عرض مشاركة واحدة
قديم 08-01-2013, 02:03 AM   رقم المشاركة : 6
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور


مقـــاصــد المحتسبين
بين يديّ عشرات الإيرادات والشبهات التي توضع باستمرار أمام ناظري المحتسبين (الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر) ، تأتي بمقصّها على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتأخذ من أطرافها وجوانبها وأعاليها حتى تنزل بها إلى الموضع المناسب الذي لا ينالها فيه تهكّمات وتذمّرات المنحرفين والعلمانيين، كما تقوم هذه الإيرادات بدور قاتم السلبية في الضغط على صدور المحتسبين ليصبحوا أقل غيرة وأخفّ حماسة وأضعف يقيناً.
سأستعرض هذه الإيرادات سريعاً ، وسأنثرها جميعاً على الطاولة، وسأحاكّمها إلى المقاصد التي أرادتها الشريعة من شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلنتدبّر نصوص القرآن والسنة لنعرف مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ثمّ نسلّط هذه الإضاءة على تلك الإيرادات لنكشف عوارها وخللها:
أول سؤال هنا: في كيفية معرفة مقاصد الشريعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في أي باب آخر؟
قد ذكر المختصون عدداً من الوسائل والطرق الكاشفة عن مقاصد التشريع، أهمها وأوضحها هي ذات الأوامر والنواهي الصريحة في النصوص الشرعية، فكلّ نصّ شرعي جاء بأمر أو نهي فهو مما يريده الله ويقصده.
إذاً؛ فالمقصد الأول للاحتساب هو الامتثال لمراد الشريعة في وجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانتهاء عن نهيها في ترك هذه الشعيرة.
نقرأ في كتاب الله:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}*آل عمران: 104*
وهو من صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها القرآن: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} *الأعراف:157*
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه
)).
فالمسلم حين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قد حقق المقصد والغاية والمعنى الذي يريده الله منه ويريده منه النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا قمت بأداء الصلاة الفريضة جماعة، أو أدّيت فريضة الحجّ، أو صمت مع المسلمين شهر رمضان، فإنّك تقوم بذلك امتثالاً وطاعة وعبودية لله، ولا تطلب من وراء ذلك مصلحة ولا سمعة ولا غاية دنيوية، ولو اعترض عليك أحد : (بأنّ هذه العبادات لا تقدّم لك شيئاً مادياً ملموساً) لرفعت يدك حمداً لله أن لم يحرمك الهداية كما حرم هذا المسكين.
كما أنّ من يقوم بهذه العبادات لن يلتفت إلى ضاحك أو عابث أو مثبّط أو حتّى مؤذٍ ومعتدٍ لأنّه يرى أنّ طاعة الله لا تقبل المفاضلة مع حظوظ النفس وأهوائها.
كذلك المحتسب، فهو حين ينصح ويذكّر بالله يقوم بعبادةٍ كالصلاة والزكاة، لا يبحث من ورائها عن غاية دنيوية ولا مصلحة عاجلة، ولا يفتّ في عضده ساخر أو عابث أو مثبّط لأن شأن العبادات ومرضاة الله أعظم.
حين يتجلّى هذا المعنى العظيم في قلب المسلم، فيرى أن (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر) عبادة يحبّها الله ويقصدها ويريد من عباده القيام بها ، حين يتصلب هذا الأصل تتفتّت معه أشكال الاعتراضات والإيرادات:
فحين يعترض معترض بأن (كلّ شخص مسؤول عن نفسه ولن يضرّ إلا نفسه) أو يطلب (بأن لا تتدخّل في خصوصيات الآخرين) أو إذا حسن حاله قال (أصلح حالك ولا عليك منهم).
فهو إنسان قد غاب عنه مقصد الشريعة تماماً، لأن من أمرني بالصلاة هو من أمرني بهذه الشعيرة.
وإذا قال قائل: (لا فائدة من هذا الإنكار؛ فسواء نصحت أم لم تنصح فالمنكر لم ولن يتغيّر!)
فهو إنسان لم يستوعب بعد أن المسلم لن يبحث عن فائدة أعظم من امتثال أمر الله، والقيام بما يريد الله.
ولو قال قائل: ( هم يعرفون أنه حرام وربّما يكونوا أعلم منك به فلا معنى لإنكاره) فقد غاب عنه أن هذه الشعيرة ليست موجهة إلى تعليم الناس ما جهلوه فقط، بل التعليم جزء من هذه الشعيرة وليس هو كلّ الشعيرة.
وسنجد في القرآن من مقاصد هذه الشعيرة: تحصيل المعاني الشريفة التي ألبسها الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكرين.
فقد وصف الله هذه الأمة بالخيرية لقيامها بهذه الشعيرة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} *آل عمران:110*
ووصفها بالفلاح بسبب ذلك: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}*آل عمران: 104*.
وجعله من صفات المؤمنين، ورتّب لهم الرحمة بسببه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}*التوبة:71*
كما ذمّ الله التاركين لهذه الشعيرة المفرّطين فيها فقال سبحانه : {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}*المائدة:63*، وعابهم فقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}*المائدة:79*
فالفلاح والخيرية والرحمة وغيرها من المعاني العظيمة هي ثمرة من ثمار القيام بهذه الشعيرة، وإهمالها سبب للعيب والذم والهلاك.
