أخي أبا خالد كم يشجيني أن يصدر كتابي الذي كنت تسألني عنه دائماً فيما مضى دون أن تكتحل عيناك بمرآه بل كم تبكيني تلك الليالي التي كنا نتحدث بها عن الفراق الذي كنا نخافه والذي تجرعنا غصصه وآلامه بعد أن كان شبحاً نخشى مجابهته .
أخي بربك أخبرني عن ألم الموت وأيهما أشد وخزاً وألماً هو أم الفراق فقد تجرعت كليهما بموتك في دار غربة بعيداً عن أهلك وأصحابك فأنبئني بربك عنهما فقد حيرني أمرهما.
أتعلم يا توأم روحي أني عندما أنظر إلى بقايا متاعك الذي بقي ذكرى بعد رحيلك تلتهب بقلبي ناراً لم يخمد أوارها ولن يخمد .
لقد كنت فيما مضى أشرب الماء القراح فأخاله شهداً لما كنت أشعر به من السعادة والحبور أما اليوم فلا فرق عندي بينه وبين العلقم .
لقد كنت فيما مضى أستغرب من الذين يبكون على من مات وأقول لقد ذهب إلى رحمن رحيم فلم البكاء والجزع وهل نحن إلا ودائع ولابد يوماً أن تسترد الودائع فابك على نفسك إن كنت باكياً .
أما بعد رحيلك فقد تجرعت الحرقة التي يخلفها فقد من نحب فوربي إني لأستغرب من الذي لا يبكي على حميمه بل أرى أنه لو بكى دماً بدل الدموع لما برحته اللوعة التي تخفق بين جوانحه .
أخي لا أعلم أي نسمة تهب عليك فأبلغها سلامي وأشواقي ولا أعلم بأي وهدة وضعوا جسدك المخضب بالدماء الذي بعته ممن سيوفيك ثمنه غداً برحمته لأزورك وأبكي وأنتحب أمام قبرك لترى حال أخيك الذي فارقته وأسلمته للشجى وسهر الدجى .
أخي كم تمنيت لو كان عمري بيدي فوربي لأشاطرنك إياه وكم تمنيت لو أتاني أجلي قبلك وكنت المبكي عليه بدل الباكي والمشكي إليه بدل الشاكي ولكنها إرادة مدبر الأفلاكِ .
كنت فيما مضى أسمع بالصاب والعلقم والحنظل ولا أعرفها أما اليوم فقد أصبحن دأبي وديدني في معيشتي .
عندما أجلس على مائدة الطعام أرى مكانك خالياً فتجيش بي الأحزان وتتلاطم بقلبي أمواج الذكرى فتعاف نفسي الأكل وأنهض وكم من مرة انسابت أدمعي على خدي أمام أهلي فجاشت بهم الأحزان وثارت الذكرى فواأسفي عليك من فقيد لم أجد عنه عوضاً .
أتذكر يا توأم روحي مقولتك عندما قلت أي أخي أبا بسام هل سترثيني بعد موتي فوربي إني رثيتك بدموع عيني ودماء قلبي ونفثات صدري قبل قطرات حبري ولبنات فكري وأبيات شعري .
ورافع السماء بلا عمدٍ ترى وجاعل الأرض مهاداً للورى أني أتمنى لو وسدت بجانبك الثرى .
أترى ذلك النهر الرقراق الذي تحفه الزهور من جميع جوانبه لقد نضب نميره وذوت أزاهيره وهجرته الطيور وأصبح بلقعاً بور .
لا أرى بعدك فرحاً يولد بل أرى سروراً يوأد وشجناً يتجدد وألماً على قلبي يتردد .
لم أكن فيما مضى أبكي إلا نادراً أما بعد رحيلك أصبحت كثير البكاء والنشيج ولقد هاتفني أخي ونعاك إلي وكنت في مكان يعج بالناس فتصدع كياني وتزلزل جناني وانفجرت باكياً لقد مات عضيدي وسندي وأخنى عليه الذي أخنى على لُبَدِ ووراه الثرى إلى الأبدِ ولن أراه ولو طال أمدي وفتك بي حزني وكمدي .
عندما أرى طائرين فوق فنن تهطل عبراتي وأناجيها بقولي أسعفاني بعبرة وترنيمة فقد جفت دموعي وبح صوتي .
سأذكرك مع هبات النسيم وقطرات الندى وشروق الشمس وتغريد الطيور وضحكات الطفولة .
سأذكرك مع ضياء القمر وزخات المطر وترانيم الطيور وقت البكور .
سأذكرك ما هبت نفحات الأسحار وتمايلت على نسمات الصباح الأزهار وتعاقب الليل والنهار .
سأذكرك لو طالت المدد وبرّح بي الشوق والكمد حتى تفارق الروح الجسد .
إذا طوتني الحتوف وقدمت أمام الصفوف ونضب الدمع المذروف فاذكروا ذلك الطفل الذي قدم إلى الدنيا في ليلة شديدة الغيهب ودرج على الدنيا ودأب وعاش بين هم ونصب .
اذكروا ذلك الطفل الذي فارق صباه فاشتاق وحن إليه وتاق ولم يجد الترياق .
اذكروا ذلك الطفل الذي غرس أول زهرة في بستان الحب النضرة وهو في الخامسة من العمر وواراه القبر ولم ينل من عبق وأريج الزهر .
اذكروا ذلك الطفل الذي عشق وهوى وتجرع غصص الفراق والنوى وعلَّ من نبع الهجر وارتوى .
اذكروا ذلك الطفل الذي بث شكواه وسامر النجم وناجاه ولم ينل مراده بدنياه حتى أصابه سهم الموت فأرداه .