعت علياً، وسئل عن {لا أُقسم بالخنس * الجوار الكنس} فقال: هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل "أخرجه ابن جرير"، وكذا روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن: أنها النجوم، وقال بعض الأئمة: إنما قيل للنجوم الخنس، أي في حال طلوعها، ثم هي جوار في فلكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها كنّس، من قول العرب: أوى الظبي إلى كناسه، إذا تغيب فيه، وروى الأعمش عن عبد اللّه {فلا أقسم بالخنس} قال: بقر الوحش، وقال ابن عباس {الجوار الكنس} البقر تكنس إلى الظل، وقال العوفي عن ابن عباس: هي الظباء "وكذا قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحّاك"، وقال أبو الشعثاء: هي الظباء والبقر، وتوقف ابن جرير في المراد بقوله: {الخنس الجوار الكنس} هل هو النجوم أو الظباء أو بقر الوحش؟ قال: ويحتمل أن يكون الجميع مراداً، وقوله تعالى: {والليل إذا عسعس} فيه قولان أحدهما إقباله بظلامه، قال مجاهد: أظلم: وقال سعيد بن جبير: إذا نشأ، وقال الحسن البصري: إذا غشي الناس، والثاني إدباره، قال ابن عباس: {إذا عسعس} إذا أدبر، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحّاك {إذا عسعس} أي إذا ذهب فتولى، وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: {إذا عسعس} إذا أدبر، قال لقوله تعالى: {والصبح إذا تنفس} أي أضاء، واستشهد بقول الشاعر أيضاً:
حتى إذا الصبح له تنفسا * وانجاب عنها ليلها وعسعسا
أي أدبر، وعندي أن المراد بقوله: {إذا عسعس} إذا أقبل، وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضاً، لكن الإقبال ههنا أنسب، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق، كما قال تعالى: {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى}، وقال تعالى: {والضحى * والليل إذا سجى}، وقال تعالى: {فالق الاصباح وجعل الليل سكناً} وغير ذلك من الآيات، وقوله تعالى: {والصبح إذا تنفس} قال الضحّاك: إذا طلع، وقال قتادة: إذا أضاء وأقبل، وقال سعيد بن جبير: إذا نشأ، وقال ابن جرير: يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبيّن.
وقوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم} يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم، أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، {ذي قوة} كقوله تعالى: {علمه شديد القوى * ذو مرة} أي شديد الخلق شديد البطش والفعل، {عند ذي العرش مكين} أي له مكانة عند اللّه عزَّ وجلَّ ومنزلة رفيعة، {مطاع ثَمّ} أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى، قال قتادة: {مطاع ثم} أي في السموات، يعني ليس هو من أفناد أفناد: جماعات الملائكة، بل هو من السادة والأشراف، معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة، وقوله تعالى: {أمين} صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جداً، أن الرب عزَّ وجلَّ يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً صلى اللّه عليه وسلم بقوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} قال الشعبي وميمون: المراد بقوله {وما صاحبكم بمجنون} يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن اللّه عزَّ وجلَّ، على الصورة التي خلقه اللّه عليها له ستمائة جناح، {بالأفق المبين} أي البين، وهي الرؤية الأولى كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله: {علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى}، والظاهر أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء، لإنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أُخْرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى} فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء، وقوله تعالى: {وما هو على الغيب بظنين} أي بمتهم، ومنهم من قرأ ذلك بالضاد، أي ببخيل بل يبذله لكل أحد. قال سفيان بن عيينة: ظنين و ضنين سواء، أي ما هو بفاجر، و الظنين المتهم، و الضنين البخيل، وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله اللّه على محمد، فما ضنّ به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده، واختار ابن جرير قراءة الضاد. قلت : وكلاهما متواتر ومعناه صحيح كما تقدَّم، وقوله تعالى: {وما هو بقول شيطان رجيم} أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، أي لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له، كما قال تعالى: {وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون}. وقوله تعالى: {فأين تذهبون}؟ فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن، مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقاً من عند اللّه عزَّ وجلَّ! كما قال الصديق رضي اللّه عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين، وأمرهم فتلوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذّاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال: (ويحكم أين تذهب عقولكم؟ واللّه إن هذا الكلام لم يخرج من إل) أي من إله، وقال قتادة: {فأين تذهبون} أي عن كتاب اللّه وعن طاعته، وقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون {لمن شاء منكم أن يستقيم} أي لمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه مناجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه، {وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه رب العالمين} أي ليست المشيئة موكولة إليكم، بل ذلك كله تابع لمشيئة اللّه تعالى رب العالمين، قال سفيان الثوري: لما نزلت هذه الآية: {لمن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل اللّه تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه رب العالمين}.