عرض مشاركة واحدة
قديم 15-01-2014, 12:54 AM   رقم المشاركة : 1
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور
Icon7 ۩ قصـــة.. أدبية .. الرجل البدين كارين بلكسن

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

أدبية .. الرجل البدين كارين بلكسن
في مساء من شهر تشرين الثاني إرتكبت في أوسلو عاصمة النرويج جريمة رهيبة. ففي بيت مهجور من بيوت الضواحي قتل أحدهم صبية صغيرة.
الصحف أعلمت بذلك بصورة مسهبة ومفصلة. وفي نهارات تشرين الثاني القصيرة والممطرة كان الناس يقفون في الشارع أمام ذلك البيت وينظرون الى جدرانه. الضحية كانت طفلة أحد العمال مما أيقظ في أذهان الجميع الإستياء المرتبط بأحوال الظلم القديمة.
تعقب البوليس أثرا واحدا لاغير. فقد أفاد صاحب دكان في ذلك الشارع بأنه في اليوم الذي أرتكبت فيه الجريمة حين أغلق دكانه مساء رأى رجلا بدينا ممسكا بيد تلك الطفلة المنكودة.
إعتقل البوليس بضعة متشردين ومعهم عددا من الرجال المشبوهين. الا أن أمثال هؤلاء ليسوا بالبدن عامة. وهكذا بحث البوليس في مكان آخر ، بين التجار والموظفين. كذلك صارت النظرات مصوبة الى كل بدين في الشوارع.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

في الوقت ذاته كان هناك طالب شاب إسمه كريستوفر لوندون يستعد الى الإمتحان بمجهود كبير. قدم الى المدينة من شمال النرويج حيث يسود النهار طوال نصف السنة، والليل في النصف الثاني منها. ويختلف الناس هناك عن بقية النرويجيين. وفي عالم الحجر والسمنت كان كريستوفر معتلا بسبب الحنين الى التلال والبحر المالح.
كان أقرباؤه الذين بقيوا في ( نوردلاند) فقراء ولم يعرفوا شيئا عن تكاليف المعيشة في أوسلو. وهو لم يرد إزعاجهمم بطلب النقود. إشتغل بارمان في فندق ( غراند هوتيل ) من الساعة الثامنة مساء الى منتصف الليل ، لكي يكمل دراسته. كان فتى وسيما دمث الأخلاق أدى عمله بإخلاص وشطارة. لم يقرب الشراب الا أن إعداده للآخرين كان بمثابة نوع من الإهتمامات العلمية لديه.
بهذه الصورة واصل دراسته. غير أنه لم يبق لديه الكثير من الوقت للنوم والعلاقات العادية مع الآخرين. لم يقرأ أي كتاب عدا كتب الدراسة بل لم يكن يلقي ولو نظرة واحدة على الجرائد، ولذلك لم يعرف ماكان يجري حواليه. كان مدركا بأنه لايملك أسلوبا سليما في العيش لكن كلما إزداد نفوره من حالته بذل جهدا أكبر في العمل الذي وجده مخرجا من هذا الوضع.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

في البار كان متعبا على الدوام حتى أنه كان يغفو أحيانا بعينين مفتوحتين. الضوء الساطع وضجة الأحاديث أثارتا شعورا فيه بأن كل شيء يدور أمام عينيه. غير أنه عند العودة الى البيت بعد منتصف الليل كان الهواء ينعشه ويطرد النعاس. عند دخوله الى الغرفة كان يعرف كل مرة بأنها ساعة خطرة ، فإذا خطرت بباله فكرة ما ، تبقى هي هناك بصورة فعلية لكن غير طبيعية مما يحول دون إنقياده الى النوم، و لهذا السبب لم يقدر على أن يواظب على الدرس في اليوم التالي. كان يعد نفسه بأنه سيقرأ هذه المرة ، لكنه بعد خلع الملابس يغلق عينيه وتنتهي يقظته.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رغم هذا الحذر وقع نظره ذات ليلة على الجريدة التي كان قد لفّ بها قطعة من السجق. بهذه الصورة قرأ عن الجريمة. كانت هذه الجريدة قد صدرت قبل يومين ، وأكيد أن الناس حواليه كان يتكلمون طوال الوقت عن هذا الموضوع لكنه لم يسمع شيئا. كانت الجريدة ممزقة وأفتقدت فيها نهايات الجمل لذلك أضطر الى الإستعانة بالمخيلة. بعدها لم يستطع أن يطرد من رأسه هذه القضية.
كلمتا ( الرجل البدين ) دفعتاه الى أن يستعرض في ذاكرته جميع الناس البدن الذين كان يعرفهم . في الأخير توقف عند أحدهم.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

كان هذا أحد الجنتلمانات الأنيقين والبدن من مرتادي البار الذي يعمل الشاب فيه. وعرف كريستوفر أن هذا الجنتلمان هو أديب، شاعر من مدرسة خاصة من النوع المتفنن ونصف غيبية. كان كريستوفر قد قرأ بضعة أشعار له وبهره ذلك الإنتقاء الغريب والتذوق المبالغ فيه للكلمات والرموز، وخيل له أنها قد ملئت بألوان الزجاج الكنائسي القديم. كان هذا الفنان يكتب على الغالب عن أساطيرالقرون الوسطى وأسرارها . وفي ذلك الشتاء كانت تعرض في المسرح تمثيلية له بعنوان( المتذئب ). كانت مفزعة إذ يكفي الأشارة هنا الى العنوان ذاته ، لكن فرادتها كانت تكمن ، بالأحرى ، في ذلك الجمال والحلاوة. كان مظهر المؤلف نفسه ملفتا للنظر. كان بدينا ذا شعر غامق اللون ومجعّد، ووجه كبير أبيض اللون. أما شفتاه فكانتا حمراوين وصغيرتين، والعينان شاحبتين بشكل غير مألوف. سمع كريستوفر أن هذا الشاعر كان في الخارج كثيرا من المرات. كان من عادته الجلوس وظهره الى البار وطرح نظرياته الغريبة على حلقة من الشباب المعجبين به . كان إسمه أوسفالد سينين.
لقد إستحوذ شخص هذا الشاعر على نفس كريستوفر. ولليال طويلة كان يخيل له أنه يرى أمامه وجه المشبوه والذي يعبّر بدون إنقطاع عن شيء آخر. أخذ يشرب الماء البارد الا أنه لم يبّرد جسمه. فكر بأن هذا الرجل البدين من ( غراند هوتيل ) هو ذلك البدين من الجريدة.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

في الصباح لم تخطر بباله فكرة أن يقوم بدور المتحري. ولو أنه ذهب الى البوليس لما تغير شيء في المسألة ، إذ لايقدر على تقديم أي حقائق ، أي براهين ، أي دوافع . فهذا الرجل يملك أدلة على براءته، ولضحك هو وأصدقاؤه وظنوا أن الشاب قد أصيب بخبال أو قد يدفعهم الإستياء الى تقديم شكوى الى مدير الفندق وحينها سيفقد كريستوفر عمله.
طيلة أسابيع ثلاثة كان هناك ممثلان في هذه المسرحية: البارمان الشاب الجهم والشاعر المبتسم أمام البار. الأول حاول ان يهرب طوال الوقت من هذه اللعبة بينما لايعرف الثاني أي شيء عنها. مرة واحدة إلتقت نظرات البطلين.
بعد بضعة ايام من معرفة كريستوفر بالجريمة جاء أوسفالد سينين مع صديقه. لم يرد كريستوفر أن يسترق السمع الى حديثهما حين وجد نفسه ، بحكم عمله، في ذلك الجزء من البار حيث يجلس الصديقان.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

كانا يتحدثان عن الوهم والحالة الفعلية. صديق الشاعر قال بأنه لابد من وحدة كلتى الحالتين ولذلك فإن وجودهما هو موفق بطريقة غامضة. الا أن الشاعر البدين لم يتفق مع محدثه ، وكان عليه أن يعزل الأولى عن الثانية بحذر أكبر من حذر الآخرين . أضاف قائلا : ليس المقصود هو الغبطة التي تمنحها الإثنتان ، فغريزتي تفرق بينهما. أنا أعرف ما هو الوهم حين ألتقي به وكذلك أعرف الحالة الفعلية حين ألقاها.
رسخ هذا الجزء من الحديث في ذهن كريستوفر. كان يكرره على نفسه مرات كثيرة، وفكر بنفسه ، ولكم من مرة ، بمفهوم السعادة. أراد أن يعثر على الجواب على السؤال فيما إذا كان هناك شيء من هذا القبيل قائما بالفعل.. كما تساءل فيما إذا كان أحدهم سعيدا ومن هو. كرر الرجلان الجالسان أمام البار هذه الكلمة مرات كثيرة. إذن قد يكونان سعيدين. وهذا البدين أقرّ بوجود الحالة الفعلية حين يلقاها وقال بنفسه إنه سعيد.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

تذكر كريستوفر شهادة صاحب الدكان الذي قال بأن وجه الصغيرة ( ماتيا ) حين مرت أمامه في الشارع الغارق بالمطر كان مشرقا يعبرعن سعادتها كما لو أن الصبية الصغيرة قد وعدت بشيء أو كانت تتوقع شيئا هرعت صوبه. ذاك الرجل الذي كان معها؟. فكر الطالب : هل إرتسمت السعادة على محياه أيضا؟. لم يسعف الوقت صاحب الدكان برؤية وجه ذلك الرجل بل رأى قفاه فقط.
طفق كريستوفر يراقب هذا الرجل كل ليلة. في البدء إعتبر محض نكتة مكدرة من نكات الحظ أن عليه القيام بهذه المراقبة كلما كان الرجل في محيط النظر بينما هو لايعرف شيئا عن وجود رفيق له مثل كريستوفر. الا أنه بعد وقت ما أخذ يؤمن بأن المراقبة المتواصلة تلقي بتأثير معيّن على المشتبه به وأنه بعد زمن ما سيحصل تبدل في المراقب بفعل المراقبة. لقد إزداد هذا الرجل سمنة وشحب وجهه كما تعمق صفاء عينيه. وفي مرات عدة كان شارد الذهن مثل كريستوفر. وذلك السيل المدغدغ من الكلمات التي كان يطلقها صار أبطأ الآن، وإنفلت فجأة كما لو أن خطيبا بليغا لم يفلح في العثور على الكلمات المناسبة.

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة







التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس