عرض مشاركة واحدة
قديم 22-11-2012, 01:46 PM   رقم المشاركة : 2
ملكة الرومنس
( مشرفة العام والمكتبه الادبيه )
 
الصورة الرمزية ملكة الرومنس



4- الفلسفة وعلم الكلام:
هل تكون لدى الفلاسفة المسلمين عقلانية علمية من نوع ما، وللإجابة على هذا السؤال نقدم نموذجين من الفلاسفة هما:
أولاً: الفلاسفة الذين تبنوا العقلانية الصورية، فهؤلاء اعتقدوا بإجماع أنّ المنطق منهج مناسب للفيلسوف، وهو علم دقيق محايد يرتبط بقضايا الفكر، وقواعده صحيحة، ويمكن أنْ يساعدنا في ضبط تصوراتنا الفلسفية، وذهب بعضهم إلى ضرورة استخدامه أيضاً في العلوم الاختبارية، بصورة واضحة، إذ يعتبر من المسلمات الرئيسة في العلم، ومناهجه لا غنى للعالم أو الفيلسوف عنها، ولم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، بل تجاوز بعضهم ذلك إلى حد الاعتقاد أنه كافٍ بذاته على صعيد الفلسفة.

ومعروف أنّ المنطق الأرسطي يتضمن قضايا ميتافيزيقية مضمرة فضلاً على أنّه بالقوة يدفع إلى التقليد الميتافيزيقي، فهو ابتداء مبني على نزعة واقعية في الكليات، وهذا ما لم يتنبه إليه هؤلاء الفلاسفة، فقد تصوروا أنّ نظرة أرسطية للكليات سليمة، فهو يُّقر أنها موجودة على مستوى الأذهان، لكنّ لها وجوداً بالقوة على المستوى الخارجي، وهذا الحل لم يخرجنا من النزعة الواقعية للكليات، فضلاً عن أنّ عوامل الإضافة والتركيب على مستوى العقل تدفع بهذه الكليات إلى مسافات بعيدة يصعب التحكم فيها، ومن ثم تساهم في بناء عوالم غيبية مختلفة، وهي بشكل أو بآخر مسؤولة عن نظرية الفيض بأشكالها كلها، ومقولة العقل الفعّال، ونظرية عشق العالم للإله، وحياة النجوم... الخ.

كان هؤلاء يتصورون أنّ ما وصلوا إليه صحيح من الناحية الاستنباطية، لكن إذا اعتمدنا هذا المعيار فقط، فكل القضايا الميتافيزيقية تتساوى في الصدق والكذب، إذ لا معيار يمكن أنّ يحسم بينهما، ومن هنا كانت نظرة ابن حزم النافذة بضرورة الالتزام بإمكانية رد هذه الأفكار إلى قضايا حسيّة أو عقلية بسيطة أو إلى دليل بواسطة التجربة، لكن معظم هؤلاء الفلاسفة لم يقبلوا بوجهة النظر هذه، رغم أنهم كانوا يعتقدون بإجماع بأنّ قانون السببية يحكم العالم.
لكنّ المشكلة هي في طريقة البرهنة على السبب، ومعظمهم كانوا يلجأون هنا إلى تقسيمات تحكمية لا مسوغ لها، كما هو الحال في مسألة الواجب والممكن، وبهذا أصبح عالم الأفكار لديهم مطابقاً للعالم الخارجي، وتحوّل الكلي من تعميم منهجي لغايات الفهم إلى كلي مطلق هو الأصل، وأصبحت الماهية المنجزة قانوناً صارماً خارج الزمان، وعلى الواقع أنْ يتطابق معها، مما يشكل عقبات رئيسة أمام نمو المعرفة العلمية. وقد ارتبط بهذه النزعة موقف محدد تجاه العقل، فهو يمتلك صلاحيات مطلقة في البحث في الشؤون الميتافيزيقية!

ثانياً: يختلف الفلاسفة الذين ينتمون إلى هذا الأنموذج عن الفلاسفة السابقين، فهؤلاء قبلوا المنطق كمنهجية للفيلسوف، لكنهم لم يقبلوا النتائج التي أُنجزت فلسفياً من الفلاسفة السابقين، بل يعتقدون أنهم لم يلتزموا كثيراً بالمبادئ المنطقية وخالفوها، التأويل أحياناً وقد نبّه ابن رشد تحديداً إلى أنهم انطلقوا من عالم ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة، أي من عالم الأفكار لبناء عالم الوقائع، وهذا ليس صحيحاً، فالأصل أن تكون مبنية استناداً إلى عالم الوقائع، لكن قبل ابن باجة وابن رشد المنطق دون القيام بأية عملية تقويمية له، اقتناعاً منهم بصدق الصورة الأرسطية، ولم يأخذ الاثنان بمحاولة ابن حزم الذي أجرى تعديلاً جريئاً له في ضوء تبنيه للنظرة الإسمية، ومن ثم على مستوى نظرية الحد لم يعد ابن حزم يسعى للبحث عن الماهيات، والكليات عنده أسماء لا غير، وتميز هؤلاء الفلاسفة بمسألتين، فرقتا بينهم وبين السابقين:ـ
أولاً: لم يمنحوا العقل صلاحيات مطلقة للبحث في الشؤون الميتافيزيقية وفرض ابن حزم الحظر المطلق عليه، أمّا ابن باجة وابن رشد فقبلا فيما يبدو تحديداً جزئياً له، إذ في ضوء هذا نفسر رفضهما لنظرية الفيض والعقول.
ثانياً: تبنى هؤلاء الفلاسفة مبدأ الفصل بين الدين والعقل، فهما نسقان مختلفان من حيث المبدأ، ولم يقبلوا بتأويل الفارابي أو الإلغاء السينوي المشرقي، واختلفوا في تصوير طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بينهما بعد الفصل، فقد أعطى ابن حزم دوراً محدداً للعقل في الخطاب الشرعي وتجاوز ابن رشد الحدود عندما منح العقل صلاحيات مطلقة في تأويل النص باعتبار أنّ أهل البرهان هم الأقدر على فهمه، وقد رفض الموقف الرشدي من اللاحقين مثل الشاطبي وابن تيمية.

يعتبر هذان المبدءان من المبادئ الرئيسة في العقلانية العلمية، وهو الذي دفعنا إلى تمييزهم عن السابقين فهم حقاً تبنوا العقلانية الصورية، لكنهم رفضوا التأويل الفلسفي الذي قدمه السابقون، وتجاوز ابن حزم الآخرين بصورة خاصة، ويمكن اعتباره نموذجاً لوحده على العقلانية العلمية بين الفلاسفة، وذلك بتبنيه عدداً من القضايا الرئيسة فيها، وهذه القضايا الحزمية هي:
أولاً: قَبِلَ ابن حزم مكتسبات العقلانية الصورانية، وبخاصة المنطق ومبدأ السببية، وهو يقبل هذا الأخير بصورة تامة، فكل التفسيرات عنده سببية، أمّا المنطق فهناك ضرورة في إعادة بناءه من جديد، في ضوء النظرة الاسمية للكليات، ويقبل القياس من حيث هو آلية للبرهان.
ثانياً: الفصلُ بين عالم الغيب وعالم الإنسان، والإنسان لا يستطيع معرفة قضايا عالم الغيب، وإنما مجاله الخاص به هو عالم الإنسان، لذلك نادى بحظر النشاط الميتافيزيقي على العقل بصورة تامة.
ثالثاً: المعرفة ممكنة، لكن يجب أنْ يدعمها دليل، بمعنى أنّ القضية الصادقة لابد أن يدعمها على الأقل دليل واحد من الأدلة العلمية الأربعة وهي:
1- أوائل الحس. 2- أوائل العقل. 3- التجربة. 4- الخبر الصادق.
وكلُّ قضية مركبة يجب أن يكون بإمكاننا تحليلها إلى قضايا بسيطة مدعومة بهذه الأدلة، فإذا لم يتوافر هذا الشرط، فالقضية كاذبة.
رابعاً: الفصل بين الدين والعقل، ولا يجوز إلغاء أحد الطرفين لمصلحة الآخر، فهما نسقان مختلفان، ودور العقل في الخطاب الديني لا يتعدى المساندة والفهم والتمييز.
خامساً: رفض كل القضايا الأسطورية التي لا دليل عليها مثل عقول النجوم، وأفعال السحر.
تصور هذه القضايا الصورة الأولى للعقلانية العلمية في الفلسفة الإسلامية، ونحن لا ندعي كمالها، وإنما ستتطور، عند اللاحقين وهي تشهد بأنّ حقل الفلسفة قد تأثر بالعلوم الاختبارية والعقلانية العلمية عند ابن حزم هي نتاج مباشر لهذا التأثير.

5- المعرفة العلمية:
رفض ابن تيمية وابن خلدون الفلسفة المستندة إلى المنطق الصوري كمنهجية للفيلسوف، وهذا الرفض هو موقف فلسفي وينبع من فلسفة مارسها الاثنان، وإن لم يعطيا لها اسماً، ووجدنا أنّ التسمية المناسبة لهذه الفلسفة هي "العقلانية العلمية".
فكلاهما نادى بأنّ الأساس الأخير للمعرفة هو العقل، لكنّ هذا العقل ليس العقل الذي نجده في العقلانية الكلامية أو العقلانية الصورية، وإنما العقلُ كما نجده في المعرفة العلمية، ومن ثم هي فلسفة تتحدد بعلاقاتها بالعلم ابتداءً، فهي تقبل قضايا العلم الصادقة، والمنهجيّة المتبعة فيه، وتستثمرها في حقول مختلفة باعتبارها المنهجية الأمثل للبحث، وعلى الصعيد المنطقي تلتزمُ بمنطق لا يخالف مبادئ المعرفة العلمية، وتلتزم بمبادئ ستة رئيسية، تكون البنية العميقة لهذا الخطاب، وهي:
أولاً: مبدأ مصادر المعرفة الأربعة:
ذهب الاثنان إلى أنّ المعرفة هي نتاج تكامل بين الحس والعقل وما يبنى عليها مثل التجربة والأخبار الصادقة، وهذه هي مصارد المعرفة العلمية، ومصادر كل معرفة صادقة ممكنة، وبهذا قال الجاحظ، وابن الجوزي، والشاطبي والمعري وابن حزم وغيرهم كثيرون.
ثانياً: مبدأ حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل:
يذهب الاثنان إلى أنّ موضوع المعرفة [الإنسانية] هو العالم المادي الذي نصل إليه بالحس والعقل والتجارب، وينبني على هذا أنّ مجال العقل الذي تظهر فيه فعاليته هو هذا العالم. فالمعرفة ممكنة للإنسان لهذا العالم، ويمكن أنْ نصل إلى قضايا صادقة بشأنه. وينبني على هذه المسألة قضيتان:
أ- هناك عالمان على الصعيد الأنطولوجي، هما: عالم السماء [الغيب] وعالم الإنسان.
ب- حدود مجال العقل وفعاليته هي عالم الإنسان، أمّا عالم السماء فلا يستطيع العقل أنْ يقدم معرفة يقينية بشأنه، لأنه يقع خارج مجال فعاليته.
ومن ثم نادى الاثنان بضرورة الفصل المنهجي بين العالمين، وتقييد مجال العقل في هذا العالم، وحظر النشاط الميتافيزيقي عليه، وبهذا نادى ابن حزم وابن خلدون، والشاطبي والمعري.
ثالثاً: مبدأ ضرورة الموضوعية في المعرفة:
ذهب الاثنان إلى أنّ عالم الإنسان يخضع لمبدأ السببية، فهناك أسباب ومسببات على الصعيد الأنطولوجي، وعلينا الوصول إلى التفسيرات السببية على الصعيد المعرفي. ويجب من ثم أن يصل الآخرون إلى النتائج ذاتها، لأنّ المعرفة بطبيعتها غير ذاتية، والمعرفة العلمية بالذات تتسم بهذه السمة فهناك إمكانيةٌ للتحقق من نتائجها من قبل آخرين، أمّا المعرفة الذاتية التي تبقى حبيسة ذات العارف، فلا تستحق أن تسمى معرفة، وهذه هي الموضوعية في المعرفة.
رابعاً: مبدأ الفصل بين عالم السماء والإنسان:
يذهب الاثنان إلى أنّ عالم السماء لا يمكن معرفة تفاصيله بالعقل، وقصارى ما يمكن الوصول إليه هو إثبات الوجود الإلهي، أمّا ماهية هذا الوجود وصفاته فلا يمكن معرفتها بالعقل، وهي عموماً موضوع الدين. وبهذا قال الشاطبي وابن الجوزي.
خامساً: مبدأ الفصل بين الأنساق الثلاثة:
نادى الاثنان بضرورة التمييز بين أنساق ثلاثة: الفلسفة والعلم والدين فهناك اختلافات بين هذه الأنساق في الموضوعات والوسائل والغايات، ويجب إلا يتم إلغاء أحدِها لصالح الاثنين الآخرين. بمعنى أنّه لا يجوز تحميل الخطاب الديني تأويلات فلسفية لا تمت له بصلة أو نقوم بتأويله علمياً، إذ ليس الدين من حيث المبدأ علماً [بالمعنى الوضعي] أو فلسفة، وهذا يعني بصورة أخرى الاعتراف بشرعية الأنساق الثلاثة وهذا ما نجده عند ابن حزم وابن رشد وابن الجوزي والشاطبي.
سادساً: مبدأ الالتزام بالروح العلمية:
يذهب الاثنان إلى أنّ هدف المعرفة من حيث المبدأ بلوغ الحقيقة بغض النظر عن الأهواء والانفعالات الذاتية. ومن ثم دعا الاثنان إلى ضرورة نبذ الاعتبارات الأسطورية والسلطوية والمصالح الذاتية، والأهواء والخرافات وكل ما من شأنه أنْ يقف حائلاً دون بلوغ الحقيقة.
والعمدة في آخر المطاق على الدليل، أمّا التصوف فقد قبله الاثنان شريطة أن لا يخالف ما هو معلوم بالتجربة أو بنصوص الدين المقدسة [الثابتة]، ويجب أن يبقى تجربة ذاتية، تتعلق بالعابد نفسه، وهذه التجربة هناك صعوبة في التعبير عنها لغوياً ومن ثم تحويلها إلى معرفة ممكنة، وبهذا قال ابن الجوزي أيضاً.
وقف ابن تيمية وابن خلدون على العلوم الاختبارية في عصرهما، وأدركا بوضوح بالغ طبيعة المعرفة العلمية، من حيث هي نتاج إنساني، ليس مصدره العقل الفعال أو الله [تعالى] أو أية قوة كونية أخرى. وهي ليست ثابتة بصورة مطلقة، وإنما قابلة للتعديل والتطوير، في ضوء تحسن أدواتنا، ووسائلنا وقيامها ابتداءً على أوليات الحس والعقل، والتجارب المستندة إليها. وأنّ المعيار الحاسم في قبول القضية العلمية هو التجربة، فهي القادرة على التحقق من صدق فروضنا، فما ثبت بالتجربة يجب قبوله والاعتراف به، وما عدا ذلك يبقى في دائرة الفرض الذي لم يتحقق، ومن ثم لا نستطيع الحكم عليه بالصدق، وبهذا تقدمت المعرفة العلمية، وحصل الاتفاق بين المشتغلين فيها، وفي ضوء هذا الوعي حاكم الاثنان الخطاب الفلسفي السائد، فقضاياه لا يمكن أنْ نتحقق من صدقها مثل قضايا العلم الاختباري [السبيل الوحيد لها هو النقل]، فهم قد حكموا معايير المعرفة العلمية في نقد الخطاب الفلسفي، ومن ثم قادهم هذا إلى نقدِ المنهج المنطقي باعتباره الأداة التي أَنتجت المعرفة الفلسفية.

انطلق الاثنان من التسليم بحقل العلوم الاختبارية والدفاع عنه، ومن داخله قام الاثنان بنقد الخطاب الفلسفي ومنهجه، فالخطاب الفلسفي يجبُ أنْ لا يُناقض المعرفة العلمية، وعليه أنْ يتبنى معاييرها. وفي ضوء هذا النقد تبنى الاثنان فلسفةً تلتزم بقواعد العلم وتنطلق منه، ومن هنا، كان المنطق الاسمي امتداداً للمعرفة العلمية، فالتسمية والتدليل هما الامتداد الطبيعي للمنهجية العلمية، فهما يُقدمان لنا معرفةً نسبيةً حول تجاربنا عن عادات الموجود بلغة ابن تيمية. والعلمُ قد حققَّ إنجازاته بفضل هذه المنهجية التي تلتزمُ بالعالَمِ المُعطى كحقلٍ للمعرفة العلمية، فهو لا يحدثنا عن عالمٍ مفارق، ولا يدَّعي أنَّ بإمكانه معرفة تفاصيل هذا العالم، ومن هنا علينا الالتزام بهذا على الصعيد الفلسفي، بمعنى أنَّ علينا أنْ نلتزمَ بالعالم كموضوع للمعرفة الفلسفية، وأنْ نُسلمَ بحدود العقل في إطار حدو هذا العالم، وفرضُ حظر النشاط الميتافيزيقي على العقل، وبهذا كانت الفلسفةُ التي تبناها الاثنان من إنجاز العقل النظري أو الفلسفي، والتأسيس الفلسفي بهذا النهج قد تم انطلاقاً من معطيات العقل النظري.

لم يكتفِ الاثنان بالنتيجة السابقة، وإنما انطلقا بعد ذلك إلى معالجة الخطاب الديني، وبالطبع كان من الممكن لهما أنْ يتوقفا عند حدود إنتاج العقل الفلسفي، ومتابعة النشاط الفلسفي على هذا المستوى. لكنْ هناك خطابٌ موجود وهو الدين، وبالنسبة لهما هذه الفلسفة لا تناقض الدين أساساً، بمعنى إذا انطلقنا من داخل الخطاب الديني، فهذه الفلسفة لا تناقضه، ومن ثم لا مشكلة على هذا الصعيد، وإنما المشكلة هي: هل يخالف الدين قواعد العقل الفلسفي الذي يقوم على التسمية والدليل والبرهان،، أي إذا انطلقنا من داخل حقل العقل الفلسفي إلى الدين؟

إذا حكمنَّا معايير العقل النظري في الخطاب الديني فلا مهرب من هذا التناقض، فعالم الغيب الذي يتحدث عنه الدين، لا يمكن أنْ يختبر على صعيد العقل الفلسفي [الوضعي]، ومن ثم أخذَ الاثنان بضرورة الفصل [أو التمييز] بين الخطابين، ومن ثم الاعتراف بشرعيتهما، وضرورة أنْ لا تحاكم القضية إلاّ في ضورة معايير النسق الذي تنتمي إليه. ومن ثم الإيمانُ بالغيب قضيةٌ صادقةٌ على صعيد العقل النقلي، ولا يجوز تطبيق معايير العقل الفلسفي [الوضعي] عليها.
لم يُقبلْ الخطاب الديني اعتباطاً، فقد قام الاثنان بتسويغه عقلياً، أمّا ابن خلدون فقد لجأ إلى نظرية الاتصال، وأمَّا ابن تيمية فقد دعا إلى ضرورة دراسة ظاهرة النبوة ابتداءً، فالنبوة ليست محصورة بالنبي محمد (r)، وإنما هي ظاهرة موجودة عند آخرين [قبله]، ومن ثم يمكن دراسة هذه الظاهرة درساً علمياً، والنبوة تثبت بالمعجزة، وهناك شهادات لا يمكن الطعن فيها على وجود هذه المعجزات، ومن ثم لا مهرب لنا من قبولها. فإذا سلّمنا بذلك، فتلك هي بداية شرعية الخطاب الديني الذي قبل على أساسه. فإذا سلمنا بشرعية هذا الخطاب فعلينا فيما بعد أنْ لا نحاكمه إلاّ في ضوء المعايير التي يقدمها، تمثل الصورة السابقة، مبادئ العقلانية العلمية الستة التي قبلها الاثنان، وهذه الصورة هي الأكمل عبر ستة قرون، وصحيح أنّ بعض هذه المبادئ وجد عند السابقين، لكنها لم توجد بصورة مكتملة عند أحدهم، ولم تعالج بصورة كافية.

لا يعني هذا بالطبع أنّ هذه المبادئ هي كل مبادئ العقلانية العلمية، الموجودة لدينا في الوقت الحاضر، وإنما لا شك في أنهم قد تقدموا في هذا المجال وقطعوا فيه أشواطاً طويلة جداً ولم تقف جهودهما عند حدود إدراك مبادئ العقلانية العلمية، وإنما انخرط الاثنان في الممارسة العلمية بصورة مباشرة، فاشتغل ابن تيمية في إعادة بناء علم المنطق على أسس جديدة، أمّا ابن خلدون فأعاد تأسيس علم التاريخ، واكتشف علماً جديداً هو علم العمران.
كانت القضية الرئيسة التي انطلق منها ابن تيمية في إصلاح المنطق هي إعادة النظر في الكليات، فاستناداً إلى أفلاطون يوجد للكليات وجود موضوعي مفارق للذات. وقد تنبه أرسطو إلى هذا الأمر، وقام بنقده، لكنه أعطى الكلي أيضاً وجوداً واقعياً وإن كان مختلفاً عن الوجود الأفلاطوني، فهو يتحدث عن وجود بالقوة للكلي، ويجعله مكافئاً للصورة، وهي محايثة للمادة، وهذه الحلول الأرسطية لم تخرج عن دائرة التصور الواقعي للكلي، وقد تبنى الفلاسفة الإسلاميون التصور الأرسطي من الكندي حتى ابن رشد باستثناء ابن حزم. الذي كان له موقف مختلف عنهم. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للموقف الأرسطي من الكلي، إلا أنّ الفلاسفة الإسلاميين اعتقدوا بصواب الموقف الأرسطي، وقد رفض ابن تيمية وابن خلدون هذا الأمر تماماً، فالكليات لا وجود لها إلا في الذهن، والكلي الذي ليس له أصل في عالم الحس يجب رفضه، والكائنات الميتافيزيقية التي وصل إليها الفلاسفة، هي كليات لا أساس لها في عالم الحس، ومن ثم يجب رفضها لأنه ليست من وظيفة العقل إدارتها. وقد بُنيت نظرية المعرفة الأرسطية على أساس موقفه من الكلي، فالمعرفة تصورات نصل إليها بالتعريف بالحد، والذي يصور ماهية الشيء المعرّف، وتصديقات نصل إليها بالقياس.

وقد أنكر ابن تيمية ذلك تماماً، فالحد لا يصور ماهية الشيء وإنما وظيفته اسمية تماماً، بمعنى أنه مثل الاسم وظيفته التمييز بين الأشياء، والماهية تقوم على التمييز بين الصفات الذاتية والصفات العرضية للشيء، وهذا التقسيم مفتعل فلا يوجد معيار حاسم على هذا المستوى. أمّا القياس، فقد شدّد ابن تيمية على أنّ ما نصل إليه من معرفة بواسطته يمكن أن نصل إليه دون ذلك، والشروط الموضوعية له يجب إعادة النظر فيها، وقد طوّر ابن تيمية هذا الأمر إلى نظرية الاستلزام. وقد تبنى ابن خلدون القضايا الرئيسة التي أثارها ابن تيمية، فهو لم يكن منشغلاً في إعادة بناء العقل النظري مثل ابن تيمية، وإنما كان مشغولاً في إعادة بناء العقل العملي استناداً إلى البنية النظرية ذاتها.


أمّا ابن خلدون، فقد أعاد اعتبار لعلم التاريخ، فبعد أنْ كان ملحقاً بالعلوم النقلية، قام بإرجاعه إلى حظيرة العلوم العقلية، وانشغل في المعاير التي يجب اللجوء إليها للتحقق من صدق الواقعة التاريخية، ولم يكتف بموازين الجرح والتعديل. وإنما بين أنّ المهمة الأولى يجب أن تكون مطابقة الخبر للقوانين التي تحكم الحياة الاجتماعية، والعلم الذي يبحث في هذه القوانين هو علم العمران، لكنّ هذا العلم لم يقم بتأسيسه السابقون، ومن ثم ندب نفسه أيضاً لإنجاز هذا الأمر، ومن هنا، أسس ابن خلدون علم العمران، ليكون مساعداً لعلم التاريخ، ومن الجدير بالذكر أنّ القوانين الاجتماعية يمكن الوصول إليها عبر الملاحظات والتجارب. ويمكن النظر إلى "المقدمة" باعتبارها تمثل الممارسة العلمية الحقيقية لابن خلدون. ونحن لا ندعي اكتمال هذه التجربة، ولكن ما يهمنا هو الروح العلمية التي تحلى بها والعقلانية العلمية التي وجهت خطابه في هذا المجال.

لا شك أنّ ابن تيمية وابن خلدون قد تأثرا بالعلوم الاختبارية، وأنّ العقلانية العلمية التي حكمت خطابهما جاءت بفعل هذا التأثير بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهي نتاج تطور مستمر خلال القرون السبعة السابقة. وهي تمثل الصيغة الأكمل في تراثنا




المؤلف: محمد أحمد عواد