إذن؛ فمن غير المتوقّع ممن فهم هذه المقاصد وكان مستحضراً لها أن يكون اعتراض بعضهم (بأنّ طبيعة الاحتساب تجعلك إنساناً غير مقبول لدى قطاع كبير من الناس، وربّما ينفرون منك ويستثقلون مجالسك، فالسكوت والمداراة والدخول في الموضوعات المشتركة يجعلك أكثر جاذبية وأقدر على التواصل والتعايش) لن تكون هذه إلا ممازحة ثقيلة الاعتبار لأنّ مقامه عند الله لا يدانيه شيء، وهو يستحضر أن استجلاب رضا الناس هبة ربانية لطالما حُرم منها من داهنهم، ووهبها الله لمن كان صادقاً معهم ولو خالفوه ( من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).
لا يشكّ أحد أن المحتسب يضحّي بقدر واضح من سمعته ومكانته وتقدير الناس له من جرّاء هذا الأمر، فمن يدخل في مكان تصدع فيه أصوات الموسيقى فيقوم ناصحاً لهم أو من يحضر في مجالس تلاك فيها أعراض الناس فينصحهم وينكر حديثهم… فربما يكون في محلّ امتعاضهم وتذمّرهم من وجوده لكنّ هذا ثمن لا بدّ أن يقدّم لتحصيل المقامات العالية.
وأما حين يكون المحتسب لديه سلطة تجعله حائلاً بين بعض الناس وشهواتهم - كالقائمين على جهاز الحسبة - أو حين يلتهب غيرة على انتهاكات من لديهم سطوة الإعلام فإنه سيناله من التشويه والإسقاط والتبشيع ما لا يقدره له إلا الله.
ومن مقاصد الاحتساب في الشريعة: تغيير المنكر وإزالته وتطهير المجتمعات المسلمة منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)
فالأمر بالمعروف في مقصود الشريعة يراد به (الدعوة إليه وتثبيته والإلزام به)، والنهي عن المنكر في مقصود الشريعة يراد به (إنكاره ومنعه وإزالته).
فحين يحاول بعضهم تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع (سحب وصف الإلزام والمنع) فيكون من باب النصيحة والتعبير عن الرأي من دون أي فرض أو إلزام فيقول: ( ينصح الإنسان ويبين له المنكر لكن من دون فرض وصاية عليه) فهو رأي بعيد عن المعنى الشرعي لهذه الشريعة.
هي محاولة تلفيقية لتقريب مفهوم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من المفهوم العلماني، لأنّ العلمانية لا تعارض من تعبير الإنسان عن رأيه فيُظهر ما يراه معروفاً وُينكر ما يراه منكراً، لكن من المرفوض والمستهجن تماماً أن يكون ثمّ فرض أو إكراه لأحد على أن يفعل أمراً أو يترك شيئاً بناءً على أن ذلك حكم الشريعة، لأن ذلك من قبيل انتهاك الحريات وفرض الوصاية على الآخرين.
ليس هذا التلفيق جديداً، فقد اعتادت ذاكرتنا الفكرية المعاصرة أن كلّ حكم شرعي يواجه بمعارضة ورفض علمانية لا بدّ أن يقوم من الإسلاميين من يتطوّع لمحاولة تقديمها بصورة تكون مقبولة لديهم، من خلال التقليم والتقزيم للمفهوم الشرعي حتى يبدو مقبولاً.
إذن؛ فحين تنهى الشريعة عن أمر، فلا يكفي أن يكون التعامل معه فقط بالنصيحة وإبداء الرأي من دون أن يكون ثمّ تدخل قانوني ونظامي من الدولة للإلزام به، فكلّ المحرمات في الشريعة تدخل في ضمن نطاق الممنوع نظاماً، لا يجوز انتهاكه ومن فعل فهو معرّض للعقاب.
يعترض البعض على هذا الكلام (أن كثيراً من المحرمات في الشريعة لم تحدد الشريعة لها عقاباً معيناً مما يعني أنّه لا يلزم معاقبته ولا منعه).
وهنا خطأ فاحش، فعدم وجود عقاب محدد لا يعني أن الفعل يكون مشتهراً لا يمنع منه الإنسان، فيكفي أن الشريعة حرّمته حتى يكون ممنوعاً نظاماً، وحين يكون ممنوعاً نظاماً فلا بدّ من عقاب لمن ينتهك النظام والقانون.
هذه مقدمات بدهية، [فالمحرم لا بدّ أن يكون ممنوعاً ] و [الممنوع لا بدّ أن يجازى من ينتهكه] وقد يسقط عنه العقاب، لكن لا يمكن إسقاط العقوبة مطلقاً عنه، لأنّ إسقاطها مطلقاً يعني أنّك تمنع الناس من شيء وتبيح لهم في نفس الوقت أن يفعلوه مراراً وتكراراً من دون أن تفعل شيئاً، وهذا يؤدّي تلقائياً إلى أن لا يكون ممنوعاً، وحينها يكون مثل المباح مثلاً بمثل، وهذا منافٍ تماماً ومناقض لمقصود الشريعة من جعله منكراً.
مثال يوضّح المقصود: فحين تحرّم الدولة نظاماً أن يقطع الإشارة وهي حمراء، فلا بدّ أن يكون ثمّ نظام وقانون يمنع مثل هذا الأمر، وحين يقع الشخص في المخالفة فلا بدّ من مجازاته، وقد تسقط عنه العقوبة لأي سبب كان لكن لا يمكن أن تمنع الدولة شيئاً من دون أي جزاء، لأن معنى هذا أن يقطع الإنسان الإشارة مرة وعشرين وألف من دون أي جزاء، وهذا يجعل قطع الإشارة كمثل أي شيء غير ممنوع فلا قيمة لكونه ممنوعاً، وحين لا يكون ممنوعاً فيكون إذن من قبيل المباحات تماماً.






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس